معبر صلاح الدين بين مصر وفلسطين، صار الآن، النقطة التي تتجمع عندها المآلات المأساوية لما حدث منذ عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر، وصولا إلى المفاوضات على إطار الاتفاق لوقف العدوان.. إسرائيل استخدمت المعبر بنجاح «باهر» لممارسة الحد الأقصى من الضغوط، لكسر إرادة المقاومة وعزيمة الشعب الفلسطيني.. ولم تتمكن مصر ولا غيرها خلال أربعة شهور من إدخال شيء واحد إلى غزة، دون موافقة إسرائيلية. كذلك لم يخرج شي من غزة دون علم وموافقة إسرائيل، حتى بعد أن طلبت محكمة العدل الدولية إيصال المساعدات.. لم تجد الحكومة المصرية ولا غيرها مسوغا في قرارات المحكمة يتيح لها، ولأسباب إنسانية، إيصال مساعدات لإنقاذ آلاف المشردين من الجوع ومن الأوبئة والبرد، ولم تستطع التحلل قليلا من اتفاقات كامب ديفيد، ولأسباب غاية في الإنسانية وواجب الأخ والجار، بل والمستقبل أيضا.
يناقشون في القاهرة الآن مصير معبر رفح مجددا، واتفاقا لوقف «مديد» لإطلاق النار، أظنه لن يحدث قبل التفاهم بين إسرائيل ومصر بدعم دول حلف الناتو والبنك الدولي، ومؤسسات مالية غربية، هي أداة الغرب لابتزاز الجنوب، وبالذات مصر في هذا الوقت أولا، على كيفية إدارة معبر رفح مستقبلا، وبالتحديد كيفية تفعيل الرقابة الإسرائيلية على كل شيء يدخل أو يخرج ويحدث في غزة.
في جوهر التهديد الإسرائيلي المتواصل، الذي يتصاعد بشكل خطير باستكمال الحرب في رفح، مسألة فرض إسرائيل حصارا مطبقا على غزة.. وهذه المرة ليس فوق الأرض وتحت الأرض فقط، بل على بحرها وبرها وسمائها وفي المنطقة كلها الواقعة بين فلسطين ومصر.. وعبر آلية تلحق بالاتفاقات المصرية الإسرائيلية عبر التعاون والتنسيق، الذي بالغت مصر في «احترامه» مع مجرمين لا يستحقون ذرة وفاء.
تريد إسرائيل ومن ورائها حلف الناتو وبعض العرب حلفاء الناتو وواشنطن في المنطقة، التحكم بمصير كل ما سيحدث في غزة الآن ولاحقاً، عندما تبدأ إعادة إعمار غزة، ستتحكم إسرائيل في كيفية بناء المدينة الجديدة، وفق معايير أمنية واستراتيجية إسرائيلية، تشبه تلك السياسات الموضوعة والمجربة، التي تم تنفيذها بنجاح وفق خطط عسكرية واضحة المعالم، تتحكم بالحركة وتطورها في الضفة الفلسطينية المحتلة. يمكن الآن رؤية كيف دمرت سياسات الحصار الإسرائيلية المدروسة بعناية، أي احتمال لقيام دولة فلسطينية مستقلة، وربطت مصير الضفة اقتصاديا وجغرافيا بإسرائيل، ومهدت لوجود مئات آلاف المستوطنين المرتبطين مباشرة بمراكز النشاط والاقتصاد في المقابل الجغرافي الإسرائيلي، في ظل عزل تام لمدن الضفة عن بعضها، وربط أنشطتها التجارية مع مراكز التجارة الإسرائيلية، بفعل قرابة ثمانمئة حاجز وطرق مواصلات قديمة التفافية منهكة ومكلفة، وأضعفت كليا التواصل بين المدن والقرى والريف، وسهلت للإسرائيلي التحكم كليا بحركته ومنع نشوء بيئة فلسطينية طبيعية.
كل شيء يغلي عند معبر رفح، الآن، عند النقطة الفاصلة في الزمان والمكان بين ماض يتكرر وزمن أكثر وعدا.. دبابات العدو تقترب باحثة عن انتصار دموي، الجدران بين مصر وغزة تزداد ارتفاعاً
في الضفة، اكتشف الجميع سريعا مهزلة بعض التسهيلات الإسرائيلية في معبر الكرامة، خلال مفاوضات أوسلو، التي مكنت الرقيب الإسرائيلي من خلف الزجاج من التحكم بحركة المواطنين من فلسطين وإليها عبر الأردن، ومن خلال هذه الرقابة المطلقة في كل نواحي الحياة، ظلت مئات الاتفاقات للتعاون الاقتصادي والتنمية بين السلطة الفلسطينية وعشرات الدول، حبرا على ورق، وظل الاقتصاد الفلسطيني كله تابعا للاقتصاد الإسرائيلي، يغذيه بمليارات الدولارات سنويا ولا يساهم في عملية تراكم الدخل الوطني الفلسطيني، وظلت المسألة الأمنية هي القضية الرئيسية في العلاقة بين السلطة والاحتلال.
في غزة أخذت الرقابة الإسرائيلية أشكالاً عديدة أكثر عنفا، وفي ظل رفض الرئيس المصري الراحل حسني مبارك، أي وجود إسرائيلي بين فلسطين ومصر، بعد إجبار إسرائيل على الانسحاب من غزة، قام الحضور الأوروبي في رفح في مرحلة ما، بتغذية حركة المعابر، خاصة في رفح مباشرة لأجهزة الرقابة الإسرائيلية، في حين غض المصريون والإسرائيليون النظر عن الأنفاق التي أصبحت المنفذ الرئيس للتجارة مع مصر، وطبقا لسياسة إسرائيلية، تهدف فصل قطاع غزة عن باقي الأراضي الفلسطينية، وتمنع قيام كيان فلسطيني يشمل القطاع والضفة ومنح حماس والإخوان المسلمين ما يشبه إدارة ذاتية تحت رقابة مصر وإسرائيل، وحصار يخف أحيانا ويشتد أحيانا أكثر، تم فرضه بقليل من التسهيلات والإغراءات والوعود وبكثير من الحروب التي جعلت غزة سجنا كبيرا. غزة ستصبح مشروعا هائلا، ثمة مصالح فلسطينية وطنية لربط القطاع بالضفة أملا في إقامة دولة فلسطينية مستقله، وثمة مصالح إسرائيلية استراتيجية على النقيض من ذلك تماما يؤيدها حلف الناتو، تريده مشروعا يرتبط بأهداف إقامة إسرائيل ووجودها في هذه المنطقة، بل «إيجادها إن لم تكن موجودة» كما قال بايدن مباشرة بعد السابع من أكتوبر بأيام.. لدى هؤلاء تصور أمني لمدينة غزة يناسب كليا أمن إسرائيل ووجود «مستدام «في المنطقة، وكيف يتم التحكم بها ونزع سلاحها وهندسة كل مقومات الحياة الاقتصادية والصناعية والتعليمية والعلمية، بعد اقتطاع أجزاء من القطاع لدواع أمنية، يترافق ذلك مع سياسات طاردة طويلة المدى وعمالة رخيصة ترعاها نخب سياسية وتجارية تتحرك برضى المحتل، ولا تزعج دول «الاعتدال» العربي وتصبح جزءا منه. جزء من هذا البلاء الذي ينتظر غزة هو خشية دول «الاعتدال» المتحالفة مع واشنطن من نموذج مميز مختلف لغزة جديدة، يعكس الروح والآمال العربية، حيث يمكن أن تبلور المقاومة الشجاعة وهذه الحرب الضروس، ومعها آلاف البشر والمتطوعون والتقدميون والمعادون للاستعمار الجديد في العالم غربه وجنوبه.. نموذجا وطنيا جديدا منفتحا يطوي معارك الإخوان المسلمين مع أنظمة الحكم العربية، ويشق طريقا نحو الخلاص من السطوة الغربية على مقدراتنا وفضائنا وأنظمتنا وكل وسائل عيشنا.
كل شيء يغلي عند معبر رفح، الآن، عند النقطة الفاصلة في الزمان والمكان بين ماض يتكرر وزمن أكثر وعدا.. دبابات العدو تقترب باحثة عن انتصار دموي. الجدران بين مصر وغزة تزداد ارتفاعاً، أنين الضحايا فاق أزيز الطائرات التي لا تترك سماء غزة، وبلينكن غادر تاركا لنا تصريحا بأن «الرئيس بايدن غير مرتاح»، لأن رفح مزدحمة جدا بالسكان «ووجوب الحذر من تبعات قد تكون خطيرة.. لعملية عسكرية هدفها تحقيق «النصر الإسرائيلي» وترسخ عمليا أسس اتفاق غربي إسرائيلي جديد مع مصر. قال بلينكن أيضا إن الاتفاق على التهدئة يحتاج إلى عمل كثير وأظنه قصد تمهيد الأرضية بمزيد من الدماء الفلسطينية أو التهديد بذلك.
الوزير بلينكن لم ينس في جولته السادسة، منذ بدء العدوان على غزة، كما فعل في الرياض، قطر.. القاهرة، رام الله، وقبل ذلك في عمان وأنقره وكل مكان زاره تذكيرنا بـ»ضرورة زيادة المساعدات الإنسانية «لأهل غزة، في الوقت ذاته الذي لم ينس أحد منا بعد، فعلة بلاده السوداء وقيادتها حملة غربية ضارية، معتمدة بشكل عشوائي تقريرا أعده الجيش الإسرائيلي، مشكوكا تماما في صحته ولم يتحقق أحد من وقائعه، لوقف المساعدات عن وكالة الغوث الدولية في عملية عقاب جماعي غربي، استمرارا لانتقام الغرب لما فعله الفلسطينيون وحلفاؤهم في لبنان والعراق واليمن، بدءا من يوم السابع من اكتوبر بصنيعتهم إسرائيل وكم هي تركيبة مخادعة هزيلة وخربطة خططهم لحاضر ومستقبل هذه البلاد. اكتشفنا جميعا أن ذلك كان عملا مدبرا مبيتا تماما تم تنسيقه مع إسرائيل، ويتم في سياق تدمير المؤسسة الدولية الرئيسية التي تخدم ما أمكنها ضحايا العدوان الإسرائيلي المزمن ضد فلسطين وتناهض سياسات الإبادة الجماعية الإسرائيلية.
نجحت إسرائيل في ظل فشل عربي وكوني في جعل الحصار موتا بطيئا لقرابة مليوني إنسان عند حدود فلسطين مع مصر. الجيش المصري يضع مزيدا من الأسلاك الشائكة على جدران إسمنتية مرتفعة ومسيجة أصلا. كثبان الرمل ترتفع خلف وما بعد الجدران العالية ليراها الناس داخل غزة كأنها خط دفاع مصري ثان أمام أكثر الناس بؤسا، يزحف القتل الإسرائيلي ويدفع بالمنكوبين باتجاه واحد فقط سيناء أو الموت.. الموت أو الحصار حتى الموت. كل شيء يغلي عند معبر رفح.. ثمة رعب وكارثة وخذلان كوني على وشك الانفجار.. حرمان شعب فلسطين من أقل حقوقه.. جزء حيوي منه حشره الأعداء الآن تحت أعين الأصدقاء.. في الصحراء القاحلة من كل شيء وأول ذلك شح العواطف الإنسانية.
في بضع مئات من الأمتار هناك كارثة أخرى ستخلف حتما انتقاماً آخر ليس ببعيد وأشد فتكا وأكثر دمارا ومن يهتم بذلك، إذا كان الضحايا ناسا عزلا إلا من كرامتهم وإيمانهم العميق بأن العدل سينتصر يوما. هل ننجو جميعا من هذا المصير القاتل والمهين لكرامتنا كبشر.. وهل تجنب مصر الفلسطينيين حصارا آخر ودفع أثمان لا طاقة لهم بها، وتتجاهل رشوات إسرائيل والغرب السامة؟
كاتب من فلسطين
المصدر: القدس العربي
ماذا يجري عند “معبر رفح” كل شيء يغلي عند النقطة الفاصلة في الزمان والمكان بين ماض يتكرر وزمن أكثر وعدا.. دبابات العدو تقترب باحثة عن انتصار دموي. الجدران بين مصر وغزة تزداد ارتفاعاً، أنين الضحايا فاق أزيز الطائرات التي لا تترك سماء غزة، الكيان الصهيوني يتحكم بكل شيئ ولا يعبر أي شيئ دون موافقتها ، بالرغم من إن المعبر مصري/فلسطيني وقادة العالم والأنظمة العربية تنحني لرغبة المحتل .