التصعيد الحالي للصراع في فلسطين، والمتسم بتكثيف الهجمات والإبادة الجماعية والعرقية التي ترتكبها إسرائيل، يثير حاجة ملحّة لإعادة النظر في تأمّلات الفيلسوف هربرت ماركوزه (1898-1979)، عضو مدرسة فرانكفورت للنظرية النقدية، والمعروف بتنظيره لليسار الراديكالي وحركات اليسار الجديد ونقده الحاد للأنظمة القائمة. في سياقٍ تاريخي يعود إلى عقود مضت، تعتبر العلاقة المعقّدة بين هاتين “الدولتين” أساسية لفهم أصول “الصراع” وآفاقه المستقبلية.
هربرت ماركوزه، الماركسي الألماني الذي واجه المنفى في الولايات المتحدة بسبب النظام النازي، بنى رؤيته لإسرائيل والصهيونية على حسٍّ سياسي نشأ من القمع الذي عاشه كيهودي خلال الفترة المظلمة من المحرقة. وهكذا فإن علاقة هربرت ماركوزه بإسرائيل تخلّلها بُعد “عاطفي” و”شخصي”، شكّلته ندوب الماضي. من خلال اعتباره تأسيس دولة إسرائيل شرطاً لأي حلّ سلمي “للصراع” الإسرائيلي الفلسطيني، اعترف ماركوزه بالمظالم الكامنة في إنشاء الدولة اليهودية. وجهة نظره، التي عبّر عنها في الستينيات والسبعينيات، تحمل أصداء المعضلة التوفيقية بين عدم الشرعية التاريخية لتأسيس إسرائيل والحاجة العملية لضمان الأمن اليهودي في مواجهة عالم مُعادٍ.
“عالم عربي حرّ يتعايش مع إسرائيل حرّة”
في هذا الصدد، توفّر المقابلة التي أجراها الفيلسوف لصحيفة “جيروزاليم بوست” في يناير 1972، والمحفوظة في أرشيفه في فرانكفورت، نافذة على عمق أفكاره وراهنيتها. أثارت المقابلة، التي تُرجمت إلى اللغة العربية، جدلاً حاداً، كما يتضح من كلمات رئيس بلدية نابلس آنذاك (1963-1969) حمدي كنعان: “بالنسبة إلي، أرى فيك الشخصية اليهودية الأولى التي تعترف عملياً بالظلم الكبير الذي ارتكب ضد العرب الفلسطينيين مع إنشاء إسرائيل، والتي، في الوقت نفسه، تفهم بشكل كامل ومنطقي الظروف الحالية والمستقبلية التي توجد فيها إسرائيل وسوف توجد في هذه المنطقة”.
شهدت فترة الستينيات حرب الأيام الستة أو نكسة حزيران، وهو الحدث الذي أدّى إلى إعادة تأكيد القوة العسكرية والسياسية الإسرائيلية في المنطقة. أصرّ ماركوزه، المنتبه لهذه الديناميكية، على ضرورة نشر الحرية من دون تبنّي أشكال إمبريالية. وعلى حدّ تعبيره، “وحده عالم عربي حرّ يمكنه التعايش مع إسرائيل حرّة”. هذه الرؤية، المرتكزة على تجربة القمع في ظلّ النازية، عكست بحث ماركوزه عن التعايش السلمي بين إسرائيل والدول العربية المحيطة بها في مناخ صحّي وآمن.
كان الفيلسوف من أنصار حلّ الدولتين، واقترح إنشاء دولة وطنية فلسطينية إلى جانب إسرائيل، معتبراً ذلك خطوة أساسية نحو التعايش. ورغم ذلك، بعد مرور 50 عاماً على تفكيره، ما زال تنفيذ هذا الحلّ بعيد المنال، بفضل سياسات وحكومات صهيونية متعاقبة ميّزت التاريخ اللاحق بصراعات متقطعة ومفاوضات مجهضة وتغييب مستمر لفرص السلام الدائم.
الآن تبرز فترة عشرينيات القرن الحالي، وتحديداً العام 2023، كنقطة تحوّل في هذا السياق التاريخي. فالإبادة الجماعية الإسرائيلية للفلسطينيين، التي بدأت منذ 7 أكتوبر الماضي، تسبّبت في إذكاء نيران الصراع الذي بدا وكأنه لم يستسلم للمحاولات السابقة لحلّه. التفوّق العسكري الإسرائيلي، الذي ذكره ماركوزه كعاملٍ يتطلَّب مسؤولية إضافية في السعي إلى التعايش، يتجلّى الآن بطريقة أكثر وضوحاً وفداحة.
يعمل التاريخ بمثابة سرد معقَّد للتوترات والتطلعات والتحديات. ويظلّ حلم ماركوزه بإقامة “فدرالية اشتراكية لدول الشرق الأوسط”، حيث يتعايش الإسرائيليون والفلسطينيون على قدم المساواة، رؤيةً بعيدة المنال و”طوباوية” كما وُصفت آنذاك. ومع ذلك، تظلّ رؤيته دعوةً صالحة للنضال من أجل الأمن والحرية في منطقة تتسم بالاضطرابات التاريخية. ووفقاً للفيلسوف، فإن التعايش بين الشعبين لا يمكن أن يحدث إذا قُمعت إحدى هاتين “الأمّتين” من قِبل الأخرى.
ونظراً للسيناريو الحالي، فمن الضروري دمج المنظور التاريخي في التحليل النقدي لمسألة الاحتلال الإسرائيلي. يعدّ فهم الجذور والتطورات والإخفاقات بمرور الوقت أمراً ضرورياً لتوجيه المحاولات المستقبلية لحلّ المشكلة. تأملات ماركوزه، المرتكزة على تجربته التاريخية، تقدّم بوصلة أخلاقية وسط تعقيد هذا الصراع المستمر منذ عقود. وتتجلّى وجوه عدم التماثل بين إسرائيل وفلسطين، من حيث القوة العسكرية والسياسية والاقتصادية، في هذا السياق، مما يؤكّد الحاجة إلى مقاربات تأخذ في الاعتبار العدالة التاريخية وعدم المساواة الحالية.
حلول وهواجس
كان العام 1971 بمثابة علامة فارقة في حياة هربرت ماركوزه عندما دُعي لإلقاء محاضرات في الجامعة العبرية في القدس، وقام بزيارة إسرائيل للمرة الأولى. وقد سمح له هذا الحدث بمواجهة تعقيدات القضية الفلسطينية بشكل مباشر، والتحاور مع السكّان المحليين، العرب والإسرائيليين. المقابلة الناتجة، التي نشرت في “جيروزاليم بوست” في 2 يناير 1972، تضيف طبقة مهمة لتأملات الفيلسوف.
في هذه المقابلة، اعترف هربرت ماركوزه بالظلم الذي تعرَّض له السكّان العرب الأصليون أثناء إنشاء دولة إسرائيل في 1948. ويشير إلى أن تأسيس الدولة اليهودية كان يعني ضمناً التهجير القسري جزئياً للسكان الفلسطينيين. بالإضافة إلى ذلك، تحوّل العرب ممن بقوا في إسرائيل إلى وضع اقتصادي واجتماعي كمواطنين من الدرجة الثانية، على الرغم من الحقوق المُعترف بها رسمياً.
يسلّط تحليل ماركوزه، المستند إلى المنظور التاريخي، الضوء على أن أصول دولة إسرائيل لا تختلف جوهرياً عن إنشاء دول أخرى في التاريخ، تنطوي على الغزو والاحتلال والتمييز. وحتى موافقة الأمم المتحدة، رغم أنها صادقت في الواقع على الاحتلال، لم تغيّر جوهر الوضع، لأن العمل السياسي الذي أدّى إلى إنشاء إسرائيل كان مدعوماً من القوى العظمى في ذلك الوقت.
تناول الفيلسوف هشاشة الحلّ العسكري وضرورة عقد معاهدة سلام مع الجمهورية العربية المتحدة (مصر خلال وحدتها القصيرة مع سوريا) كشرط أولّي. واقترح انسحاب القوات الإسرائيلية من سيناء وقطاع غزة، مع إنشاء منطقة منزوعة السلاح تحت حماية الأمم المتحدة. واعتقد ماركوزه أن القوة الأقوى، ممثلة في إسرائيل، يمكنها تقديم تنازلات مهمة لتحقيق السلام. القدس، بشحنتها الدينية العميقة، اعتبرها عائقاً محتملاً أمام السلام. واقترح تدويل المدينة، بمجرد إعادة توحيدها، كبديل. كما رأى ضرورة إيجاد “حلّ عادل لمشكلة اللاجئين”، بما يتماشى مع قرارات الأمم المتحدة.
كما تناول ماركوزه احتمالين للتعامل مع مشكلة اللاجئين: عودة الفلسطينيين المُبعدين والراغبين في الرجوع الى اسرائيل، مع إقراره بمحدودية هذا الاحتمال بعدما باتت الأراضي والعربية أراضي يهودية، وكذلك الممتلكات؛ وإنشاء دولة فلسطينية وطنية إلى جانب إسرائيل، يتم تحديدها من خلال استفتاء تشرف عليه الأمم المتحدة.
“لا حياة لإسرائيل تعادي جيرانها”
كان السؤال المركزي، بحسب ماركوزه، هو ما إذا كانت إسرائيل، بتكوينها وسياستها في ذلك الوقت، قادرة على تحقيق هدفها المتمثل في الوجود كمجتمع تقدمي يتمتّع بعلاقات سلمية مع جيرانه. ورأى الفيلسوف أن ضمّ الأراضي، بأي شكل من الأشكال، سيكون بمثابة رد فعل سلبي، ويحوّل إسرائيل إلى قلعة عسكرية، وتصبح بيئة معادية: “لا حياة لإسرائيل كدولة متقدمة اذا استمرّت في النظر إلى جيرانها كأعداء. ولن يجد الشعب اليهودي الحماية المستدامة في وجود أكثرية منغلقة على نفسها ومنعزلة وسط مشاعر الخوف، بل فقط في التعايش بين العرب واليهود كمواطنين يتمتّعون بالحقوق والحرّيات ذاتها. ولن يأتي هذا التعايش إلا نتيجة مسار طويل من المحاولات والأخطاء، لكن الشروط الأولية لإنجاز الخطوات الأولى متوافرة اليوم”.
باختصار، رؤية هربرت ماركوزه، التي شكّلتها التجربة التاريخية والزيارة التي قام بها إلى إسرائيل في العام 1971، تسلّط الضوء على الحاجة إلى الاعتراف بمظالم الماضي، والتفاوض على معاهدات السلام الأساسية والسعي إلى التعايش الحقيقي بين الإسرائيليين والفلسطينيين. ورغم أن كلماته قيلت قبل عقود من الزمن، إلا أن صداها يتردّد بقوة في أيامنا، وتقدّم توجيهات قيّمة لحلّ مشكلة تلك الدولة السرطانية التي لا تشبع.
المصدر: المدن
رؤية الفيلسوف هربرت ماركوزه، اليهودي الماركسي الألماني، لوضع الكيان الصهيوني بعد التجربة وجس الواقع تتلخص “لا حياة لإسرائيل كدولة متقدمة اذا استمرّت في النظر إلى جيرانها كأعداء. ولن يجد الشعب اليهودي الحماية المستدامة …..، بل فقط في التعايش بين العرب واليهود كمواطنين يتمتّعون بالحقوق والحرّيات ذاتها” قراءةموضوعية .