لم يعد نظام دمشق، المستبد، يدير السياسة في سورية، أو أنَّ له دوراً في السياسة الإقليمية، كما قبل 2011. صار ملحقاً للسياسات الإيرانية والروسية بعد ذلك العام، وبتتالي الأعوام، ووصولاً إلى 2024 أصبح جثّة وتنتظر الدفن؛ فقط يعيق ذلك أوصياؤها، والمتدخلون الدوليون والإقليميون.
بعد طوفان الأقصى، وابتعاده عن التضامن مع غزّة وفلسطين، تبدى نظام دمشق كأنّه ينتظر مكافأة لدوره هذا. ينتظر أن يُعاد تعويمه عالمياً ودولياً؛ هي أوهام محضة، ورغم محاولات كلٍّ من السعودية والإمارات إسناده كي لا يسقط، وقد أرسلتا سفيريهما إلى دمشق، وربما يبحثان له عن صفقةٍ ما مع الدول المتدخّلة في سورية، فإنهم يسيرون بخطوات خاطئة، حيث لن تشتريها الدول المتدخّلة، والنظام بحكم الميّت؛ فلا الدولة الصهيونية بقادرة، وهي في أسوأ حالاتها، وأتت الدول الغربية لإسنادها بدورها، وليس من صفقةٍ ستتقبلها إيران وستتنازل بموجبها عن حصصٍ لها في سورية، وهي المتوهمة بأنها ستظلُّ مهيمنة، وتركيا مقيدة بسياسات الروس والأميركان بما يخص سورية، والأخيرتان ليستا في وارد الاتفاق على ذلك التعويم، وكذلك لا تضعان خطة لإنهاء الوضع المتعفن في سورية.
مؤلم للغاية ألّا يرى السوريون أملاً في نهاية النفق، وأن يروا أن النفق يزداد عتمة وغياباً لأي سيناريو ما لنهوض بلدهم. لا يصح الكلام عن تبعيّة النظام وضعفه الشديد، من دون الكلام عن ضعف المعارضة السورية، الرسمية والممثّلَة في الائتلاف الوطني ومن خارجها، وحتى انتفاضة السويداء لم تستطع انتشال سورية، وبدت وحيدة في مسارها الذي يقترب من النصف عام، وتبدو منهكة في الأشهر الأخيرة؛ لم يهتم بها بقية السوريين، ولا الدول المتدخّلة. والائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة لا يمتلك أيَّ مشروعٍ وطني أو أيّة شرعيةٍ، دولية أو إقليمية، وتقتصر نشاطاته على بعض الاجتماعات واللقاءات في مناطق سيطرة الفصائل التابعة لتركيا.
غير النظام والمعارضة، هناك قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وهيئة تحرير الشام، والاثنتان تتنافسان في السوء مع النظام، وتتبنيان أنظمة شمولية، واحدة تسمّيها ديمقراطية والأخرى إسلامية. لا تحوز الاثنتان على صفة الوطني، ولا تمتلكان مشروعاً لبقية سورية، وموقفهما من التدخّل الخارجي هو التبعية لهذه الدولة أو تلك. “الأنظمة” السورية هذه تكمّل دور سلطة دمشق في التبعية، وتفسيخ البلد. وعدا عن الأزمات الشاملة، هي تعيق ولادة أيّة قوى وطنية وعابرة للسوريات تلك، أو تحاول طرح الأسئلة السورية الصعبة، والتي تبدأ بكيف يجتمع السوريون على مؤتمر للخلاص، وإنهاء الأنظمة تلك، والتدخّلات الخارجية، والنهوض بكل جوانب الحياة السورية. المفجع أن هذا السؤال لا يتبنّاه الفاعلون السوريون؛ فالجميع أصبح بدوره كجثةٍ وتنتظر الدفن؛ لأسباب داخلية، ولما يجري في غزّة من تدميرٍ لمدنها أو مجازر تُرتكب بأهلها، وقد قاربت مأساتها على الخمسة أشهر، والقتلى والجرحى فاقت أعدادهم المائة ألف.
النظام الذي حاول أن يغيّر من آلياته في الأشهر الأخيرة “ضمن أجهزة الأمن وحزب البعث والرئاسة والجيش وحتى اتحاد الطلبة” منقسمٌ على نفسه، والشخصيات الرئيسية مختلفة التوجّهات، والتبعية (الرئيس، أخوه، زوجته). وربما يوضح هذا الانقسام غياب الخطة الفعلية للإصلاح، وبالتالي، هي محض تزجية للوقت. إنّه، لا يستطيع تغيير موقع التبعية من إيران للسعودية وللإمارات وللأردن ومصر مثلاً، وضمن مسار الخطوة خطوة. المسار العربي هذا لا يحمل الخير لسورية، هو مسار أنظمة لا تقيم وزناً للديمقراطية، ولا تمتلك مشاريع للنهوض، ولن يكون تفسيرها القرارات الأممية المنصفة للشعب السوري أفضل من تفسير النظام القائم. يمتلك السوريون أوهاماً كثيرة بشأن المسار العربي، ولو افترضنا فعلاً أنّه يقترب من القراءة الغربية، أي تطبيق قرار مجلس الأمن 2254 واستناداً إلى بيان جنيف 2012، فإن إيران وروسيا ستُميّعان وتمنعان أيّة خطوات بهذا الاتجاه. إيران هذه ترسل دبلوماسييها وقادتها العسكريين وبصورة مستمرة، أو عبر حزب الله، وذلك لتذكير النظام بأنّ التفاوض على مستقبله يتمّ في طهران، وبالشراكة مع روسيا، ولهذا فشل المساران العربي والتركي، وقبالة ذلك تزداد أوضاع النظام تأزّماً، ولهذا، لن تساهم آلياته الإصلاحية أبداً في تغيير سياساته، وسيظلُّ الوضع متأزّماً، وسيزداد.
المعارضة بدورها، وعدا عمّا ذُكر أعلاه، مشتّتة، ومشاريعها أقرب إلى الذاتية، أو لهذه الشلّة أو تلك، وهي تابعة لهذه الدولة أو تلك، بينما تغيب المشاريع العامة أو المؤتمرات العامة لإنقاذ سورية من فكوك الدول المتدخلة فيها، ومن التأزم المستمر.
أحوال الشعوب من أحوال الأنظمة، ولا يبدو أنّ السوريين قادرون على الانفكاك من ثقل أزمات الأنظمة والمعارضات؛ إذ لم يستجب أهل بقية المحافظات لانتفاضة السويداء، والتي لم يشارك أهلها بأعداد ضخمة، فأكثر من 80% من أهلها لم تطأ أقدامهم ساحة الكرامة. أيضاً لم يتظاهروا لما يحصل في غزّة؛ ليس الشعب السوري فقط بل أغلبية الشعوب العربية. سوريّاً، هذه أسوأ فترة يمرّون بها، وبعيداً عن الكلام عن قلب العروبة، وأن فلسطين راسخة في وجدان السوريين، فإن مشاركاتهم حتى في المنافي، والمظاهرات الغربية هناك حاشدة، في غاية الهامشية.
رغم الإشارة إلى بعض أحوال السوريين هنا، فإن أوضاعهم ستزداد سوءاً؛ سماء سورية حكرٌ للدول المتدخلة، وأرضها مقسّمة بينهم، والسؤال عمّا ستكون عليه الأحوال، إن ظلّت الأوضاع تتجه نحو مزيد من التبعية، والانقسامات الاجتماعية، والاحتلالات ورسمها الخرائط الجديدة، فهل تتّجه نحو التقسيم؟
تبدو أحوال سورية كجثّةٍ متفسخةٍ؛ ينهش المتدخّلون بها، ويشيح أهلها أنظارهم عنها، أو ينهشونها. هذه الأحوال أمام مفترقٍ حقيقي، إمّا المزيد من التعفّن والانقسام والتبعية والمشاريع الذاتية والشللية. ولا قيمة لإصلاحات النظام ولا المسار العربي كذلك، وإمّا العودة إلى تبنّي المشروع الوطني الجامع، والانفتاح على كل الرؤى والمشاريع السورية، التي تعزّز المشروع المذكور. لم يعد للنظام والائتلاف الوطني للمعارضة أيّة أدوار في النهوض، بينما بقية القوى، ومهما كان الاختلاف فيما بينها، هي من عليها المسؤولية التاريخية في إنقاذ سورية، واستعادة استقلالها الوطني وحضورها الإقليمي والعربي.
المصدر: العربي الجديد
ألم يعد نظام طاغية الشام المستبد له دوراً في السياسة الإقليمية، كما قبل 2011 ؟. بعد أن أصبح ملحقاً لسياسة الدول المحتلة الإيرانية والروسية بعد جلبهم لحمايته بعد الثورة، حتى أصبح جثّة وتنتظر الدفن بعام 2024، لأنه أصبح عائق أمام المتدخلون الدوليون والإقليميون ،قراءة موضوعية وتحليل دقيق .