قبل أن يعهد الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى محمد مصطفى تشكيل حكومة، كان يصعب قيام سلطة “متجدّدة” فيما الحرب على غزّة مستمرّة. فأيّ جهة فلسطينية ستقبل الإشراف على القطاع مع استمرار احتلاله، حتى لو تشكّلت حكومة تكنوقراط وحصلت هدنة؟ الاستعدادات الإيجابية الظاهرية من “حماس” و”فتح” لإنهاء الانقسام بجهود عواصم عربية ودولية لتوسيع قاعدة منظمة التحرير، بقيت رهينة حسابات الحرب.
كلّف الرئيس الفلسطيني محمود عباس، محمد مصطفى، تشكيل حكومة فلسطينية جديدة. ما دفع “حماس” و”الجهاد الإسلامي” و”الجبهة الشعبية” و”المبادرة الوطنية” إلى انتقاد خطوة عباس باعتبارها “تعمّق الانقسام في لحظة تاريخية فارقة”. وانتقدت الفصائل الأربعة “سياسة التفرّد وتشكيل حكومة جديدة دون توافق وطني”. وأشار بيان مشترك أصدرته إلى “عمق الأزمة لدى قيادة السلطة، وانفصالها عن الواقع، والفجوة الكبيرة بينها وبين الشعب”.
اهتمّت واشنطن باكراً بإيجاد بديل لـ”حماس” لإدارة غزة في اليوم التالي. وناقش وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن الأمر مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس مرّات عدّة. لكنّه أحد عناوين الخلاف الأميركي مع بنيامين نتنياهو الذي يرفض تسلّم منظمة التحرير الفلسطينية مقاليد الأمور في القطاع. فما الذي استجدّ ليكلّف محمد مصطفى تشكيل حكومة فلسطينية جديدة؟ وما علاقة هذا التكليف بـ”اليوم التالي” في غزّة؟
فشل تأسيس بدائل لـ”حماس”.. لتوزيع المساعدات
قبل ثلاثة أيام سُجِّل حدثان يُظهران تعقيدات “اليوم التالي”، أمنيّاً، إدارياً وسياسياً:
– خبر القناة 14 الإسرائيلية بأنّ مدير المخابرات في رام الله ماجد فرج يعمل على تشكيل قوّة أمنيّة في جنوب غزة للمساهمة في توزيع المساعدات. وتحدّثت عن خلاف بين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت على دعم الأخير تولّي فرج تكليف موالين لـ”فتح” بالمهمّة. نسبت إلى نتنياهو قوله: “لست مستعدّاً لسماع شيء عن السلطة الفلسطينية”. أثار الخبر زوبعة من التعليقات لمغرّدين فلسطينيين، بعضهم لا يتّفق مع “حماس”، طالبوا فرج بتوضيح. وكانت التسريبات الإسرائيلية أفادت أنّ غالانت طرح أيضاً اسم القيادي السابق في “فتح” محمد دحلان للمهمّة.
ونفى مدير المكتب الإعلامي الحكومي التابع لـ”حماس” إسماعيل الثوابتة (الجزيرة نت) “أيّ ملامح لتشكيل مجموعات مسلّحة في القطاع تابعة لمخابرات السلطة”. وبينما سرت تكهّنات بأنّ السلطة تعمل للعودة إلى القطاع بالتنسيق مع إسرائيل، عن طريق المساعدات الإنسانية، نفت “فتح” ذلك. كما نفى مصدر فيها تأسيس فرج قوّة عسكرية، بموازاة تسريبات بأنّ واشنطن شجّعت على الفكرة. والهدف إيجاد جهة تتسلّم المساعدات التي ستُنقل بحراً عبر الميناء العائم الذي تعتزم بناءه على شاطئ القطاع.
– “حماس” وزّعت بياناً بأنّ وجهاء عشائر وعائلات في غزة رفضوا عرضاً نقله مسؤولون في منظّمات إغاثية في الأمم المتحدة لتولّي المهمّة. أبدى هؤلاء استعداداً للتعاون إنّما عن طريق أجهزة الحكومة التابعة لـ”حماس”. لكنّ القيادي في “فتح” منير الجاغوب، المقرّب من دوائر القرار بالسلطة، صرّح بأنّ الإسرائيليين “يحاولون القضاء على الحلول السياسية في غزة. وهم يطرحون توزيع المساعدات عن طريق العشائر”.
تعقيدات الحكومة والإلحاح الأميركيّ على الإصلاحات
يُظهر هذان الحدثان التعقيدات التي تكتنف مهمّات أيّ حكومة، على افتراض التوافق بين منظمة التحرير ومقاومة غزة على وزراء تكنوقراط ومستقلّين، كما ينوي مصطفى. فإذا بقي الجيش الإسرائيلي في القطاع، وهذا يرفضه قادة “فتح”، فستخضع لإرادته… ولم يتأخّر بعض الفرقاء الفلسطينيين في التعاطي مع التشجيع الأميركي على قيام جسم جديد على أنّه واجهة للاحتلال.
ما رجّح هو اكتشاف واشنطن تعذُّر إجراء انتخابات تنبثق عنها حكومة تدير غزة والضفة الغربية، لأنّ “حماس” ستفوز بالأغلبية. وحكومة التكنوقراط سيشكّلها محمد مصطفى من مستقلّين غير حزبيين. وتضمّ وزراء من غزة ترضى عنهم “حماس”.
الإلحاح الأميركي على التغيير وإصلاح السلطة، سرّع استقالة الحكومة الحالية برئاسة محمد إشتيه في 26 شباط الماضي. وفي رأي مراقبين فلسطينيين أنّه كان يمكن لعبّاس أن يستمرّ في تكليف حكومة إشتيه تصريف الأعمال، ريثما ينضج الحوار الفلسطيني الداخلي. هذا فضلاً عن أنّ “اليوم التالي” للحرب يكتنفه الغموض ما دامت الحرب مستمرّة. لكنّه استعجل تسمية محمد مصطفى، عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير ورئيس صندوق الاستثمار الفلسطيني. وطرح عباس اسمه فور استقالة إشتيه. فأُسديت إليه نصائح، بينها من موسكو، باختيار شخصية لتشكيل حكومة، لا تكون محسوبة عليه. فالقيادة الروسية التي كان دخولها على خطّ الحوار الفلسطيني الداخلي من خلال استضافتها الفصائل قاطبة، تمنّت اختيار شخصية تشكّل نقطة تقاطع مع “حماس”.
فمحمد مصطفى مقرّب من عباس، وسبق أن عمل 15 سنة في البنك الدولي في واشنطن. ويبدو أنّ تعيينه حظي بقبول أميركي ومن بعض الدول العربية. كما أنّ التعيين لقي معارضة حتى من داخل حركة “فتح”. ويطرح بعض المراقبين الفلسطينيين سؤالاً عمّا إذا كان سيعقب تكليفه تريّثٌ في تأليف حكومة ريثما تنضج ظروف الهدنة ومسار الحرب.
الانتظارات من الإغاثة إلى الإصلاح وإعادة الإعمار
إلا أنّ مراهنات مؤيّدي تعيين محمد مصطفى على أن يلقى قبولاً، تعود إلى بضعة عوامل، بالإضافة إلى أولوية توفير الإغاثة الإنسانية للقطاع:
1- سبق لمصطفى أن لعب دوراً في إعادة إعمار غزة عام 2014 بعد دمار سبّبته حروب إسرائيل عليها منذ 2009. وقد تعاون مع “حماس” في تلك المرحلة. وهذا التعاون يمكن أن يتجدّد.
2- لديه مشروع أوّلي لإعادة إعمار القطاع وتأهيله قدّر كلفته بزهاء 15 مليار دولار. عرضه على دول عربية والاتحاد الأوروبي. ويتضمّن قيام هيئة مستقلّة تتشكّل من شخصيات من القطاع.
3- حكومته تنوي تحقيق إصلاحات هيكلية في مؤسّسات السلطة الفلسطينية المتّهمة بالفساد والهدر المالي. يشمل ذلك خفض عدد هذه المؤسّسات من 68 إلى 28، وتعزيز الرقابة المالية. ويلحّ المجتمع الدولي على اعتماد نظام الحوكمة.
ليس واضحاً هل يمكن حكومة كهذه أن تعدّل في صلاحيّات الرئاسة (محمود عباس) لمصلحتها، كما يطالب الأميركيون والغرب. والمعضلة نفسها تتعلّق بمدى استعداد الجسم الفلسطيني لإصلاح المؤسّسات الأمنيّة المتخمة (تتحدث الأرقام عن 70 ألف شرطي). وفيما تصاعدت النقمة على سلطة عباس في الضفة الغربية وغزة، وسرت موجة مطالبة بتنحّيه، كانت ردود الفعل الأوّلية على مواقع التواصل الاجتماعي سلبية.
إدارة الحرب أم إدارة الحلول؟
مقابل العوامل التي تراهن على مقبولية تكليف محمد مصطفى تشكيل حكومة، أثار مراقبون أسئلة وعناوين نقيضة:
– اللحظة السياسية هي لإدارة استمرار الصراع والحرب والأزمة، وليست لإدارة الحلول وإعادة الإعمار والإصلاح، أي لبروفايل محمد مصطفى.
– إذا نجح تجديد التفاوض على الهدنة وفق تسريبات الأيام الأخيرة التي أعلنتها “حماس”، ستتغيّر معطيات الوضع السياسي. أهمّها خروج مروان البرغوثي من السجن، الذي يعدّل في موازين القوى داخل “فتح” نفسها، وفي العلاقة مع “حماس”. كما أنّ نجاح الأخيرة في تحقيق بعض مطالبها وإفشال بعض ما يسعى إليه نتنياهو سيجعل ميزان القوى في تشكيل حكومة مختلفاً.
– الوضع في الضفة الغربية قد يتّجه نحو التصعيد لأنّ المناخ الفلسطيني المشحون سيوسّع المواجهة مع المتطرّفين والمستوطنين… وفي هذه الحال لا يقدّم تغيير حكومة وتشكيل أخرى جديداً في مجرى الأحداث. وفي كلّ الأحوال يصعب أن تقبل الحكومة المقبلة استمرار التنسيق الأمنيّ مع إسرائيل.
– حكومة فلسطينية جديدة لا تعني في الظرف الراهن سوى التعبير عن اختلاف المشروعين الأميركي والإسرائيلي. فالأخير يعمل للقضاء على “حماس” وحتى على وجودها السياسي. وواشنطن مع تجريدها من السلاح وقدراتها العسكرية، وإيجاد صيغة مموّهة لاشتراكها في الحلّ.
– الحوارات بين الفصائل تجري في عواصم عدّة، لكنّها لا تتمّ في كنف الدولة الرئيسة المعنيّة بترتيب وضع غزة والبيت الفلسطيني، أي مصر. وهذا يعني أنّ هذا الترتيب لم يحن بعد على الرغم من الحاجة المبدئية إليه. ولهذا حديث آخر.
المصدر: أساس ميديا