
كانت الضربات الإسرائيلية، التي استهدفت العمق الإيراني، موجعةً بلا شكّ، فنتجت عنها خسائرُ لا تعوّض، تتعلّق بالبنية النووية، كما أدّت إلى مقتل، لا شخصيات أمنية وعسكرية مهمّة فقط، وإنما أيضاً مجموعة من أبرز العلماء العاملين في البحث النووي. أكّدت العملية، التي أُطلق عليها اسم “الأسد الناهض”، التي هدفت (وفق بيان الجيش الإسرائيلي) إلى استهداف صناعة الصواريخ وتهديد البنية التحتية للمنشآت النووية، حقيقة الانكشاف الأمني الإيراني، الذي يتأكّد مع كلّ ضربة، وكلّ استهداف، وظهر في عجز “عاصمة المقاومة” عن فعل أيّ شيء ذي أثر لصدّ أو تخفيف آثار الهجوم.
الملاحظة المهمّة هنا هي أن هذه الضربات الموجعة أتت قبل يومَين من جلسة المحادثات التي كان يُنتظر أن تُعقَد الأحد (15 يونيو/ حزيران الجاري)، وأن يجتمع فيها الطرفان الأميركي والإيراني لمناقشة إحياء الاتفاق النووي. بهذا الصدد، رأت إيران، وفق المتحدّث باسم وزارة الخارجية الإيرانية إسماعيل بقائي، أن تلك المحادثات مع الأميركيين، الذين دعموا تنفيذ هذه الهجمات وسمحوا بها، لم يعد هنالك معنىً لها. المهم في هذا التصريح، الذي تلته أخبار أخرى أكّدت إلغاء المحادثات، أنه ينظر إلى الهجمات بشكل مختلف، فلا يراها مجرّد هجمات إسرائيلية، وإنما هي اعتداء أميركي وغربي أيضاً.
“أكّدت عملية الأسد الناهض حقيقة الانكشاف الأمني الإيراني الذي يتأكّد مع كلّ ضربة
في الوقت، الذي تتّجه فيه صواريخ إيرانية نحو تل أبيب، وتعلن السلطات هناك إغلاق مطار بن غوريون، ويتوعّد وزير الأمن الإسرائيلي بحرق العاصمة طهران، إذا استمرّ استهداف المدنيين، ربّما لا تكون الأولوية بالنسبة للنظام الإيراني هي استعادة الاتفاق النووي، بقدر ما تكون البحث عن سبيل للبقاء، وعن طريقة لحفظ ماء الوجه، بعد نجاح الإسرائيليين في استهداف مواقع حسّاسة، في مقدمتها الدفاعات الأرضية، ما سمح لهم بالقول إنّهم امتلكوا حرية الحركة في الأجواء الإيرانية، من الغرب وحتى طهران.
المباركة الأميركية، والتنسيق المُحكم لهذه الهجمات، لا يَخفيان، فقد كان الرئيس دونالد ترامب يتوعّد طهران بضربةٍ موجعةٍ منذ وقت طويل، كما أنه ظلّ يعتبر أن الحلّ التفاوضي قد لا يكون فعّالاً حينما يتعلّق الأمر بإيران، التي يرى أنها لا تفعل، من خلال الإيعاز برغبتها في التفاوض، سوى أن تحاول كسب الوقت ريثما تستكمل مخطّطها النووي. ذلك كان سبب انتقاد الرئيس ترامب، وكثيرين من رفاقه الجمهوريين، للرئيس الأسبق باراك أوباما، وللإدارة الديمقراطية، التي كانت تحمّست للاتفاق، معتبرةً إياه من أكثر إنجازاتها أهمية.
لا تكتمل هذه الخلاصة إلا برؤية جميع أجزاء المشهد، التي تجعل هذا الحدث لا ينفصل عمّا جرى من عمليات هدفت إلى إضعاف قدرات حزب الله في لبنان، بالتوازي مع استهداف مراكز الحشد الشعبي في العراق، إلى جانب الحرب الممتدّة في قطاع غزّة، التي كان غرضها الأساس هو التأكّد من تفكيك حركة حماس، أو على أقلّ تقدير جعلها غيرَ قادرةٍ على تشكيل تهديد مستقبلي للكيان.
السودان ليس بعيداً من هذه الهندسة الإقليمية، التي تجري بتوافق أممي، ويبدو أن من الصعب على أيّ طرف كبح جماحها. ذلك البلد كان معروفاً (على الرغم من إمكاناته المتواضعة وغرقه في سلسلة حروبٍ لا تنتهي) بأنه جزء من المحور، الذي يطلق عليه اسم “محور المقاومة”، كما أنه ظلّ متهماً بتوفير سلاح ودعم للمقاومة الفلسطينية ضدّ الاحتلال. هذه الاتهامات، التي كان كثيرون يتعاملون معها مصدراً للتفاخر، استمرّت حتى بعدما قطع السودان علاقته بإيران، وأوقف اتصالاته الرسمية مع ممثلي حركة حماس، في نهاية عهد الرئيس المعزول عمر البشير.
المرحلة اللاحقة، التي استمرّت في سنوات ما بعد السقوط، شهدت في بداياتها تباعداً أكبر بين كلّ من السلطة الحاكمة، التي أعلنت القطيعة مع ميراث البشير، وذلك المحور الإيراني، وهو ما تزامن مع إقصاء الإسلاميين، المقربين من ذلك المحور. إلا أن هذا التباعد لم يشفع لا للبلد، الذي ظلّ في دائرة الاستهداف، ولا للجيش، الذي ظلّت قوى إقليميةٌ كثيرةٌ تنظر إليه تهديداً، وهي تصف عقيدته بـ”الجهادية”.
لم تستسلم الدولة السودانية للابتزاز، ولا لمساعي تفكيك الجيش تحت مسمّى ‘إعادة الهيكلة
أدّى التشكيك في (والخشية من) أيّ دور مستقبلي للقوات المسلّحة السودانية، التي كانت وصلت إلى مراتب متقدّمة في ما يتعلّق بإنتاج الأسلحة وتطوير الذخائر، إلى شروع القوى الدولية في عدّة مسارات تلتقي جميعها في هدف إضعاف هذه القوات.
كان من بين هذه المسارات، التدخّل الأممي، عبر فرض إعادة تنظيم (وهيكلة) الجيش السوداني، كما كان منها التوجّه إلى إقرار عقوبات تستهدف تجفيف منابع تمويل الأجهزة العسكرية، وتفرض ما يشبه الحصار والتضييق على عمليات التسليح. من ناحية أخرى، جرّبت القوى الدولية بالتنسيق مع المجموعة الحاكمة (قوى الحرية والتغيير)، جرّ السودان إلى الخضوع للوصاية الدولية، بحجّة إعادة بناء الجيش ومؤسّسات الدولة بشكل يمنحها عقيدةً وشكلاً جديدَين.
لحسن الحظّ، فإن جميع هذه المسارات فشلت في مسعاها قبل أن تبدأ، فلم تستسلم الدولة السودانية للابتزاز، ولا لمساعي تفكيك الجيش تحت مسمّى “إعادة الهيكلة”، كما لم تجد القرارات الداعية لمنع الجيش من الإشراف على مؤسّساته المالية الاهتمام والاكتراث المطلوبين، أمّا الوصاية الدولية، أو وضع السودان تحت البند السابع، أو الدعوة إلى دخول قوات أممية لتشكّل جيشاً بديلاً، ولتكون السند الذي يوفّر الدعم للقوى المدنية المدعومة دولياً، فكلّها مقترحات وتطلّعات لم تجد أيَّ نوع من القبول في الشارع السوداني، الذي تعامل معها تعاملَ المتحفّز لمجابهة الاستعمار.
الحرب السودانية نفسها يمكن بهذا قراءتها أحدَ مسارات التفكيك. حين نسمع عن مقتل قادة عسكريين إيرانيين كبار، وعن استهداف علماءَ في ساعات القصف الأولى، فإن هذا يذكّر بالأسماء الكثيرة التي فقدناها في حرب السودان، وبالرجال ذوي القدرات العالية، الذين جمعوا بين العلوم العسكرية والمدنية، والذين فقدتهم البلاد، كما فقدت كثيراً من عوامل القوة بسبب مخطّط التدمير.
المصدر: العربي الجديد