لا تحجُب التفاصيل اليومية للحرب الإسرائيلية على غزّة، على دمويتها وقساوتها، تداعياتٍ كبرى تتبلور على الساحة الدولية بصورة متزايدة نتيجة لها. من الدول والحكومات إلى مراكز الأبحاث والتفكير، مروراً بالشركات والمؤسسات الاقتصادية والمالية الكبرى، يبدو العالم منغمساً تماماً، هذه الأيام، في محاولة الإحاطة بتلك التداعيات، وما تركته من آثار على جملة كبيرة من القضايا والموضوعات، تبدأ بمستقبل الصراع العربي – الإسرائيلي، حيث صارت إمكانية تحقيق حلّ سياسي أبعد من أي وقت مضى، فيما تبقى احتمالات اتّساع المواجهات لتشمل ساحاتٍ أخرى في المنطقة قائمة وحقيقية.
إذا اختارت إسرائيل هذا، يجري، في هذه الحالة، التركيز على الانعكاسات على الاقتصاد العالمي (خصوصاً سلاسل التوريد، وأسعار السلع الأساسية)، في سنة انتخابية عالمية بامتياز، حيث يشهد نحو 50 بلداً انتخابات عامة رئاسية أو برلمانية (الولايات المتحدة، الهند، بريطانيا… إلخ). من القضايا التي تثير اهتماماً أيضاً اختلاف رؤيتنا إلى كيفية خوض الحروب الحديثة، في ضوء التكتيكات التي تستخدمها فصائل المقاومة في غزّة وصمودها الكبير في وجه آلة الحرب الإسرائيلية، إضافة إلى بروز دور الفاعلين من غير الدول (قوى، تيّارات، جماعات، فصائل، … إلخ)، باعتبارهم قوى مؤثرة في النظام الدولي قادرة على خوض الحروب وتحدّي أجندات القوى الدولية الكبرى وخربطتها (عطلت حركة حماس مثلا توجهات الولايات المتحدة لتقليص التزاماتها في منطقة الشرق الأوسط لصالح التركيز على الصين وروسيا، وأضرّت بفرص التقارب الأميركي الإيراني الذي بدأ باتفاق تبادل الرهائن في سبتمبر/ أيلول الماضي).
يجري البحث أيضاً في صدقية أطروحة “المجتمع الدولي”، التي يقول أصحابها بوجود جملة من القيم والمبادئ والأعراف التي طوّرتها الدول عبر العصور وتلتزم بها، بما في ذلك قوانين الحرب والقانون الدولي الإنساني، والأعراف والمواثيق الدبلوماسية، وانعكاسات الفشل في دفع إسرائيل إلى احترامها في غزّة، لا بل والتواطؤ معها، على التعامل المستقبلي بين الدول والمجتمعات في حالات السلم والحرب.
في ضوء صراع السرديات المحتدم، يبحث كثيرون في الأهمية المتزايدة لما يجري في وسائل التواصل الاجتماعي، وفقدان الإعلام التقليدي دوره لصالح الإعلام البديل وشركات التكنولوجيا الكبرى. تثير الاهتمام أيضاً التغييرات الكبيرة على صعيد الرأي العام العالمي والفجوة الجيلية التي ما فتئت تتسع، خصوصاً بين جيل الألفيّة (الجيل Z) والأجيال السابقة، وتأثيرات ذلك المستقبلية على سياسات الحكومات، خصوصاً في دول الغرب “الديمقراطي”. من القضايا التي يجري البحث فيها أيضاً انكشاف هشاشة العالمين العربي والإسلامي وعجزهما عن الدفع نحو وقف الحرب على غزّة، والتصدّي لسياسات القوّة التي تتبعها إسرائيل، وانعكاس ذلك، مع انتشار صور المجازر التي ترتكبها إسرائيل، ويجري بثها على الهواء مباشرة، على تفكير جيل كامل من الشباب العربي يأسى لعجز حكوماته عن الفعل، فيما تلتهب مخيّلته إعجاباً بصمود مقاومة مواردها محدودة في مواجهة جيشٍ يملك مقدّرات هائلة، ويتلقّى دعماً من أكبر قوة في العالم.
من القضايا التي يجري التركيز عليها أيضاً صعود أهمية الموانئ والممرّات البحرية في حركة التجارة الدولية وسلاسل التوريد، ونقل الطاقة، في ضوء تزايد التوتّر في البحر الأحمر نتيجة الهجمات التي يقوم بها الحوثيون على السفن التجارية المتجهة إلى إسرائيل أو المرتبطة بمصالحها. وقد دفع ذلك إلى تشكيل تحالفٍ بحري دولي جديد لحماية حركة السفن بقيادة الولايات المتحدة التي توشك على التورّط في حربٍ كانت مهتمّة أكثر بإنهائها (اليمن). جذب هذا الأمر أيضاً قوى خارجية إلى المنطقة، ونقصد هنا تحديداً الهند، التي باتت تبحثُ عن دورٍ أكبر بحجّة حماية الممرّات البحرية.
يجري البحث هنا أيضاً في دور الحرب في غزّة في إعادة تشكيل علاقات دول المنطقة، ومن أبرز الأمثلة التي يجري استحضارها هنا انكشاف مقدار التقارب الإسرائيلي الهندي في الرؤى والمواقف والسياسات، الأمر الذي يثير مخاوف إيران التي كانت تُراهن على الهند في مساعدتها للتحول إلى قطب تجاري دولي عبر ميناء تشابهار الذي تشرف الهند على تطويره، وممرّ شمال – جنوب الذي تروّجه إيران ويربط الهند عبر آسيا الوسطى بروسيا وشمال أوروبا.
منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول، كان واضحاً أن شيئاً مهماً قد تغيّر، لكن التغيير المقصود قد يكون أكثر عمقاً مما كنّا نعتقد.
المصدر: العربي الجديد