منذ مرحلة ما بعد الكولونيالية الغربية، كان الغرب ولا يزال مركز هموم العقل العربى وانشغالاته، وخاصة السؤال التاريخى لشكيب ارسلان لماذا تقدموا؟ ولماذا تخلفنا؟ كان التطور المتلاحق علميا، وتكنولوجيا، ومعرفيا وتعليمية، موضوعا أساسيا فى اهتمام بعض الباحثين والمفكرين النبهاء على قلتهم، إلا أن العقل العربى مابعد الكولونيالية المحاصر بالاستبداد ظل يُعيد اجترار السؤال، وإجاباته بالغة العمومية، والتى لا تجيب على شئ ما! مرجع ذلك هو القيود على البحث العلمى، وسياساته، سواء على مستوى دراسة الواقع الموضوعى للمجتمعات والأنظمة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والدينية العربية . من ناحية أخرى أدت السياسات السلطوية ما بعد الكولونيالية إلى هيمنة الخطابات الأيديولوجية لحركات التحرر الوطنى المعادية للغرب، بديلا عن الدراسات العلمية الموضوعية عن هذا الغرب المتعدد، والمتنوع والمركب سواء فى تطوراته العلمية والاجتماعية، والثقافية، أو سياساته الخارجية عالميا، وتجاه النظم العربية الشمولية، والتسلطية. من ثم سيطرت الإيديولوجيا على المعرفة العلمية، والموضوعية، واستمر خطاب “الغرب الواحد”، هو السائد، بينما التحولات داخل تعددياته، تتسع. من هنا حدثت قطيعة نسبية مع تطورات النظم الديمقراطية التمثيلية، والتغيرات فى ثقافة الاستهلاك، والتشيئ الإنسانى، وظهور مراكز للحركية الاجتماعية والسياسية، والثقافية، مختلفة عن ذى قبل حيث لعبت هذه الجماعات أدواراً هامة فى التأثير على مراكز صناعة القرار السياسى، واتجاهات الرأى العام فى الولايات المتحدة وأوروبا الغربية. كانت ولا تزال الدولة الإسرائيلية، ومراكز البحث السياسى والاجتماعى داخلها، وفى الجامعات تركز على الدراسات المختلفة للدول والمجتمعات الأوروبية، وأمريكا الشمالية، وتتفاعل معها تأثيرا، وتأثرا، من خلال الأبحاث المشتركة، أو الحضور الفاعل للباحثين الإسرائيليين، أو اليهود متعددى الجنسيات، ومن ثم أصبح لهم حضوراً مؤثراً داخل هذه الجماعات، ومعهم تشكل الدعم المستمر للسياسات الإسرائيلية الوحشية تجاه العالم العربى، وخاصة الشعب الفلسطينى، على نحو تحولت معه هذه السياسات الكولونيالية، والعنصرية الوحشية، إلى ما يشبه “العقيدة السياسية” لدى غالب هذه الجماعات الأكاديمية والبحثية، وأيضا الإعلامية، على نحو ما ظهر فى الولايات المتحدة، وكندا، والدول الأوروبية فى أعقاب حرب الإبادة الوحشية على المدنيين فى قطاع غزة، على الرغم من ارتفاع أرقام القتلى إلى 31045، و72654 جريحا، وأكثر من 70% من الأطفال والنساء (يوم 11/3/2024).
قوة ضغط إسرائيلية، وأكاديمية، وثقافية، وفنية على مراكز البحث، وجماعات فنية وأدبية، وصحف ومجلات ورقية، ورقمية شهيرة، وقنوات تلفازية وفضائيات غربية كبرى، ولا نكاد نلمح تأثيرا عربيا على هذه الجماعات، أو تفاعلا معهم، لإبراز وجهات النظر العربية لدى هذه الجماعات الثقافية والإعلامية الحاملة لخطاب الدفاع عن إسرائيل، وخطابها الإدعائى، حول الدفاع الشرعى وهى دولة تمارس الإبادة الجماعية، والتهجير القسرى، وتدمير الحجر، وقتل المدنيين الأبرياء فى قطاع غزة، بوصفها دولة محتلة للأراضى العربية والفلسطينية منذ عدوان يونيو 1967، ومعها القدس الشرقية.
الاهتمام البحثى الإسرائيلى، والغربى، متزايد، وخاصة مع الموجات الإسلامية السياسية الراديكالية نفى أعقاب هجوم القاعدة على أيقونات القوة الكونية الأمريكية فى 11 سبتمبر 2011، والعمليات الإرهابية فى أوروبا، وأفريقيا، والشرق الأوسط.
مع الانتفاضات الجماهيرية الواسعة للربيع العربى المجازى والدراسات السياسية والاجتماعية الغربية والإسرائيلية تتراكم حولها المعرفة بالمنطقة ومشاكلها فى مراكز البحث الغربية، بينما تبدو نادرة، ومحدودة الدراسات العلمية والموضوعية فى العالم العربى. مع الثورة الرقمية، والنظم التسلطية وموت السياسة، تم فرض قيود على حريات البحث الأكاديمى، بحيث لا تدرس ظواهر الفشل لهذه الانتفاضات وانماط إدارة مراحل الانتقال السياسى، من السلطات الفعلية، أو من الإخوان والسلفيين فى مصر، وحركة النهضة فى تونس وفشلهم! حيث غاب الطلب السياسى والاجتماعى السلطوى والأكاديمى على البحث العملى، وأيضا الرؤى السياسية والرأسمال الخبراتى حول ثقافة إدارة وتجديد هياكل الدولة، لاسيما العلمية والبحثية والثقافية.
من ناحية أخرى، ركزت السلطات السياسية العربية الميسورة على إنفاق الأموال على خلق بعض الموالين لها فى الكونجرس الأمريكى، وبعض الدول الأوروبية لدعم بعض مصالحها السياسية فى هذه البلدان الغربية، دونما اهتمام بالقضايا العربية، وخاصة المسألة الفلسطينية.
ظل الغرب المتعدد واحدًا، دونما تباينات وخصوصيات، وتركيب، واختلافات نظراً، لهيمنة العقل السياسى والعلمى الساكن، الذى لا تتابع تطورات هذه المجتمعات، ونظمها السياسية، والاجتماعية والعلمية، فى مقابل المتابعات الإسرائيلية لهذه التحولات ووضع سياسة للتعامل معها، وتوظيفها فى دعم السياسة الإسرائيلية العدوانية تجاه الشعب الفلسطينى، ودول المنطقة!
النظرة الأحادية للعقل السياسى، والعلمى العربى تجاه “الغرب الواحد”، لا تزال المسيطرة، وخاصة لدى العقل الدينى النقلي للجماعات الإسلامية السياسية، التى لا تزال تنظر إلى العالم من منظور الثنائية الدينية الفقهية الماضوية حول الإسلام، والآخر، والإسلام والغرب، كنتاج لمفهوم دار الإسلام، ودار الحرب الكلاسيكية فى الفقه الإسلامى، بينما العالم تجاوز هذه الثنائية.
هذه النظرة الأحادية الساكنة فى الماضى، كرستها الطبيعة النقلية لبعض الفقهاء ورجال الدين، وفى ذات الوقت فشل السلطات السياسية العربية فى بناء الدول فى أعقاب المرحلة الكولونيالية الغربية الغشوم، وهيمنة سياسات بناء الاندماج الداخلى بالقوة، والقمع داخل المجتمعات العربية، وفشل سياسات التعليم، وغياب الحريات العامة، وسياسات تشريعية، لا تكرس دولة القانون والحق، والعدالة بين المواطنين والتوازن بين المصالح المتنازعة والمتصارعة!
لا شك أن السياسات ما بعد الكولونيالية فى العالم العربى اعتمدت على التعبئة السياسية والاجتماعية، والدور المحورى لقيادات ما بعد الاستقلال، والموالين لهم، الذين ركزوا على الاستقرار السياسى عبر السياسات والآليات الأمنية، والإيديولوجيا لبناء الإجماع الوطنى القسرى، دونما مشاركة سياسية فاعلة للمواطنين. من ثم اعتمدت السياسات العلمية والبحثية على القضايا التى يطرحها غالب قادة الدول، وفرض سياجات رقابية على البحث فى القضايا الاجتماعية، وتراكم المشكلات المختلفة، وخاصة فى مجال الدراسات الميدانية حول المكونات الأساسية -الدينية والمذهبية والعرقية واللغوية والقومية.. الخ- لصالح قضايا التعبئة السياسية والإيديولوجيا.
لم تهتم مراكز البحث فى العلوم الاجتماعية، على متابعة التحولات داخل النظم السياسية الغربية، وإسرائيل، وخاصة فى المجالات العلمية والتكنولوجية، وكيف يمكن توظيف ذلك، فى التفاعل معها، وفى خلق شبكات للتفاعل والحوار مع الجماعات العلمية فى هذه البلدان على نحو ما فعلت، ولا تزال المراكز البحثية الإسرائيلية.
من هنا لم تستطع الجماعات البحثية العربية، والمثقفين التأثير والحوار مع نظرائهم فى الولايات المتحدة الأمريكية، وكندا وأوروبا الغربية، لغياب التواصل والتفاعل العلمى، ومن ثم الحوار معهم حول مواقفهم من المسألة الفلسطينية، وحرب الإبادة الغاشمة من إسرائيل على المدنيين فى قطاع غزة.
من ثم لابد من إعادة النظر فى السياسة العلمية العربية وإعادة توجهيها نحو دراسة المجتمعات، والنظم السياسية والنخب العلمية فى الغرب كمدخل لفتح الحوار حول قضايا المنطقة، وسياسة الإبادة والتطهير العرقى الإسرائيلى تجاه الشعب الفلسطينى، عى نحو ما تم ولا يزال تجاه المدنيين الأبرياء فى قطاع غزة.
المصدر: الأهرام
ما بعد الكولونيالية الغربية كان السؤال لماذا تقدموا؟ ولماذا تخلفنا؟ لأن الغرب كان ولا يزال مركز هموم العقل العربى وانشغالاته، فلم تقم مراكز البحث بالعلوم الاجتماعية بمتابعة التحولات داخل النظم السياسية الغربية، وإسرائيل، وخاصة فى المجالات العلمية والتكنولوجية ليتطلب إعادة النظر فى السياسة العلمية العربية وإعادة توجهيها نحو دراسة المجتمعات والنظم السياسية والنخب العلمية فى الغرب .