اندلعت الحرب بين الكاثوليك والبروتستانت المنشقين وامتدت لثلاثة عقود وبلغ عدد ضحاياها 12 مليوناً وانتهت باتفاق ويستفاليا وإرساء نظام جديد.
لم تكن حرباً اعتيادية كسابق أحوال الحروب التي خاضتها الدول الأوروبية عبر تاريخها الطويل، لا سيما أن منطلقاتها لم تكن أيديولوجية، بل دوغمائية، بمعنى أن منشأ الخلافات تجاوز الأمور السياسية، من سطوة ونفوذ، أو بسط السلطة على مساحات من البر والبحر، بل كان الشقاق والفراق مذهبياً، بين الكاثوليك الأوروبيين، بقايا الإمبراطورية الرومانية المقدسة من جانب، وبين البروتستانت المنشقين عن الكنيسة الرومانية الكاثوليكية من أتباع مارتن لوثر.
تبدو قصة هذه الحرب أقرب ما تكون إلى الجنون، ذلك أنها امتدت لنحو 30 عاماً، أي لثلاثة عقود ظل الأوروبيون يتشاحنون ويتطاحنون، من عام 1816 إلى 1846.
انتشرت الحرب في عموم أرجاء القارة الأوروبية، وربما يكون تحديد عدد ضحاياها أمراً ليس باليسير، غير أن هناك من الإحصاءات ما يشير إلى 12 مليون نسمة، مما أدى إلى إصابة كبريات الدول الأوروبية بأزمة ديموغرافية حقيقية، فعلى سبيل المثال تراجع عدد سكان ألمانيا إلى نحو 30 في المئة بشكل عام، فيما تراجع عدد الذكور إلى النصف تقريباً بعد أن قضوا نحبهم في ميادين القتال.
هل نحن أمام معركة واحدة قائمة بذاتها مثل معارك مجدو وأكتيوم واليرموك وسواها من المعارك التاريخية؟
بالقطع لا، ذلك أنها سلسلة متصلة من الصراعات الدامية التي مزقت أوروبا، بدأت في أراضي أوروبا الوسطى (غالبيتها في ألمانيا الحالية) التي كانت تعود للإمبراطورية الرومانية المقدسة، وتباعاً بدأت معظم القوى الأوروبية الموجودة في ذلك العصر في خوض غمار المعارك، فيما عدا إنجلترا وروسيا.
في الجزء الثاني من حرب الأعوام الـ30، امتدت المعارك إلى فرنسا والأراضي المنخفضة وشمال إيطاليا وكتالونيا في إسبانيا.
على أن علامة الاستفهام المهمة والمثيرة في الوقت ذاته: هل كانت هذه الحرب دينية بالمطلق، أم سياسية مغلفة بغلاف ديني؟
يبدو أن هناك تدرجاً ما طرأ عليها، إذ اندلعت في الأصل من خلال صراعات دينية بين الكاثوليك والبروتستانت، وآلت إلى صراع سياسي من أجل السيطرة على مقدرات الدول الأخرى، بين فرنسا وهابسبورغ (النمسا حاليا).
جرى التلاعب على الدين والسياسة معاً بهدف السيطرة على دول الجوار، فعلى سبيل المثال ساندت فرنسا الكاثوليكية التي كان يدير غالبية شؤونها الكاردينال ريشيليو، بهدف إضعاف الجانب البروتستانتي في الحرب وبخاصة منافسيهم في هابسبورغ، إذ كانت فرنسا تسعى تحديداً لتعزيز نفسها بصفتها قوة أوروبية بارزة، مما زاد من حدة التناحر بينهما، وأدى الأمر لاحقاً إلى حرب مباشرة بين فرنسا وإسبانيا.
على أنه يتوجب بداية ولو في اختصار غير مخل، تقديم صورة عن أوروبا الدينية المتنازعة بين الكاثوليكية والبروتستانتية أول الأمر لفهم أبعاد الصراع.
أوروبا بين الكاثوليك والبروتستانت
عانت المسيحية بشكل عام في أوروبا على مدار ثلاثة قرون منذ أن ذهب بطرس الصياد كبير الحواريين إلى روما عاصمة الإمبراطورية الرومانية، مبشراً بالمسيحية، وشهدت عصور بعينها اضطهاداً غير مسبوق في تاريخ البشرية، لا سيما في عصر الإمبراطور دقلديانوس.
غير أنه وبحلول عام 333، أصدر الإمبراطور الروماني قسطنطين مرسوماً عرف باسم “مرسوم ميلان”، أعلن فيه حياد الإمبراطورية الرومانية بشؤون العبادة، مما أزال العقبات أمام ممارسة الشعوب الرومانية للطقوس المسيحية التي بدأت تنتشر من دولة إلى أخرى عبر القارة.
مضى الزمن بسفينة هذه المؤسسة التي تحولت يوماً بعد الآخر إلى إمبراطورية مقدسة، كان ثقلها الرئيس في الجانب الألماني، كما يتجلى في قصص الإمبراطور شارلمان، إذ لم يكن وارداً في وقتها أن يصل أحد هؤلاء الأباطرة إلى الحكم من غير مباركة البابا.
لنحو 16 قرناً لم تعرف الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، وإمبراطوريتها السياسية الممتدة عبر أرجاء أوروبا أي نوع من أنواع الانقسامات أو الانشقاقات إلى حين ظهور القس الألماني المنشق عن الكنيسة الكاثوليكية، الذي كان أحد رهبانها، المدعو “مارتن لوثر”، ذلك الراهب الأوغسطيني، الذي نذر لله الرهبنة إن أنقذه من عاصفة صاعقة.
تمرد لوثر على القيادة الكنسية في روما وعلق على باب “كنيسة جميع القديسين” لوحة احتجاج تتضمن اعتراضات بها 95 نقطة، وكان ذلك في عام 1517.
اعتبر لوثر منشقاً رسمياً ومحروماً من الكنيسة الرومانية، لكن السهم كان نفذ وتبعته جموع كثيرة في بلاد متعددة مما شكل لاحقاً ما يعرف اليوم بالتيار البروتستانتي المسيحي، الذي لا يطلق عليه لفظة كنيسة.
رويداً رويداً كانت المناقشات اللفظية والذهنية، تتحول إلى مواجهات ذات طبيعة عصبية متشددة، إلى أن بلغ الأمر حد القطيعة، ثم المواجهة والحروب وسفك الدماء، ومن هنا كان الطريق معبداً لزمن الحرب الثلاثينية التاريخية.
هل جرت محاولات للصلح بين الأوروبيين كاثوليك وبروتستانت قبل أن تشتعل حرب الأعوام الـ30؟
المؤكد أن هذا ما جرت به المقادير بالفعل، وعرف باسم صلح “أوغسبورغ” الذي وقع في الـ25 من سبتمبر (أيلول) 1555، بين فرديناند الأول الذي حل محل أخيه شارل الخامس كإمبراطور روماني مقدس، وبين قوات اتحاد منطقة شمالكادي حليفة الأمراء اللوثريين، بمدينة أوغسبورغ في بافاريا بألمانيا.
بدا أول الأمر أن هذه المعاهدة أنهت رسمياً الصراع الديني بين الطائفتين، وخلقت فصلاً قانونياً دائماً للمسيحية داخل الإمبراطورية الرومانية المقدسة، وأتاحت مساحة من الحرية للأمراء الألمان باختيار إما اللوثرية أو الكاثوليكية ضمن أراضيهم، والحق في استقلال دولهم، كما أعطيت الأسر فترة كان لهم خلالها حرية الاختيار والهجرة إلى مناطق أخرى ذات مذهب ديني يرضونه.
عن نافذة براغ وبداية الحرب
لم يقدر لصلح أوغسبورغ أن يدوم طويلاً، ومرد ذلك فلسفياً يعود لفكرة المطلقات التي لا تقبل قسمة الغرماء، إذ يمكن للمختلفين سياسياً أن يصلوا إلى تفاهمات ومواءمات تنهي الصراعات، أما صراع المطلقات، وفي قلبها الأديان، هو ما لا يمكن أن تنسحب عليه الفكرة السابقة، بل يقود حكماً إلى دائرة المواجهة التي تبدأ لفظية وذهنية، وتصل آخر الأمر إلى القتال والخلاص من الآخر دفعة واحدة.
هكذا كان حال اتفاق أوغسبورغ، الذي لم يدم طويلاً، ففي الـ23 من مايو (أيار) عام 1618، قام نبلاء بروتستانت بمهاجمة “برج براغ”، مطالبين بحرية التدين من والي القيصر الكاثوليكي في الإمبراطورية الألمانية، وذلك لأن القيصر “متياس” كان قلص حقوق البروتستانت.
حدث لاحقاً جدال وخصام، أدى إلى قيام النبلاء البروتستانت القادمين من منطقة بومين، تشيكيا المعاصرة، بإلقاء أتباع القيصر من النافذة، ولحسن الحظ نجا هؤلاء الأشخاص من ذلك السقوط بأعجوبة، عمقت الصراع الديني مع الكاثوليك، وزخمت رغبتهم في مزيد من الحروب والتحدي والتصدي للبروتستانت.
هذا الفعل الثوري الذي دخل كتب التاريخ كسقوط من النافذة، قيمه القيصر “متياس”، كإعلان حرب، من هنا تولدت لديه رغبة في إخماد ما اعتبره تمرداً بروتستانتياً في مهده، لتنفجر تلك الحرب التي تسببت في انهيار أوروبا الوسطى بكاملها.
كان المشهد في أوروبا في تلك الفترة كارثياً من أكثر من جهة، ذلك أن تلك الحرب تركت أثراً عميقاً جداً على ألمانيا، لا يقارن إلا بما خلفته الحربان العالميتان الأولى والثانية، والعهدة هنا على الخبير في الشؤون السياسية التاريخية، البروفيسور هيرفريد مونكلير، من جامعة هومبولت ببرلين.
على أن مزيداً من البحث المعمق في أسرار تلك الحرب الطويلة يقودنا إلى أساب أخرى أسهمت في تطور النزاع وتصاعد حدة القتال من ألمانيا ليضحى حريقاً واسعاً لا يمكن التحكم فيه.
من جانب آخر حدثت علامات في الطبيعة تتعلق بالمناخ، أسهمت في توفير أجواء من الخوف والرعب اللذين وصلا إلى الهلع، فقد أتلفت موجة برد طويلة عديداً من المحاصيل الزراعية، ولهذا انتشر بين السكان اعتقاد بفناء العالم.
ألقى كلا الجانبين الكاثوليكي والبروتستانتي كل منهما باللوم على الآخر، لجهة استمطار غضب السماء على الأرض، مما يعني أنه تم إحياء العداء الذي واكب ما يسمى “الإصلاح اللوثري”، ذاك المعتبر “تمرداً هرطوقياً” من جانب الكاثوليك.
على أنه وكما على الدوام، تبقى السياسة والدين، حلقتين متصلتين لا يمكن فصلهما بحال من الأحوال، كانت هناك دوافع سياسية تختبئ في أثواب رجال الدين، الذين وظفوا بعضاً من حياتهم، وآخرون كل حياتهم، لتحقيق مدركات سياسية.
عند إليزابيث فون هامرشتين من مؤسسة كوربير بهامبروغ “كان تنافس القيصر وبعض الأمراء حول من سيسير شؤون الإمبراطورية ماض قدماً داخل الإطار الواحد”. أضف إلى ذلك أن قوى أجنبية كانت بدأت التدخل في الصراع وتوسعته. فالفرنسيون والهابسبورغ (النمساويون) والسويديون، إضافة إلى الإنجليز وحتى العثمانيين، اعتبروا ما يجري في المناطق الألمانية أمراً مهماً جداً بالنسبة إلى أمنهم الذاتي، ولهذا السبب انضوى الجميع تحت رايات القتال، بعضهم من أجل ضمان هيمنته على رقع جغرافية بعينها، وبعضهم الآخر بنية تقليص نفوذ قوى أخرى، وكي لا تكون لها كلمة مسموعة أو حضوراً عسكرياً فاعلاً، وفي كل الأحوال تؤكد همرشتين على أن “الدين كان بمثابة الزيت الذي تم صبه من أجل هذا الهدف”.
الثورة البوهيمية… معركة لا تنتهي
يصعب على المرء أن يسرد ويعرض المعارك الطويلة والعديدة التي عاشها الأوروبيون المتصارعون عقدياً وسياسياً، غير أنه من المؤكد أن أول معركة وتعرف باسم “الثورة البوهيمية” (1618- 1625) كانت منطلق النزاع، ودامت قرابة سبعة أعوام.
لكن من البوهيمي وأين تقع منطقة بوهيميا؟
بحسب دائرة المعارف البريطانية البوهيمي هو أحد مواطني منطقة بوهيميا التشيكية التي تقع في وسط أوروبا، محل جمهورية التشيك في وقتنا الحاضر.
تدور الدوائر من عند الإمبراطور الروماني متياس (1557-1619) الذي لم يرزق ببنين، ولما أراد التأكد من انتقال الملك من بعده إلى وريثه الشرعي “فرديناند”، الذي تولى حكم الإمبراطورية الرومانية من بعده، قام متياس بتعيين فرديناند والياً له على إقليمي المجر وبوهيميا.
مما أثار مشاعر سكان تلك المناطق هو أن فرديناند كان كاثوليكياً متشدداً للغاية، مما أدى إلى إثارة مخاوف سكان المنطقتين من البروتستانت من فقدان الامتيازات الخاصة بحرياتهم الدينية، تلك التي تحصلوا عليها من الإمبراطور رودلف الثاني (1552-1612).
كانت حادثة إلقاء مندوبي القيصر الكاثوليكي من برج براغ السابق الإشارة إليها، هي الحلقة الأولى في انفجار ثورات حرب الأعوام الـ30، وما لبثت أن انفجرت ثورات أخرى في شتى أنحاء بوهيميا وسيليزيا ولوساتيا ومورافيا، ثم انتشرت الحرب الأهلية في مناطق كثيرة من أوروبا الغربية.
يقول المؤرخون إنه كان من الممكن أن تتوقف الحرب الأهلية المعروفة باسم “الثورة البوهيمية”، في أقل من 30 شهراً، إلا أن موت الإمبراطور “متياس”، عام 1619، شجع قادة الثورة البروتستانت على الاستمرار فيها بعد أن كانت الأمور على حافة التهدئة وكان الجميع يرجح انتهاء الحرب الأهلية.
لكن بعض الأسباب الموضوعية أسهمت بدورها في تأجيج الصراع، ومنها حال الضعف العام التي ألمت بالإمبراطور فرديناند خليفة متياس، وكذلك ضعف البوهيميين الثائرين أنفسهم، مما أدى في نهاية السنوات السبع إلى انتشار نيران المعارك المذهبية والسياسية إلى غرب ألمانيا.
امتدت المعارك من ألمانيا إلى الدنمارك في زمن الملك كريستيان الرابع، الذي خلع عليه لقب “جنرال الجيش البروتستانتي”، وكان ذلك في عام 1916 وحتى عام 1920.
وبحلول عام 1621 كان البوهيميون البروتستانت يتلقون هزيمة ساحقة في معركة الجبل الأبيض، أنهت حضورهم ومن ثم تم حل العصبة البروتستانتية وخسارة فريدريك الخامس الأرستقراطي الألماني البروتستانتي لأملاكه، التي منحت لنبلاء كاثوليك، فيما ذهب لقبه “حاكم البلاتين” إلى ابن عمه البعيد “ماكسمليان” دوق بافاريا.
لثلاثة عقود عانت غالبية دول أوروبا مرارة الحرب، وصولات وجولات المعارك، ما بين انتصار اليوم وانكسار الغد، هكذا لعب القدر لعبته من حول الدول المنخرطة في الحرب.
كان الحكام ورجالهم منذ 1635 يجسون النبض ويتحسسون الرأي من أجل السلام، وفي تلك السنة تحديداً اقترح البابا “أوربان الثامن” (1568-1644) عقد مؤتمر لبحث شروط المصالحة، فاجتمع المندوبون للتفاوض في مدينة كولون الألمانية، لكنهم لم يصلوا إلى نتيجة.
بعد بضعة أعوام وتحديداً عام 1641 وفي مدينة هامبورغ صاغ ممثلو فرنسا والسويد والإمبراطورية الرومانية اتفاقاً مبدئياً لينعقد مؤتمر مزدود في مدينة وبستفاليا في عام 1642، ويسبق هذا اللقاء موعد في مدينة مونستر شمال نهر الراين في ألمانيا، تلتقي فيه فرنسا مع الإمبراطورية الرومانية الكاثوليكية الألمانية، لمعالجة مشكلاتهما في ظل وساطة البابا والبندقية، وفي أوسنابروك جنوب غربي ولاية ساكسونيا بألمانيا أيضاً، على بعد 30 ميلاً، تلتقي فرنسا والإمبراطورية مع السويد لإجراء المفاوضات في ظل وساطة كريستيان الرابع ملك الدنمارك (1577-1648).
غير أن هذه اللقاءات على رغم أنه لم يكتب لها النجاح، إلا أنها كانت التمهيد والتوطئة للاتفاق الذي سيغير من شأن الأوروبيين لقرون طوال، وربما حتى الساعة… ماذا عن هذا الاتفاق؟
الوصول إلى معاهدة ويستفاليا
شعرت الأطراف المتناحرة في منتصف العقد الثالث بالتعب من الجزرة السائرة الدائرة من غير هدى، ولذلك ظلت طوال خمس سنوات تبحث في مونستر الكاثوليكية وأوسنبروك البروتستانتية عن حل سلمي.
كان الموت الذي خيم على أوروبا وخسائر البشر والحجر، وتراجع أعداد السكان، عطفاً على الخراب الاقتصادي الذي أصاب أركان القارة، هو السبب الرئيس وراء السعي الحثيث إلى إنهاء الحرب بصورة أو بأخرى.
في ويستفاليا جرى التفكير ربما للمرة الأولى في أوروبا بوصفها قارة واحدة، تريد تحمل المسؤولية وتنفض عنها عبء الحرب وأعمال القتال التي لم تسبب سوى اليأس والبؤس لجميع الأطراف المتحاربة.
في الـ24 من أكتوبر (تشرين الأول) عام 1648، وقعت أطراف الحرب في مونستر، على اتفاقات السلام المنشود، أو السلام الويستفالي، وشكلت هذه القفزة النوعية إنجازاً دبلوماسياً في التاريخ، لأنها تتضمن حلولاً وسطاً واسعة في ما يخص حرية التدين.
في ويسفاليا تأكد لجميع المسيحيين الأوروبيين المتصارعين أنه “لا يمكن حل النزاعات الدينية عبر محاصصة قائمة بذاتها، أو من خلال معادلة حدية، أي أن يفوز الواحد بكل الانتصارات، فيما نظيره يتحمل جميع الهزائم، ولهذا سرت لغة جديدة بين الجانبين، مفادها بحتمية البحث عن حلول براغماتية، تقفز فوق المطلقات، وبعيداً كل البعد من النقاش والسؤال التاريخي: “من على حق ومن على غير حق”.
كتبت المعاهدة باللغة الفرنسية، لتنهي حرب الأعوام الـ30 في الإمبراطورية الرومانية المقدسة، وكانت معظم مسارح هذه الحرب في ألمانيا القديمة بحدودها قبل الحرب العالمية الأولى، وتضع كذلك حداً ونهاية لحرب 80 سنة بين إسبانيا ودولة المقاطعات السبع المنخفضة المتحدة، التي تعرف اليوم بهولندا.
وقع معاهدة ويستفاليا مندوبون عن الإمبراطور الروماني المقدس فرديناند الثالث، وممثلون من آل هابسبورج ومملكة فرنسا وإسبانيا والسويد.
غير أن التساؤل المهم: ما مبادئ هذا الاتفاق الذي يعتبر أول اتفاق دبلوماسي في العصر الحديث، يرسي نظاماً جديداً في أوروبا الوسطى والغربية مبني على مبدأ سيادة الدول، وبغض النظر عن انتماءات مواطنيها العقائدية أو السياسية؟
ويستفاليا تسويات دينية وسياسية
يمكن للمرء أن يجمل معاهدة ويستفاليا في ثلاث ركائز أساسية: تسويات دينية، وتسويات سياسية، وتعديلات تدخل على الحالة السياسية في الإمبراطورية الرومانية المقدسة، أي ألمانيا.
التسويات الدينية: يمكن القطع من دون تزيد، أن هذه الجزئية هي الأهم في مجموع تسويات ويستفاليا، سيما أنها حسمت مسألة المساواة الدينية والحرية في ممارسة الشعائر وأداء الطقوس، كل بحسب فرائضه وكما يحلو له من غير أدنى تضييق، وكان الاعتراف بالمذهب الكالفني البروتستانتي، أول خطوة في هذا المضمار الطويل.
اعترفت ويستفاليا بحق كل طرف من أطراف الصراع الذي طال بالاحتفاظ بما تحت يديه من أملاك حازها منذ عام 1624، وتم في قلب ويستفاليا، الالتزام ببنود صلح أوغسبورغ السابق الإشارة إليه.
تبدو جزئية التسويات الدينية، وكأنها فتحت الباب واسعاً أمام ترسيخ العلمانية السياسية في أوروبا، وعليه فإنه بموجب المعاهدة رسمياً، صار لزاماً البحث عن رابطة توحيد أخرى تجمع الشعب المنقسم على ذاته، وهكذا بات المجال مفتوحاً أمام القومية الألمانية لتثبت وجودها، ولم تعد الرابطة الدينية أساساً تجتمع عليه الأمة.
التسوية السياسية: حسمت كثيراً من الملفات ذات الطبيعة الجيوسياسية المضطربة، فعلى سبيل المثال حصلت السويد على منطقة بوميرانيا الغربية (جنوب بحر البلطيق)، وأراضي مدينة بريمن وأسقفية “فزدن”، وغدا مصبا نهري “الأودر” و”إلبه” تحت سيطرتهما وهما إضافة إلى “الراين” و”الدانوب”، أهم الأنهر الإمبراطورية.
حصلت فرنسا على منطقة الألزاس (شرق فرنسا)، باستثناء مدينة ستراسبوغ، وعلى الاعتراف بالسيادة على ثلاث أسقفيات في “اللورين” وهي “هتز” و”تول” و”فردان” كانت استولت عليهن عام 1552. كما تم الاعتراف باستقلال هولندا وسويسرا.
التعديلات السياسية في ألمانيا: كانت ولاية بافاريا الألمانية، أكثر الولايات مكسباً من هذا الاتفاق، فقد وسعت من مساحتها وبدأت تشق طريقها نحو زعامة الولايات الجنوبية.
هل كانت ويستفاليا مسيرة نحو مزيد من الاستقرار الأوروبي المقترن بالتنوير العلماني أو المدني إن شئت الدقة؟
غالب الظن أن الأمر بالفعل على هذا النحو، سيما بعد أن كفلت الحق لكل أمير منطقة بتقرير مذهب مقاطعته، وباتت الخيارات الكاثوليكية واللوثرية والكاليفينية متاحة للجميع.
أما المسيحيون الذين يعيشون في مقاطعات لا ينتمون إلى كنائسها، فيكفل لهم الحق في ممارسة عقيدتهم بشكل خاص أو في العلن في الساعات المخصصة.
ولعله يتحتم علينا القول في النهاية إن صلح ويستفاليا، كان البداية الحقيقية لمنظومة الدولة الحديثة في أوروبا، وليس مجرد نهاية لحرب الأعوام الـ30 الدينية.
لقد كان الصراع دولياً بين الإمبراطورية الرومانية المقدسة والدول القوية ذات السيادة مثل فرنسا، التي سعت إلى ضمان حصولها على حدود استراتيجية ودفاعية.
لقد وضعت ويستفاليا أوروبا على طريق مغاير، ولهذا لم يكن غريباً أو عجيباً أن تتعالى بعض الأصوات في الشرق الأوسط أخيراً مطالبة بـ”ويستفاليا شرق أوسطية”، تنهي حال الفوضى السياسية التي يعيشها الإقليم منذ عام 2011، أي منذ انطلاق ما عرف باسم “الربيع العربي” وحتى الساعة.
المصدر: اندبندنت عربية
قراءة موضعية عن الحرب الدينية الأوروبية “حرب الثلاثين عاماً” بين عامي 1816-1846 بين الكاثوليك ورثة الإمبراطورية الرومانية ومريدي مرتن لوثر كينج البروتستاينتى راح ضحيتها بحدود 12 مليون إنسان، بدأت دينية ثم انتقلت لسياسية، وبعد أن شعرت الأطراف المتناحرة في منتصف العقد الثالث بالتعب عقدت إتفاقية في الـ24 من أكتوبر (تشرين الأول) 1648، بين أطراف الحرب في مونستر سميت إتفاقية “السلام الويستفالي” متضمناً حرية التدين وتثبيت الحدود السياسية،