“علبة بانادول وظرف مسكن وأدوية التهاب وخافض حرارة دفعت ثمنها مئة ألف ليرة سورية، ومئة ألف أخرى أجور معاينة الطبيب والتاكسي، كان ذلك أواسط الشهر الجاري في اليوم الذي قبضت فيه راتبي بالضبط، راتبي الذي يقل عن مئتي ألف ليرة (14 دولاراً)، بالتزامن مع قرار حكومتنا رفع أسعار الأدوية حتى مئة في المئة”.
يروي الموظف مهيب جرادة كيف كان الضحية الأولى لرفع أسعار الأدوية الأخير في سوريا، ويضيف: “كان كل ذلك لأنّ ابنتي الصغيرة أصيبت بزكام حاد جعلني أدفع راتبي كاملاً في ساعتين، وثمن ماذا؟ ثمن أدوية كان لا يتم تسعيرها قبل سنوات بسبب انخفاض ثمنها فكانت تمنح مجاناً مع أدويةٍ أخرى”.
ويتابع: “أنا رجل مثقف بطبيعة الحال ككثيرين، وكلنا نعرف أنّ واجب الحكومة أن تصرف على شعبها لا العكس، وما يحصل الآن هو العكس تماماً، في كل لحظة تمدّ الحكومة أيديها في جيوبنا لتستخلص ما بقي من أموال على قلّتها كانت لربما ستسد رمقنا، هي من أحدثت هذه الفوضى العظيمة وأدخلت شعباً بأكمله في دوامة استدانة اقتصادية جعلت الجميع مديناً أو مرهوناً للجميع”.
مؤشّر مقلق
تأتي قصة جرادة بعدما أعادت السلطة السورية من جديد رفع أسعار الأدوية بنسبة تصل إلى مئة في المئة، وهي التي كانت أسعارها أساساً مرتفعة جداً إثر سلسلة رفع متلاحقة ومتسارعة، ولكن في هذه المرة النسبة ضاعفت الأسعار ليصبح ما كان شبه محمول بشق الأنفس مستحيلاً على المرضى.
سعر عبوات الالتهاب التي تعتبر الأكثر مبيعاً صار يعادل ثلث راتب الموظف أو نصفه، تلك المبالغة غير المنطقية في التسعير قابلها الناس هذه المرة بملل أكثر منه اعتراضاً وتذمراً، وهذا بحد ذاته مؤشر مقلق.
اللاجدوى من الاعتراض
عن ذلك المؤشر يقول المهندس الإنشائي جبر حامد: “ما هي سبل الاعتراض؟ الشارع؟ ذلك يعني خراباً، ظلّت الطريقة الوحيدة وسائل التواصل الاجتماعي ودولتنا لا تكترث لها ولا تعيرها انتباهاً إلّا في ما تراه منشورات تمس بهيبة الوطن وأمنه، ولأنّ عشرات بل مئات الإجراءات المشابهة تتخذ دائماً ويعترض الناس دونما نتيجة، فقد مرّ القرار بسلام هذه المرة”.
ويضيف: “علينا أن ننتبه إلى أنّه على الأقل منذ عام أو عامين كل شهر أو اثنين يرتفع سعر البنزين والمحروقات وغيرها وما عادت لدى الناس قدرة على الاعتراض، صاروا يوجهون تركيزهم كيف سيتكيفون مع الكارثة الجديدة، خلل التواصل وعدم الإحساس بين المستويات المسؤولة والشعبية في سوريا سيحمل في طياته شكلاً من الانهيار المجتمعي، الناس يموتون بكثرة، هذه ليست مبالغة، والآن سيموتون في منازلهم لأنّهم سيصابون بأبسط الأمراض التي لا يمتلكون ثمن علاجها”.
“نضع خرقة في فمنا… ونصرخ!”
الناس، أغلبهم، قرروا المقاطعة، ولكنه ليس قراراً كيفياً بل إجباري، هم قاطعوا لأنهم صاروا عاجزين عن دفع ثمن أدويتهم خلال أمراضهم الطارئة أو المزمنة.
بعض المرضى صاروا يحتاجون خمسة أو عشرة أضعاف الراتب ثمناً لأدويتهم الشهرية، هؤلاء باتوا مضطرين لاستقبال الألم بسكينة، بعض مرضى الأعصاب وأنواع الشلل وفتوق القنوات اللبية وانحرافات العمود الفقري وأمراض كثيرة قد يحتاجون اليوم ما يصل إلى مئة دولار ثمناً للأدوية شهرياً.
ذلك رقم وسطي يزيد أو ينقص طابقه “النهار العربي” مع بعض المرضى والأطباء، وبفرض حاجتهم لنصف ذلك الرقم، أو ربعه حتى، أو أيّ شيء منه. غرابة المعادلة تنبع من كونها تتفوق على آلام الناس في واحدة من أكثر المواد التي تتطلب دعماً صحياً طارئاً كحق رئيسي في المواطنة أكثر منه منّة وامتيازاً.
“كنا نقول إذا جاع الكريم يشمّ كفّ يده فيشبع، الآن إذا مرض ماذا يفعل؟ يشاهد فيديوهات سوريا 2010 على يوتيوب. الجوع يحتمل الصبر، يحتمل حنيّة الناس على بعضهم بعضاً، بكسرة خبز تسير الأيام حتى تتحسن الأحوال، ولكن إذا مرض الإنسان ماذا يفعل؟ إذا أصيب بداء كرون؟ إذا أصيب بأمراض هضمية وتنفسية وبولية الخ، ماذا يفعل؟ يضع خرقة في فمه ويصرخ ولكن بصمت لئلا يزعج أنينه كراسي أصحاب القرار النائمين على هموم شعب كثيرة”، تقول الأكاديمية في الفلسفة زهاء جمران لـ”النهار العربي”.
الاكتئاب الذي صار اثنين
سمعنا من أناس متعددين كيف سيوقفون أدوية القلب والضغط رغم كل ما ينطوي عليه ذلك من مخاطر، وآخرين سيوقفون أدوية الأعصاب، وغيرهم الأدوية النفسية التي صار سعرها يحتاج موازنات مستقلة.
الخبير النفسي عبد سمعان أشار في حديثه لـ”النهار العربي” إلى كميّة الجهد التي تكبدها المعالجون خلال عقد ويزيد لإقناع الناس بزيارة العيادات النفسية إثر ما تركته الحرب من آفات وتشوهات داخلهم، وهو يعتقد أنهم نجحوا بنسبة عالية جداً، لكنّ شعوراً من المرارة يعتصره الآن.
يقول: “الآن ماذا سيقول الطبيب للمريض، سيصف له دواءً وسيجد المريض أن الدواء سيكلف في بعض الحالات كالاضطرابات الكبرى والمعقدة نصف مليون أو مليوناً أو أكثر شهرياً إذا كان “الكورس” مكثفاً ومتنوعاً، وإذا كانت هناك أدوية مستوردة فسيتضاعف الرقم كثيراً، هذه علّة جديدة كفيلة وحدها بتشكيل آفة نفسية جديدة، فالناس تأتي لتعالج الحالة الأعم وهي الاكتئاب”.
ويتابع: “الآن نزيد من مرضهم حين نخبرهم أنّ علاجهم أصبح مستحيلاً بسبب الغلاء غير المنطقي لأسعار الأدوية فيكتئبون اكتئابين، واحداً أساسياً، وآخر لعلّة الفقر في بلد يمنعه من علاج نفسه”.
المبررات والحلول
قد يكون رفع أسعار معظم السلع قابلاً لمنطق التأقلم، ولكن الأدوية والقطاع الطبي ليست أماكن للتجريب في صحة أناس لا يمكن إنكار أن الحرب زادت من عللهم أضعافاً، وهذا ما تقوله الأمم المتحدة، فضلاً عن سيل من جرحى الحرب الذين لا يتولاهم أحد، وهذا رأي جماعي عام.
تبرر الحكومة لنفسها تلك الزيادات بشروط الحصار الذي يشتد على سوريا والذي يحاصر معه الدواء فيجعل تصنيعه مرهقاً ومكلفاً جداً في القطاعين العام والخاص، ورغم ذلك لا يمكن للناس أن ينظروا إلى الأمر على أنه من مسؤوليتهم.
الناس اليوم يبحثون بحثاً حثيثاً عن حلول سريعة لما ألمّ بهم. قد يكون التداوي بالأعشاب طريقاً، وربما اللجوء إلى شركات التأمين وتحقيق معادلة توفيرية نسبياً ولو بشكل ضيق طريقاً آخر، إضافةً للاستناد إلى جمعيات خيرية محلية يمكنها أن تلعب دوراً محدوداً في المعادلة، وكذلك التكافل الأهلي، وقد نجح مرّة وظهر بصورة عظيمة في زلزال سوريا مطلع هذا العام، وكذلك الصيدليات المجتمعية والتبرعات.
المصدر: النهار العربي