بين تل أبيب وطهران… ما لا يجب أن ننساه

ماهر حسن شاويش

في ذروة التصعيد بين إيران وإسرائيل، وسط صخب الشعارات وتعدد الحسابات، يبرز واجبٌ أخلاقيّ لا يمكن التنازل عنه: الانحياز للمظلوم، دون تبرئة أيّ قاتل، ودون اختزال العدالة في عدوٍّ واحد.

نحن مع تخفيف المعاناة عن غزة، قلبًا وقالبًا، ومع كل يدٍ تمتد لوقف المجزرة بحق أهلها، سواء كانت ضغوطًا سياسية، أو تحركات عسكرية، أو جهودًا دولية.

لكننا، في الوقت ذاته، نرفض تمامًا أن تُستخدم غزة غطاءً لتبييض الجرائم، أو لإعادة تأهيل أطراف مارست القتل والتدمير بحق شعوب المنطقة.

لا يمكن أن تُمحى من ذاكرتنا الجرائم التي ارتكبتها إيران وأذرعها الطائفية في سوريا والعراق واليمن. مدن سُوّيت بالأرض، مجازر ارتُكبت، نازحون ومهجّرون بالملايين، وكل ذلك تحت لافتة “الطريق إلى القدس”.

نعم، إسرائيل عدوّ وجودي، لا شك في ذلك، وهي كيان استعماري إحلالي قائم على التهجير والعنصرية. لكن هذا العداء لا يُعطي صكّ براءة لإيران أو غيرها. مَن قتل السوريين، ودمّر صنعاء، وعبث ببغداد، ليس طرفًا محايدًا في معركة تحرر، بل طرف دموي بامتياز.

الموقف المبدئي لا يُجتزأ:

  • نقف مع غزة بلا قيدٍ أو شرط.
  • نرفض المتاجرة بها لتلميع قاتلي شعوبنا.
  • لا نبدّل دمًا بدم، ولا ننسى المجرمين مهما كانت شعاراتهم.

أما التصعيد الحالي بين طهران وتل أبيب، فهو صراع مصالح ونفوذ، لا يُلزمنا سياسيًا ولا أخلاقيًا. وإن نتج عنه تخفيف الضغط على غزة، فنحن نرحب بالنتيجة لا بالمصدر، وندعم مصلحة أهلنا لا حسابات المحاور.

لسنا مع إيران، ولا نثق بها. وندرك تمامًا أن تحركاتها ليست من أجل فلسطين، بل من أجل تموضعها الإقليمي.

من سكت عن جريمة التضامن، وعن آلاف المعتقلين في السجون، لا يحق له أن يتحدث عن “الدفاع عن الشعب الفلسطيني“.

فمن أراد إقناعنا بأن طهران تقاتل “من أجل غزة”، فعليه أن يجيب: أين كانت إيران طوال الشهور الماضية، منذ طوفان الأقصى؟ لماذا تُركت غزة تواجه المجازر منفردة، دون تحرك يُذكر من “محور المقاومة”؟

المحور الذي تبنّى شعار “وحدة الساحات” أثبت، عمليًا، أنه لا يحترم هذا الشعار إلا حين يخدم مصلحته. بل إن أداء أذرع إيران، وفي مقدمتها حزب الله، كان باهتًا ومضبوطًا ضمن قواعد اشتباك مشروطة، أفرغت شعار الوحدة من أيّ مضمون فعلي، وقوّضت الزخم الذي أحدثته غزة بدماء أبنائها.

ما هو أخطر من ذلك، هو هذا التمييز اللاأخلاقي في التعامل مع دم الفلسطيني: حماسة لغزة، وصمت عن مخيم اليرموك. تأييد لغزة، وتواطؤ مع مجازر الأسد بحق فلسطينيي سوريا. من سكت عن جريمة التضامن، وعن آلاف المعتقلين في السجون، لا يحق له أن يتحدث عن “الدفاع عن الشعب الفلسطيني”.

المقاومة التي لا تحترم الإنسان الفلسطيني أينما كان، هي مقاومة مزيفة. والمتاجرة بفلسطين لا تُغطّى بالشعارات، بل تفضحها الأفعال، والتوقيت، والتحالفات.

نحن لا نرفض فقط الرواية الإيرانية، بل نرفض أن تكون فلسطين بوابةً لمحو جرائم المحاور، أو أداة لابتزاز المشاعر العربية، أو وسيلة لتلميع أنظمة متورطة في دماء الشعوب.

لقد تحوّلت إيران، بعد الربيع العربي، من فاعل سياسي إلى عدو داخلي مباشر في عدد من الدول العربية. ما حدث في سوريا والعراق واليمن لم يكن خلافًا سياسيًا عابرًا، بل اصطفافًا دمويًا قاطعًا ضد إرادة الشعوب، تحت رايات طائفية مضلّلة.

فلسطين لا تُختزل في معركة إقليمية بين متنازعين على النفوذ، ولا يُدافع عنها من خان حلب والموصل وتعز. عدالة قضيتنا لا تسمح بانتقائية في الغضب، ولا بازدواجية في الحزن.

نعم، هناك محاولات مكثّفة لإعادة تسويق إيران بوصفها “آخر قلاع الشرف والممانعة”، في ظل غياب مشروع عربي حقيقي. لكن هذه المحاولات لن تنجح في تزييف الوعي، طالما بقي هناك من يذكّر الناس بأن طهران أيضًا غاصت في دمائنا، وأنها شريكة في المأساة، لا منقذة منها.

وعليه، فإن أيّ مشروع مقاومة لا يُواجه إسرائيل ويُواجه إيران معًا، ليس مشروع تحرير، بل مشروع استغلال.

ما بين تل أبيب وطهران، نقف حيث يجب أن نقف:
مع الشعوب، لا مع السلاح الموجَّه ضدها.
مع العدالة، لا مع موازين القوة.
مع صوت اللاجئ، لا مع من يسرقه أو يستغله.

فلسطين لا تُختزل في معركة إقليمية بين متنازعين على النفوذ، ولا يُدافع عنها من خان حلب والموصل وتعز.
عدالة قضيتنا لا تسمح بانتقائية في الغضب، ولا بازدواجية في الحزن.
من قُتل في اليرموك لا يقلّ شأنًا عن من يُقتل في غزة.
ومن صمت عن الأول، لا يُؤتمن على الثاني.

ختامًا وبكلمة: في هذا الغبار المتصاعد من المعارك، نحن مطالبون بأن نُبقي عيوننا مفتوحة، وضمائرنا يقظة.
فلسطين لا تُحرَّر على جثث السوريين، ولا تُنصر بصمت القبور في اليرموك.
ومعركتنا الحقيقية ليست فقط ضد المحتل… بل أيضًا ضد من يستغلّ دمنا باسمه.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى