
ثمة تداعيات أكيدة للمعركة الإسرائيلية-الإيرانية على الحرب في غزة، وحتى المنطقة برمتها. وببساطة، فهي ارتبطت ولو بشكل غير مباشر بالحرب، وانتهاؤها خلال أيام أو أسابيع قليلة وفق مجرياتها الحالية سيعنى مباشرة إنهاء الحرب في غزة، علماً أن ذلك بات مسألة وقت وسؤال متى لا هل، بعدما استنفذت أغراضها وإثر الضغوط الداخلية والخارجية على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لإنهاء الحرب العبثية والانسحاب من غزة وفتح الباب جدياً أمام سيناريوهات واقعية لليوم التالي فيها، بعيداً عن أوهام وخطط التهجير والفوضى والحرب الأهلية.
بداية، لسنا بالتأكيد أمام حرب إسرائيلية-إيرانية ولو كان الأمر مغرياً وجذاباً للتوصيف. فإسرائيل أسمتها عملية “الأسد الناهض”، وردت إيران بتسمية “الوعد الصادق 3″، دون الوصول إلى إعلان الحرب رسمياً رغم ضراوة وإهانة الضربة الاسرائيلية الأولى. وعليه، وأمام القصف المتبادل لكن غير المتكافئ، ليس بإمكاننا الحديث عن حرب –لم تسميها أطرافها نفسها كذلك- كما إن العمليات لن تتوسع إقليمياً، مع تحييد الأذرع الإيرانية، خصوصاً في لبنان وإسقاط الشعب السوري نظام بشار الأسد، وهو ما نجد برهاناً ساطعاً عليه في طلب حكومة بغداد من إيران عدم استهداف قواعد أميركية في العراق، على افتراض أنها تريد وتخطط لذلك فعلاً.
لا شك أن معركة تبادل الضربات الراهنة، ناتجة بشكل عام عن حالة عدم الاستقرار الناتجة عن الحرب الإسرائيلية ضد غزة، لكنها ليست مرتبط مباشرة بها، وكانت ستقع بكل الأحوال، على الرغم من أنها للمفارقة ستكتب الفصل الأخير في الحرب ضد غزة.
المشهد مركب ومعقد بالتأكيد، ولكن تفكيكه يسهّل فهمه حيث استعدت إسرائيل لمواجهة ومعركة ضد إيران بذريعة ملفها النووي منذ سنوات طويلة، وحاول نتنياهو ذلك كما أقر شخصياً منذ أيام، قبل 15عام تقريباً، لكنه تلقى رفضاً قاطعاً من البيت الداخلي ورؤساء الأجهزة الأمنية الثلاث – الجيش والشابك والموساد- الذين حرّضوا ضده الرئيس آنذاك شيمون بيريز، ثم تخلى عنه شريكه ومعلمه وزير الدفاع الجنرال إيهود باراك أمام ممانعة قاطعة من البيت الأبيض بقيادة الرئيس باراك أوباما، الذى وضع “فيتو” على العملية كما التدخل والتأثير الإسرائيلي بالمفاوضات النووية مع طهران.
يجب الانتباه كذلك إلى إزاحة الخيار العسكري إعلاميا عن جدول الأعمال، لكن مع خوض معركة سياسية وإعلامية ضد طهران لإبقائها تحت الضوء وإزاحة القضية الفلسطينية عن دائرة الضوء والاهتمام، مع أفكار مثل السلام الاقتصادي وإدارة الصراع، ثم وصلت الغطرسة إلى محاولة حسمه أولاً مع صفقة القرن، ثم استغلال حرب غزة لتدميرها وتصعيد خطط الاستيطان والتهويد والضم في الضفة الغربية ولو بشكل صامت وبعيد عن الأعين.
بالتوازي وبعيداً عن العلن، كان السعي الإسرائيلي الجدي للمواجهة مع إيران قد انطلق بالعمل على تحييد الذراع الإقليمي لها المتمثل بحزب الله، باعتباره خط الدفاع الأول عن طهران من وجهة النظر الإسرائيلية وحتى الإيرانية، مع التذكير بتصريح بنفس المعنى لرئيس الاركان الإيراني السابق فيروز نجف أبادى باكرا. وبدا السعي الإسرائيلي العملي بعد حرب تموز/يونيو 2006 مباشرة، وفى 2012، وبعد اكتمال اختراق الحزب، قال قادة الموساد لنتنياهو –كما نقل موقع “واللا”- إن الطريق باتت ممهدة أمامه لضرب ايران اذا أراد دون القلق من الذراع الذى بات بالإمكان تحييده وكسره بسهولة ودون أثمان كبيرة، وهو ما حصل فعلاً في الحرب الأخيرة التي أخرجت الحزب من دائرة الصراع، ولكن للأسف بأثمان باهظة على لبنان.
بالتوازي وخلال العقد الماضي، جرت مياه كثيرة في جداول المنطقة مع اندلاع الثورات العربية واتفاق أوباما النووي مع طهران وتدخلها الفاضح في الدول العربية، وعليه، لم يكن بإمكان تل أبيب التفكير بوضع الخيار العسكري ضد إيران علنياً على الطاولة، ناهيك عن تنفيذه.
نظرياً، جاءت الخطوة الأولى لإعادة الاعتبار للخيار العسكري، مع إقناع نتنياهو للرئيس الأميركي دونالد ترامب في ولايته الأولى بالانسحاب من الاتفاق النووي، لكن مع إبقاء التفاوض كخيار على الطاولة تحت التهديد بسيف العقوبات القصوى. وبنظرة الى الوراء أيضاً، فتح اغتيال ترامب بتشجيع إسرائيلي، لقائد فيلق القدس السابق قاسم سليماني، الطريق للمعركة والمواجهة الإسرائيلية المباشرة مع إيران، ثم جاءت حرب غزة وتدميرها واعتبارها جبهة ثانوية – آب/أغسطس الماضي – والانتقال لتحييد حزب الله – أيلول/سبتمبر- واعتبار الطريق مفتوحاً سياسياً وميدانياً إلى طهران وبالتالي وضع الخيار العسكري جدياً على الطاولة هذه المرة.
جرى التجريب للمواجهة المنتظرة مرتين وأيضاً للمفارقة بأجواء حرب غزة أولاً، في نيسان/أبريل 2024، ثم تشرين الأول/أكتوبر من العام نفسه، بسيناريو ليس منفصلاً عما نراه الآن لجهة الضربات المتبادلة ولكن غير المتكافئة مع اختراق إسرائيلي كبير وفاضح ومهين للعمق الايراني، بينما لا يتناسب أداء طهران ابدا مع تصوير نفسها كقوة إقليمية عظمى وادعاء القدرة على تدمير إسرائيل خلال دقائق في حال ارتكابها أي خطا أو مغامرة.
بالعموم، لن تستمر المواجهة طويلاً، ربما أيام كثيرة أو أسابيع قليلة، وستتمكن إسرائيل من القضاء، أو بالحد الأدنى تفكيك وإضعاف مكامن القوة الإيرانية الأربعة – البشرية والنووية والصاروخية والمسيرة – مع خسائر بشرية يمكن تحملها من وجهة تل أبيب. وسيزعم نتنياهو دخوله التاريخ كأسلافه المؤسسين للمشروع الصهيوني، مع سعي لمحو عار 7 أكتوبر، وإنهاء الحرب والانسحاب، وستكون انتخابات مبكرة قد لا يشارك فيها مع سعيه للخروج من الحياة السياسية بصفقة مع النيابة تجنبه السجن ولا تحول دون دخوله التاريخ كمن قضى أو أجهض وفكك المشروع النووي الإيراني.
وعليه ستكون صفقة لتبادل الأسرى وطي ملفهم وفق اقتراح المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف، مع تعديل وتحديث ما يضمن وقف النار نهائياً والانسحاب الإسرائيلي والخوض جدياً في سيناريو اليوم التالي بغزة، بعيداً عن جنون وهوس الحرب الأهلية والتهجير ونموذج ياسر أبو شباب غير القابل للحياة والنجاح، مع جدول زمني مرن فيما يخص إدارة غزة وإعادة الإعمار واليقين أن الاستقرار لن يعمّ المنطقة بغياب حلّ أو على الأقل شق مسار جدى لا رجعة عنه لحل القضية الفلسطينية العادلة وفق ما يرتضيه أهلها وداعميهم وهم كثر عربياً وإقليمياً ودولياً.
المصدر: المدن