الهجوم الاسرائيلي على إيران … موقف ورؤية 2

د- مخلص الصيادي

في المقال الأول بهذا. العنوان حاولنا أن نسلط الضوء على الحدث، وعلى دوافعه، وعلى تقويمنا له، وعلاقته بقضايانا وفي المقدمة منها القضية الفلسطينية، واستند ما قدمناه إلى رؤى ومواقف مبدئية استراتيجية، وإلى فهم لطبيعة المشروعين الصهيوني الدخيل على المنطقة والبديل لوجودنا ومشروعنا الحضاري. والفارسي الامبراطوري القائم على نظرية ولاية الفقيه.

في مقال اليوم نتحدث عن المعركة الدائرة منذ فجر الجمعة ١٣ / ٦، والمستمرة إلى أمد لم يحدد أفقه بعد:

١-هذا الهجوم الاسرائيلي غير المسبوق تم بعد أن أعيد تسليح الجيش الاسرائيلي بأحدث الأسلحة القادرة على تحقيق اختراقات للأعماق المحصنة، وبعد أن تمكنت أجهزة الاستخبارت الاسرائيلية المتعاونه مع نظائرها في الدول الغربية من تحقيق اختراقات غير مسبوقة ومفتوحة الآفاق، أمكن من خلالها توفير معلومات لوجستية عن المواقع العسكرية والبحثية، والمنشآت والمواقع ذات الصلة بالبرنامج النووي والصاروخي، والقيادات العليا العسكرية وقيادات الحرس الثوري، والقيادات السياسية. ووصل حدود الاختراق المعلن أن تمكن الاسرائيليون من  إقامة قواعد اطلاق وتجهيز للطائرات المسيرة على الأرض الإيرانية نفسها مستعينة بشبكة من الجواسيس، والقوات الخاصة الاسرائيلية المتسللة إلى الداخل الإيراني.

٢- وأسفر هذا الهجوم المباغت والذي تستر خلف تحركات سياسية أمريكية اسرائيلية خادعة كانت توحي باستبعاد هجوم بهذا الوقت والاتساع، إلى إصابات شديدة الخطورة والتأثير، حيث أتى على طبقة كاملة من القادة العسكريين، والعلماء النوويين، لم يسبق أن سقط مثلهم  وبهذه السرعة في أي حرب أو معركة في العصر الحديث.

 ولأن الأهداف المقصودة والمرصودة كانت على امتداد الأرض الايرانية، فإن الهجمات أصابت وما زالت تصيب الحياة العامة في هذا البلد  باضطراب شديد، وفي الوقت نفسه حفزت  وأظهرت تحديا للروح الفارسية المتجذرة، ولنظرية ولاية الفقيه الامبراطورية. فاستفزت على الفور العصب الديني والقومي في إيران، وهو ما جعل تصور أن ولادة تحرك شعبي داخلي حاسم ضد نظام الملالي، مستبعد كليا، لأنه مناف لطبائع الأشياء.

٣- وإذ  سجلت الضربات الاسرائيلية تحقيقا لأهداف كثيرة، فإنها عجزت عن “شل” قدرة ايران على الرد، وأظهرت القيادة الايرانية قدرتها على امتصاص هذا الهجوم المباغت والمستمر، وقدرتها على الرد على هذا العدوان ردا  واسعا ومستمرا غطى كل مناطق ومواقع ومؤسسات الكيان الصهيوني، وأصاب حياة المجتمع الاسرائيلي بالإضطراب  والجزع والخوف، وأظهر أن هذا الكيان بكل ما يحتويه، لا يمكن أن يكون أوسع من “كيان مصطنع”، وهو “أصغر” من أن يستطيع التحكم بدول إقليم الشرق الأوسط كما كان مخططا له، وأن حلمه بتحقيق  ذلك أكبر بكثير من قدرته، وأن صراع النفوذ بينه وبين إحدى دول الإقليم المركزية وهي هنا “إيران”، ليس من السهل ولا اليسير أن يحسم لصالحه. أي أنه ليس في مقدور هذا الكيان أن يقوم منفردا بهذه المهمة.

إن إضطرار الاسرائيليين للحياة في الملاجئ أياما طوالا، جعلهم يكتشفون مجددا حدود الزعم بأنهم في مجتمع آمن، وحدود الزعم بقدرة أي تسليح أو ترتيب أو رعاية خارجية على توفير الأمن والأمان لهم.

٤- ورغم التجهيزات العسكرية واللوجستية المتكاملة التي تجندت بها اسرائيل في تنفيذ هجومها، فإنها سرعان ما أدركت أنها غير قادرة على حماية نفسها لا من الصواريخ فرط صوتية، ولا من الطائرات المسيرة، ولا من الاختراقات الأمنية، وكل هذا توفر لإيران، ما دعا قادة الكيان  إلى طلب الحماية أو طلب المشاركة في الحماية من الولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنسا، والمانيا..الخ.

أي إنها اكتشفت مرة أخرى وكشفت لأفراد مجتمعها أنها عاجزة عن حماية نفسها، وأنها عسكريا وأمنيا، غير قادرة على الاستغناء عن الدول المنشئة والراعية لها، وفي هذا اثبات عملي على أنها كانت وما زالت “مشروعا غربيا” مزوعا في منطقتنا، يستمد أسس حياته وقدرة استمراره من صانعيه.

٥- وإذا كانت آلة الحرب والدمار الاسرائيلية والمتفلتة من كل القيم والأخلاق وقوانين وقواعد الحرب والصراع لم تستطع أن تحسم المعركة مع مجموعة من المجاهدين في غزة، وبدت “اسرائيل” عارية ومكشوفة وعاجزة بعد  أكثر من سنة ونصف السنة من بدء عدوانها المستمر على هذا القطاع، فكيف هي إذا في معركتها مع إيران.

لقد حاولت حكومة العدو عبر كل الأشهر السابقة أن تحسم وضعها إزاء غزة بتطبيق سياسة التطهير العنصري، والدمار،  والتهجير، واقتلاع الناس من أرضهم ووطنهم، وعجزت عن تحقيق ذلك، فكيف لها أن تنجح وهي في مواجهة إيران ، الدولة الإقليمية الكبرى. وبالتالي فإن عجزها حقيقي في مواجهة أي دولة إقليمية كبرى، وفي إقليم “الشرق الأوسط” دول عدة تصنف في عداد “الدول الإقليمية الكبرى”.

لقد صار واضحا أن انتصار اسرائيل على إيران انتصارا حاسما غير ممكن، وأن قدرتها على تغيير النظام الإيراني بهذه الطريق أمر يفوق طاقتها.

٦ – يبقى التساؤل عن قدرة اسرائيل على تدمير المشروع النووي الإيراني، وهو الهدف المعلن من هذا الهجوم، وأيضا بات واضحا أن تحقيق هذا الهدف ممتنع  أيضا، وإذا كان من غير المستبعد أن تؤدي هذه الحرب إلى عرقلة المشروع النووي، لكن العرقلة أمر ظرفي، ومن شأن هذه المعركة استراتيجيا أن تجعل إيران أكثر تصميما على الوصول إلى هذا السلاح بعد أن اختبرت بوضوح كيف أن غيابه جعلها عرضة لأي هجوم عسكري خارجي، وأن تجعلها تحرر نفسها من كل الالتزامات السابقة التي كانت تحول دون جهرها بالعمل لتحقيق هذا الهدف.

إن لدى إيران

** العقيدة اللازمة لصنع السلاح النووي ذاته، أي القنبلة النووية.

** وهي تمتلك بكفاءة الصواريخ المتنوعة اللازمة  لحمل لهذا السلاح، ونقله إلى هدفه. وتقنية هذه الصواريخ.

** وتملك على قاعدة علمية نووية وطنية يمثلها العلماء الايرانيون، ومراكز البحث الذرية.

** وقد وفرت لمشروعها النووي انتشار بنيته ومراكزه ومواقعه على طول البلاد وعرضها مما يمنع نجاح العدو  من استهدافها جميعا.

** كما توفرت لديها، ومن مناجمها خامات اليورانيوم والمعادن الخاصة بهذا السلاح.

** ويملك الاقتصاد الإيراني القدرة على تحمل تكاليف البرنامج النووي بمختلف أوجهه، ولا تعيقها العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها إلا جزئيا، وبشكل مؤقت.

** وإضافة لكل ما سبق تقوم في  إيران سلطة “مركزية عقدية محكمة” يمثلها “الولي الفقيه”، قادرة على ضبط الحركة في هذا المشروع.

٧- لكل ما سبق يبدو للمتابع المطلع والمسؤول  أن فشل “اسرائيل” في تحقيق الهدف المعلن من هذا العدوان هو المرجح، وبحكم مسؤوليتها تتقدم الولايات المتحدة الأطراف التي تدرك ذلك، وهي أعلنت على لسان الرئيس دونالد ترامب تطلعها إلى إنجاز “صفقة” تتوقف من خلالها هذه الحرب، ويتم التوصل إلى تجميد البرنامج النووي الايراني بصيغ مرنة، ومفتوحة على احتمالات عدة.

لكن لطبيعة القيادة في طرفي الصراع: القيادة الإيرانية، والقيادة الإسرائيلية، فإن تحقيق اتفاق حقيقي له صفة الديمومة ممتنع تماما كامتناع تحقيق أي من الطرفين لنصره المبتغى. وهنا يتكشف المأزق الحقيقي للجانب الاسرائيلي. قبل أن يكون مأزقا للجانب الإيراني.

إن إيران دولة طبيعية تلبستها قيادة دينية توجهها نظرية ولاية الفقيه. وبالتالي فإن مشكلتها في أنها تريد أن تمارس دورا إقليميا ودوليا لا يتسق مع حجمها الإقليمي الطبيعي والمفهوم، وإنما يمتد ليستوعب نظريتها الدينية التي تغطي “كل الشيعة، وتستهدف كل السنة”.

فيما اسرائيل وجود غير طبيعي، وجود وظيفي، لا تستند إلى قوتها الطبيعية، أو حجمها الطبيعي، وإنما تستند إلى الدور المناط بها، فهي تريد السيطرة على المنطقة كلها، وأن تقود هذه المنطقة في الاتجاه الذي رسمته قوى الامبريالية الصهيونية.

هي ليست جزءا من المنطقة، ولا تنتمي إليها، ولا ينتمي الناس فيها إلى هذه المنطقة.

لذلك يمكن لإيران أن تتعايش مع دول المنطقة، كما تعايشت من سابق، لا يعيبها ويمنعها من ذلك إلا الطبيعة الامبريالية الدينية لنظرية ولاية الفقيه، فيما لا يمكن لإسرائيل ذلك لأن وجودها كله يمنع ذلك،

إن هذه الحرب تكشف مأزق الكيان، وعند هذه النقطة لا تعود هناك قيمة حقيقية إيجابية لكل اتفاقات السلام أو التسوية، أو الاتفاقات الابراهيمية.

وفي هذا المستوى من التحليل تظهر هذه الاتفاقات على حقيقتها باعتبارها حدثا طارئا يدرك قادة الكيان ويدرك رعاته حقيقته، لكنهم يسعون إليها لأنها تحقق لهم هدفهم في تفتيت دول المنطقة العربية، وتخريب بنيتها الاجتماعية، وبالتالي تحقيق هدفهم في السيطرة عليها.

٨- في مسار هذه المعركة كان مهما للغاية جزع “المجتمع الاسرائيلي: بينما كانت الصواريخ والمسيرات الإيرانية تتساقط عليه في كل مكان، فكأن فيه بعض العزاء مما يلاقيه أهلنا في غزة من فظاعة العدوانية الاسرائيلية

وكان مهما أيضا الاستبشار الشعبي العربي من هذه المشاهد ولسان حال المواطن العربي يقول: فليذق الاسرائيلي بكل تصنيفاته وأدواره وتوزعه في الجغرافيا الفلسطينيةالمحتله بعضا مما يذوقه صاحب الحق والأرض من الاسرائيلي المحتل.

ولسان حاله يقول أيضا وهو يرى أثر الفعل الإيراني في الكيان: لو أن أحدا في النظام العربي صدق في معاداته لهذا الكيان، وصدق في تأييده للحق وللشعب الفلسطيني لحسم الأمر منذ زمن بعيد.

استبشار المواطن العربي لما يحدث في المجتمع الاسرائيلي من هذه الحرب له من المعاني والدلالات الكثير، وسيكون هذا كله تحت مجهر الباحثين قي مرحلة قادمة.

٩ – هذه الحرب فتحت الإقليم كله، بل وصفحة من صفحات الموقف الدولي كله على احتمالات عدة، وكلها تنحصر بين ضرورة الحسم واستحالة النصر، بين رعونة قرار اسرائيل فتح باب هذه الحرب، وعجزها عن محاصرة آثارها السلبية على المجتمع والمشروع الصههبوني، وحين يعتبر رئيس وزراء الكيان أن اغتيال مرشد الجمورية الايرانية بات ضروريا لتحقيق النصر المرجو، فإن هذا دليل إضافي على أبعاد مأزق الاستراتيجي الذي دفع نتنياهو المجتمع الاسرائيلي إليه.

وفيما عدا هذه القيادة الاسرائيلية البائسة يبدو مهما لكل الأطراف التوصل الى وقف هذه الحرب، وحين نوسع دائرة الرؤية لتشمل ما هو أعد من دول الاقليم سيتضح لنا أن الطرف الوحيد الذي سيكون متأذيا من وقف هذه الحرب هو الطرف الاسرائيلي.

١٠ – ورغم كل الجراح والجرائم التي أوقعتها وارتكبتها في الجسد العربي: في سوريا والعراق ولبنان وفلسطين، فإن في مقدور طهران أن تكون الكاسب الأهم من هذه المعركة، وأن تقلب موازين القوة في كل هذا الإقليم من خلال جعل تصديها لهذا العدوان الاسرائيلي، وهذا التكالب الغربي لحماية المعتدي مناسبة لإعادة النظر في تبنيها لنظرية “ولاية الفقية”، وأن تعمل على ترميم ما أحدثته سياساتها التي بنيت على هذه النظرية من تخريب في حياة دول عربية واسلامية عديدة، وأن تتحول لتكون قوة عمل وبناء ايجابي في المنطقة كلها. وقوة سلام اجتماعي ونهضوي .

قد يبدو هذا التطلع بعيد المدى لكنه المخرج الوحيد لإيران ولإقليمنا كله للانتقال إلى مرحلة جديدة. تنال فيها كل دولة فيه، وكل أمة من أممه ما تستحقه، ويستحقه تاريخها وبنيتها الحضارية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى