ترافق تصعيد العمليات العسكرية، الذي شهدته سورية في الآونة الأخيرة بين الطرفَين الأميركي والإيراني، مع تصعيدٍ إسرائيليّ تمثّل في قصف عددٍ من المواقع التي تتحكّم فيها ميلشيات إيرانية في سورية، وازداد ذلك القصف، من حيث العدد والنوع، حتى وصل إلى استهداف قيادات كبيرة في الميلشيات الإيرانية، في قلب المدن الكبرى في سورية.
هذا التصعيد يطرح مجموعة أسئلة: ما الأهداف الإستراتيجية للتصعيد الإسرائيلي؟ وما حدود تقاطع المصالح بين الفاعلين في سورية لتقليص النفوذ الإيراني؟ وما النتائج المتوقعة لهذا التصعيد؟ وما هي السيناريوهات المتوقعة؟
تسعى إسرائيل لإضعاف الدول العربية المحاذية لفلسطين، ولمنع هذه الدول من التفوّق عليها، ولا سيّما في مجال التسليح، وهي تعمل على إخراج بعض الدول من معادلة الصراع العربي-الإسرائيلي، من خلال المضي في مسار تطبيع العلاقات مع بعض الدول العربية.
وبعد انطلاق الثورة السورية عام 2011، تجنّبت إسرائيل التدخّل المباشر في الأزمة السورية، وسعت للمحافظة على بقاء بشار الأسد في السلطة، بطرق غير مباشرة، انطلاقًا من أنّ بقاءَه يعني استمرار حالة الصراع والتشرذم ويُعزز الطائفية فيها، فهي سعيدة ببقاء الأسد الذي حافظ على وقف إطلاق النار منذ عام 1974، ويساورها قلقٌ من وصول ميلشيات جهادية أو معتدلة معادية لإسرائيل، إلى المناطق المحاذية لحدودها، وكان الموقف الأميركي من مصير سورية غير واضح؛ إذ تركّز على إدارة الصراع وإطالة أمده، فالولايات المتحدة ضدّ انتصار الأسد وحلفائه، لكنها في الوقت نفسه لا تقدّم الدعم اللازم لانتصار المعارضة.
لكن إسرائيل كانت تخشى من اختلال موازين القوى العسكرية في المنطقة، ولا سيّما بعد تدخّل “حزب الله” اللبناني وإيران لدعم النظام السوري، ضدّ المعارضة، ولذلك بدأت إسرائيل تنفيذ ضربات جوية في 30 كانون الثاني/ يناير 2013، حيث ضربت بصواريخ أرض جو موقعًا عسكريًا قرب دمشق[1]، واستمرت في تنفيذ ضرباتها بوتيرة متضاربة، منذ ذلك الوقت، ونفّذت مئات الغارات الجوية على الميلشيات الإيرانية في سورية.
مستجدات الغارات الإسرائيلية بعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023:
بعد عملية طوفان الأقصى، في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، ازدادت الضربات الإسرائيلية، كمًّا ونوعًا، على مواقع عدة سورية، وذلك ردًّا على تهديدات “حزب الله” والميلشيات الإيرانية، وحفاظًا على التفوّق الإسرائيلي، ولا سيّما أن الفترة الأخيرة شهدت تمدّدًا لإيران وحلفائها في الجنوب السوري، حيث باتوا يهددون وجود القواعد الأميركية في شمال شرق سورية.
وبلغ عدد الضربات الإسرائيلية في سورية، عام 2023، نحو 48 ضربة[2]، خلال تسعة أشهر، من كانون الثاني/ يناير حتى أيلول/ سبتمبر. وازدادت وتيرتها بعد أحداث 7 تشرين الأول/ أكتوبر، ووصلت إلى نحو 50 ضربة[3] حتى 10 شباط/ فبراير 2024، أي خلال 4 أشهر فقط.
وإضافة إلى ذلك، يمكننا أن نلاحظ أنّ هناك تغيّرًا في قواعد الاشتباك في سورية، بين إيران والميليشيات التابعة لها من جهة، وإسرائيل من جهة أخرى؛ إذ كان القصف الإسرائيلي يستهدف شحنات أسلحة أو صواريخ في طريقها إلى الميليشيات الموالية لإيران[4]، أما بعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر، فقد ازدادت وتيرة الاستهدافات التي نفّذتها إسرائيل، مثل استهداف مطارَي دمشق وحلب الدّوليين، اللذين خرجا عن الخدمة أكثر من مرة خلال شهر واحد[5]، إضافة إلى استهداف القطع العسكرية القريبة من الحدود السورية الفلسطينية (ريف درعا الغربي)[6]. وفي كانون الأول/ ديسمبر 2023، بلغ عدد القتلى من العسكريين الإيرانيين أو الموالين لها 50 قتيلًا[7]، حيث استهدفت الضربات بشكل أساسي المواقعَ التي ينتشر فيها الإيرانيون أو حلفاؤهم، سواء كانت مواقع عسكرية تتبع للنظام السوري.
وكان هناك تطوّر نوعيّ في الغارات الإسرائيلية، تمثّل في قصف أهداف عدة في مناطق سكنيّة داخل المدن، حيث استهدفت إحدى الغارات اجتماعًا لقيادات في الحرس الثوري الإيراني في حيّ المزة بدمشق، في 20 كانون الثاني/ يناير 2024، وأدت الغارة إلى مقتل 5 مستشارين إيرانيين[8]، واستهدفت في قصف آخر مبنًى في حيَّ الحمراء في حمص (أحد الأحياء المدنية الراقية)، في 6 شباط/ فبراير 2024، وقُتِل في القصف قيادات من إيران وحزب الله، كانوا يسكنون في أحد الأبنية المدنيّة هناك.
وكذلك استهدف قصفٌ جوي إسرائيلي، على حيّ السيدة زينب جنوب دمشق، القيادي في الحرس الثوري الإيراني، رضي موسوي، في 25 كانون الأول/ ديسمبر 2023، وكان موسوي يعمل بصفة مستشار عسكري للنظام في معاركه ضد المعارضة. وهذا التطوّر يدلّ على أن القصف الإسرائيلي يركّز على نوعية الأهداف، ويُعدّ دليلًا على فشل الإيرانيين في الحفاظ على سرّية اجتماعاتهم وتنقلاتهم ومواقعهم، وعلى حجم الاختراق الإسرائيلي لأجهزة النظام الأمنية.
الضربات الإسرائيلية مع الضربات الأميركية دفعت إيران إلى التصريح بانسحاب القيادات الإيرانية، والاعتماد على فصائل متحالفة معها، للحفاظ على نفوذها في سورية[9]. وتوقّفت عمليات استهداف الجولان في كانون الثاني/ يناير 2024، على الرغم من أنها كانت هجمات محدودة، تستهدف مناطق مفتوحة وغير مأهولة في هضبة الجولان السوري المحتل[10].
مواقف الفاعلين في سورية من التصعيد:
من أهمّ العوامل التي أسهمت في استمرار الأزمة السورية، مصالحُ الدول الفاعلة بها، وهي مصالح تتقاطع وتتعارض، ومن هذه القضايا الوجود الإيراني في سورية، الذي تُصرّح بعض الدول الفاعلة في سورية بمعارضته، وترغب كلٌّ من إسرائيل وأميركا في الحدّ منه في المنطقة، ولا سيّما في سورية التي تمثّل ساحة مناسبة لضربه، وتتعامل معه الدول الأطراف في اتفاقات آستانة (روسيا، وتركيا)، ويبدو أن هناك مصلحة لغالبية الفاعلين في سورية في الحدّ من النفوذ الإيراني، بما يتطابق مع الموقف العربي الداعي لذلك.
أما عن أهمّ المواقف من هذا التصعيد، فبالنسبة إلى النظام السوريهناك مؤشرات توحي بأن هناك تعاونًا من بعض ضباط النظام السوري مع الإسرائيليين، حيث يتم تسريب مواقع وأماكن وجود قادة الحرس الثوري الإيراني، وهناك اتهامات إيرانية علنية بتسريب معلومات عنها، إلى الجانب الإسرائيلي، من داخل النظام السوري، وهذا يؤشر إلى عدم موافقة بعض ضباط النظام على النفوذ الإيراني المتزايد في سورية، ولا سيما بعدما صار لإيران اليد العليا في كثير من القطاعات في الدولة. ومن ناحية ثانية، ما زالت إسرائيل، على الرغم من تصعيدها، تتجنب الاستهداف المباشر والكبير لقوات النظام السوري، باستثناء استهداف بعض المصانع العسكرية، في السفيرة ومصياف والمطارات، لذلك يبدو أن النظام سيستمر في التهديد بالردّ على التهديدات الإسرائيلية، من دون أن يكون هناك أي رد فعلي.
أما بالنسبة إلى روسيا حليف النظام الآخر، فقد كان هناك تنسيق روسي إسرائيلي في الهجمات الإسرائيلية، وكانت إسرائيل تبلّغ الروسَ بمواعيد الهجمات وأماكنها قبل حدوثها، وكان الروس يبلغون النظام والإيرانيين بها، لذلك لم يكن هناك أعداد كبيرة من القتلى نتيجة تلك الغارات، لكن يبدو أن هذا التنسيق تراجع بعد الحرب الأوكرانية، بسبب الموقف الإسرائيلي مما يجري في أوكرانيا، ومع ذلك لا يُتوقع حتى الآن أن يكون هناك تعارض في المصالح الروسية الإسرائيلية في سورية، حيث إن روسيا أعلنت مطلع عام 2024 تثبيت نقطتين عسكريتين روسيتين جنوبي سورية، على خلفية “تزايد وتيرة الاستفزازات في المنطقة منزوعة السلاح”، على طول مرتفعات الجولان، ويبدو أن الغاية من ذلك تخفيف التصعيد في المنطقة، وسيستمر الموقف الروسي في الدعوة إلى التهدئة وضبط النفس، وتجنب أي تصعيد؛ إذ إن روسيا تريد المحافظة على علاقاتها مع الأسد وإيران من ناحية، ومع إسرائيل من ناحية أخرى، وليس من مصلحتها زيادة قوة إيران في سورية، أو زيادة الغارات الإسرائيلية، بما يُخلّ بموازين القوى داخل سورية.
أما الموقف الأميركي، فهناك تنسيق شامل بين أميركا وإسرائيل، في ضرباتها وتصعيدها في سورية، ولا سيّما بعد سقوط ثلاثة جنود أميركيين في قصفٍ نفّذته ميلشيات إيرانية قرب التنف، واتفاقٌ على ضرب تلك الميلشيات، لكن دون الانجرار إلى حالة الحرب الشاملة والمباشرة.
وبالنسبة إلى إيران، عملت على الانتشار في كامل الجغرافية السورية المسيطر عليها من النظام، ولها أهداف استراتيجية عدة في المنطقة، منها المحافظة على الطريق الممتد من إيران حتى البحر المتوسط، لكنها تحذر المواجهةَ المباشرة مع إسرائيل وأميركا، وستعمل على تقبّل هذه الخسائر، لأن لها هدفًا إستراتيجيًا في المنطقة، وما دام القصف خارج الأراضي الإيرانية، فهو لا يشكّل تحديًا كبيرًا لها، لكنها ستسعى للتخفيف من تحركات ميلشياتها ولزيادة درجة الحذر.
تشكّل الغارات تحدّيًا كبيرًا أمام إيران وميلشياتها، لكنها في الوقت نفسه تدرك أن وجودها سيظلّ قائمًا ويتوسّع، ما بقي الأسد في السلطة؛ أما الحوافز التي تقدّمها بعض الدول إلى الأسد، للتخلّي عن إيران، فمن غير المتوقع أن تترك أثرًا في سياسته في الفترة القادمة.
السيناريوهات المتوقعة:
ما سيحدث في سورية مستقبلًا مرتبطٌ إلى حدٍّ ما بما ستؤول إليه التطوّرات الأخيرة في المنطقة، بعد انتهاء الحرب في غزّة وما سينتج عنها، ومرتبطٌ أيضًا بمستقبل الوجود الأميركي في المنطقة، وهناك قلق إسرائيلي من حدوث انسحاب أميركي من سورية والعراق. ومع استمرار الجمود في كلّ مسارات الحلّ في سورية، يُمكننا توقّع ثلاثة سيناريوهات في ما يتعلّق بالتصعيد الإسرائيلي في سورية:
السيناريو الأول:
حدوث انسحاب أميركي يتلوه هيمنة إيرانية، حيث إن هناك كثيرًا من التسريبات تحدّثت عن هذا الانسحاب، لكن الجانب الرسمي الأميركي نفى ذلك، ومن غير المتوقّع حدوثه في الفترة القريبة القادمة، وفي حال حدوثه، فإنه يعني زيادةً للنفوذ الإيراني في سورية، مما قد يشكل مصدر قلق لإسرائيل، وقد يؤدي ذلك إلى زيادة دور روسيا في التوسّط بين الطرفين، والحدّ من التصعيد بينهما، إضافة إلى أنه قد يشكّل فرصة للأسد للسيطرة على حقول النفط.
السيناريو الثاني:
انسحاب إيران من سورية، وقد يكون الانسحاب كلّيًّا أو جزئيًّا، نتيجة الغارات الإسرائيلية والأميركية على الأهداف الإيرانية، واستجابةً من النظام السوري للطلبات العربية التي تدعو للحدّ من هذا النفوذ. وتحقّق هذا السيناريو يعني زيادة النفوذ الروسي على النظام السوري، وضعف الميلشيات المدعومة من إيران، وربما تكون هناك مفاوضات تُحرّك مسار الحل السياسي في سورية. لكن هذا السيناريو أيضًا غير مرجّح، فقراءة السياسة الإيرانية في المنطقة تشير إلى تغلل النفوذ الإيراني في سورية، على الصعيد الاجتماعي والسياسي والعسكري، وإلى أن إيران ستحافظ على توازن في قواعد الاشتباك مع الولايات المتحدة الأميركية أو مع إسرائيل.
السيناريو الثالث:
وهو السيناريو الأرجح، ويقوم على استمرار التصعيد، وفقًا لقواعد الاشتباك الحالية بين الطرفين، من دون الانجراف إلى حالة الحرب المباشرة والشاملة، إلا في حال تجاوز إيران وحلفائها لقواعد الاشتباك، وقيامهم بقصفٍ يوقع قتلى في إسرائيل، وهنا ستضطر إسرائيل إلى رفع درجة التصعيد.
والجميع في انتظار ما ستنتج عنه حرب غزة، والسيناريو والاتفاقات التي قد تنتهي بموجبها تلك الحرب، والترتيبات التي قد تنشأ في المنطقة، فحكومة نتنياهو تريد حالة عدم الاستقرار في المنطقة، وإيران تريد استغلال هذه الفترة التي تسبق الانتخابات الأميركية، والمتمثلة في عدم رغبة أميركا في الدخول بحالة حرب مباشرة مع إيران، ولا سيما أنّ إيران قتلت جنودًا أميركيين في التنف، وكان الرد الأميركي ضعيفًا.
قد تنجح إسرائيل في إبعاد الخطر الإيراني عنها، إلى حدٍّ ما، لكن ليس لديها رغبة في القضاء على النفوذ الإيراني في سورية بشكل كامل؛ ذلك بأن مصلحة الطرفين الإسرائيلي والإيراني ما زالت في بقاء نظام الأسد الذي يشكّل الرابط المشترك لتحقيق أهدافهما في سورية.
[1] أبرز الضربات الإسرائيلية في سوريا منذ عام 2013، الإندبندنت العربية، 6 شباط/ فبراير 2020، شوهد بتاريخ 7 تموز/يوليو 2023. الرابط: https://bit.ly/49x3Tn6
[2] المرصد السوري لحقوق الإنسان، شوهد في 12 شباط/ فبراير 2024، الرابط: https://2u.pw/Hemcx4g
[3] فريق الرصد في مركز حرمون للدراسات المعاصرة.
[4] دمشق: قتيلان في غارات إسرائيلية استهدفت مواقع لحزب الله، موقع المدن، 22 آب/ أغسطس 2023، شوهد في 12 شباط/ فبراير 2024، الرابط: https://2u.pw/yrKr0yI
[5] إسرائيل تقصف مجددًا مطاري دمشق وحلب وتخرجهما من الخدمة، موقع الجزيرة، 22 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، شوهد في 12 شباط /فبراير 2024، الرابط: https://2u.pw/7vJgIVt.
[6] مقاتلون موالون لحزب الله بريف درعا يطلقون صواريخ باتجاه الجولان، موقع العربية، 24 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، شوهد في 12 شباط/ فبراير 2024، الرابط: https://2u.pw/zeBPaLd
[7] المرصد السوري لحقوق الإنسان، الرابط: https://2u.pw/Hemcx4g ، شوهد في 12 شباط /فبراير 2024
[8] مقتل 5 مستشارين عسكريين للحرس الثوري الإيراني بقصف إسرائيلي على دمشق، العربي الجديد، 20 كانون الثاني/ يناير 2024، شوهد في 14 شباط/ فبراير 2024، الرابط: https://bit.ly/3uxWOnH
[9] رويترز: إيران تقلّص انتشار ضباطها في سورية.. لا نية للانسحاب، موقع عنب بلدي، 1 شباط/ فبراير 2024، شوهد في 12 شباط/ فبراير 2024، الرابط: https://2u.pw/GfPzMFW
[10] الاحتلال يرد على مصادر النيران.. إطلاق قذيفتين من سورية باتجاه الجولان، التلفزيون العربي، 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، شوهد في 12 شباط/ فبراير 2024، الرابط: https://2u.pw/tg5RYUa
المصدر: مركز حرمون للدراسات المعاصرة
“التصعيد المنضبط” عنوان حقيقي لما تقوم به القوات الأمريكية والصهيونية بمواجهة تمدد اذرع ملالي طهران في سورية، لأن ما يجري هو تصعيد منضبط وفق الإتفاقات لحدود التمدد ، وليس صراع وجود بينهما ، دراسة وتحليل موضوعي دقيق .