هل انتهى عهد التخادم بين حلف الممانعة وإسرائيل؟

حسن النيفي

عاشت المنطقة العربية، منذ أوائل ثمانينيات القرن الماضي، على مفصل جديد من هاجس المواجهة الدائمة مع الكيان الصهيوني، وذلك تزامنًا مع وصول الخميني إلى السلطة في إيران (1979) وشروع طهران في استراتيجيتها القائمة على التوسع والهيمنة في محيطها الإقليمي، ونزوعها الدائم لتعزيز فكرة “تصدير الثورة“.

وقد وجدت في نظام حافظ الأسد – آنذاك – حليفًا يمكن الركون إليه، نظرًا لحاجته إلى مقوّمات داعمة لاستمرار سلطته وبقائها ممسكةً بما يسمّى “مفاتيح الصراع العربي–الإسرائيلي”.

واقع الحال يؤكّد أن كلا النظامين – الأسدي والإيراني – لم يكن يستمدّ مشروعية سلطته من أي مشروع ذي صلة بمسائل التنمية الداخلية أو رفع سويّة الواقع الحياتي، أو التطوير أو تحديث بنى مؤسسات الدولة بما يعود على المواطنين بالنفع العام، بل إن مشروعات كهذه كانت مصادرةً كلّيًا لصالح فكرة “المواجهة مع العدو الخارجي” المتمثل بإسرائيل وحليفتها أميركا.

علمًا أن تلك المواجهة المزعومة لم تكن قائمة كمنهج وممارسة، بقدر ما كانت مجرّد “فلسفة سلطوية” تستلهم قضية فلسطين على مستوى الشعارات والتجييش واستنفار الوجدان الشعبي لدى الشعوب العربية والإسلامية. إلا أنها، من ناحية عملية، لم تجد في قضية فلسطين أو الجولان أو مناهضة الصهيونية سوى “منجم للتذخير الإعلامي” من شأنه توفير أكبر قدر من الاستثمار الأيديولوجي الشعبوي الخادم لمشروع الحفاظ على السلطة وتأمين عوامل استمراريتها.

لعله من الخطأ القول إن هزيمة أنظمة “الممانعة” جاءت نتيجة منطقية لعدم تكافؤ موازين القوى العسكرية، أو لأسباب ذات صلة بتفوّق استراتيجية عسكرية على أخرى.

وتأسيسًا على ذلك، وجدت طهران من يقف إلى جانبها أو يحظى بتعاطفه في حربها على العراق طوال ثماني سنوات (1980–1988)، إذ ظهر آية الله الخميني آنذاك، في عيون أنصاره، بل في عيون بعض العرب والمسلمين، كمخلّص أو منقذ للأمة، وكقائدٍ لن يحول بينه وبين تحرير القدس سوى النظام العراقي “الكافر” وفقًا لإعلام طهران.

وعلى الرغم من إخفاق إيران في التمدد نحو دول الخليج العربي آنذاك، لعدم قدرتها على تحقيق نصر عسكري على العراق، إلا أن مشروعها التوسّعي لم يتوقف، بل توجّه نحو لبنان واليمن وسوريا، ليجعل من تلك البلدان مجالًا حيويًا لأذرعها التي راحت تتغوّل داخل بنية الدولة حتى تحوّلت إلى سلطة تنازع السلطة الشرعية صلاحياتها وواجباتها. وتكفي الإشارة – في هذا السياق – إلى معاناة الشعب اللبناني الذي تجرّع ويلات عدة حروب لم يكن هو صاحب القرار فيها، بل كانت إيران هي صاحبة القرار عبر ذراعها الطائفية المتمثلة بحزب الله.

لعله من المفيد ذكره دومًا، أنه على الرغم من ارتفاع وتيرة السخونة الإعلامية بين إسرائيل وإيران، إلا أن الطرفين لم تحصل بينهما مواجهة عسكرية مباشرة طوال (44 سنة: 1980–2024)، بل يمكن القول إن الناظم لعلاقة الطرفين هو مفهوم “التخادم” الذي لم ينقطع حتى في أحلك الظروف، بما في ذلك التعاون العسكري، وهذا ما كان قائمًا بالفعل في أثناء الحرب العراقية–الإيرانية.

إلى ذلك، لم يكن نظام دمشق – بصفته الحليف الأهم لإيران – أقلّ التزامًا بمفهوم “التخادم” مع الجانب الإسرائيلي، بل ربما كان سلوك نظام الأسد هو الأكثر تجسيدًا لذلك، إذ يكفي أنه قدّم نموذجًا شديد الالتزام بحماية الحدود الجنوبية لإسرائيل لأكثر من نصف قرن.

لعل مفهوم “الممانعة والمقاومة”، بجانبه الشعاراتي، لدى كل من طهران ودمشق، قد حرم الشعبين السوري والإيراني من أية فرصة تنموية حقيقية، كما جعلهما محرومين من مجمل حقوقهما الدستورية والإنسانية، في ظل نظامين شموليين صادرا الحقوق، وأوغلا في القمع والإقصاء، وجعلا بلديهما نموذجين للتسلّط والتغوّل على حقوق المواطنين، والإمعان في القتل والاعتقال والتشريد. ولعلها من المفارقات النادرة في الأعراف “النضالية لحلف الممانعة” أن يتلازم مفهوم التصدّي للعدو الصهيوني مع مزيد من العدوان على المواطن، وكلّما ازداد خضوع الحاكم وارتهانه لقوى الخارج، ازداد صلفه وارتفعت وتيرة قمعه وإذلاله لمواطنيه. وبهذا يكون استمرار التمسّك بشعار “المقاومة” ضروريًا باعتباره يجسد حاجة سلطوية أكثر مما هو تعبير عن موقف حقيقي من الكيان الصهيوني.

لعله من الخطأ القول إن هزيمة أنظمة “الممانعة” جاءت نتيجة منطقية لعدم تكافؤ موازين القوى العسكرية، أو لأسباب ذات صلة بتفوّق استراتيجية عسكرية على أخرى، علمًا أن هذا الأمر يبقى قائمًا في نهاية المطاف، ولكن العامل الأهم في هزيمة هكذا أنظمة هو عامل داخلي ذو صلة مباشرة بطريقة تفكيرها وسلوكها معًا. إذ استلهمت تلك الأنظمة مقاربتها في الحكم من “فلسفة سلطوية” قوامها القدرة على استثمار الشعارات ذات الصلة بالقضايا الكبرى، موازاةً مع الاعتماد على فكرة “التخادم” القائمة على تبادل المصالح مع الخارج. وهاتان المسألتان – الشعارات الكبرى والمصالح – محكومتان بمعطيات وظروف محدّدة، وليستا مطلقتين، كما أنهما مشروطتان أيضًا بقدرة نظام الحكم على إعادة إنتاج نفسه وفقًا للمستجدّات الإقليمية والدولية. وهذا ما تفتقر إليه أنظمة “الممانعة” التي مُنيت بتعفّنٍ شديد لا يتيح لها سوى اجترار كامل موروثها من القذارة.

لقد أبدت إسرائيل حرصًا واضحًا على بقاء نظام الأسد طوال سنوات الثورة، ولكنها لم تبدِ كثيرَ أسفٍ على سقوطه، حين لم يعد قادرًا على الاستجابة لشروط “التخادم” الذي كان قائمًا طوال الفترة السابقة، وبات عبئًا حتى على حلفائه المقرّبين.

هزيمةُ أنظمةِ “الممانعة” أمام الكيان الصهيوني ليست مجرّد فضيحة عسكرية أو سياسية، بل فضيحة أخلاقية كبرى، ليست أمام إسرائيل، بقدر ما هي أمام الشعوب التي سُلب منها قوتها، وحُرمت من أبسط حقوقها.

وكذا الشأن مع النظام في طهران، الذي لم تكن سياساته التوسعية ونزوعه نحو الهيمنة في المنطقة العربية بعيدين عن أعين الصهاينة. وكذلك لم تكن ميليشيات إيران في سوريا ولبنان خافية عن طائرات إسرائيل طوال السنوات الماضية، بل لم تكن مجمل الجرائم التي ارتكبتها إيران وميليشياتها الطائفية بحق السوريين موضع إدانة من الكيان الصهيوني، طالما أن تلك الجرائم لا تمس مصالح إسرائيل، بل ربما كانت خادمة لها بأشكال مختلفة.

كذلك لم يكن المسار التفاوضي مع إيران بخصوص مشروعها النووي مقلقًا لإسرائيل، طالما أن مخرجات التفاوض لن تفضي إلى امتلاك إيران للسلاح النووي، الذي من شأنه إحداث تغيير في موازين القوى على الأرض. ولكن الذي حدث أن إيران، إبان عودتها إلى المفاوضات النووية، لم تأخذ بعين الاعتبار تداعيات حرب السابع من أكتوبر، وكذلك لم تأخذ بعين الاعتبار هزيمة أهم حليفين لها في لبنان وسوريا. وربما دفعها توهّمها بأن مفهوم “التخادم”، بصيغته التقليدية، ما يزال ساري المفعول، من دون النظر إلى المعطيات الجديدة المتمثلة بتجريد إيران مما كانت تظنه أوراق قوة بيدها. ما تتجاهله إيران هو أن المطلوب منها اليوم هو الإذعان وليس التفاوض، وأن استمرارها في المكابرة عن الرضوخ لهذا الإذعان لن يتيح لها خيارًا أقلّ إذلالًا وإهانة.

هزيمةُ أنظمةِ “الممانعة” أمام الكيان الصهيوني ليست مجرّد فضيحة عسكرية أو سياسية، بل فضيحة أخلاقية كبرى، ليست أمام إسرائيل، بقدر ما هي أمام الشعوب التي سُلب منها قوتها، وحُرمت من أبسط حقوقها، وتحمّلت قدرًا فظيعًا من الجور والحرمان، بذرائع لا تنطوي سوى على المزيد من الزيف والكذب.

وهذا ما يجعل هزيمة تلك الأنظمة أمرًا غير مأسوف عليه من جانب الشعوب، ليس شماتةً بزوال طغمة ظالمة قاتلة فحسب، وليس تعاطفًا مع الخصم الصهيوني، بل أملًا بحلول عهد جديد، لا يكون فيه مصير الشعوب مادّةً لمقامرات الطغاة من أجل السلطة.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى