د. محمد جمال طحان مفكر سوري، ينتمي للثورة، له العشرات من الكتب السياسية والفكرية، منها كتب عن المفكر النهضوي العربي عبد الرحمن الكواكبي…
كنت قد قرأت الكتاب السابق ل د جمال غيابات الجب – (ربما بعد حين) الذي كتبه د جمال طحان عن تجربة الاعتقال الذي تعرض له في أواسط عام ٢٠١١م. في بدايات الثورة السورية ووثق به بعضا مما حصل معه في قالب روائي. والذي صدر قبل سنوات، وكنت كتبت عنها في ذات الوقت…
شيء يخصني – مذكرات معتقل ، الكتاب الذي يوثق فيه د جمال – مرة اخرى – كل ما حصل معه منذ اعتقاله في أواسط شهر تموز ٢٠١١م وحتى أواخر شهر كانون اول من نفس السنة حيث تم الإفراج عنه. كما ذكر وبقليل من التفصيل، عودته بعد الافراج عنه الى نشاطه السابق في دعم العمل الثوري ضد النظام إعلاميا وتوثيقا و اغاثيا و جميع المناشط السلمية في حلب وما حولها…
استمر بذلك أقل من سنة تقريبا. حيث بدأت حلقة النظام تضيق حوله. وكان لا بد أن يغادر سوريا مضطرا، انتقل إلى الغربة في شهر آب عام ٢٠١٢م…
يعتمد د جمال في مذكراته شيء يخصني أسلوب المتكلم في توثيق ما حصل معه، في تفصيل لكل ما عاشه…
اعتمد د جمال في مذكراته على التحدث في معايشته اللحظية تقريبا لكل ما عاشه في اعتقاله. مع تداخل ذلك مع استرجاع من ذاكرته حياته منذ طفولته وما قبلها بحيث يجعلنا مطلين على تفاصيل حياته منذ أجداده، كما يورد ذلك ضمن المناخ العام لما مرّ في حلب وسوريا في العقود الماضية. سياسيا وثقافيا ومجتمعيا.
د جمال يحمل شهادة الدكتوراه في الفلسفة. وهو يدرّس في الجامعة وبعض المعاهد التي تعلّم بعض الأجانب. كما أنه مشارك بالكتابة في الزاوية الثقافية لجريدة تشرين. له مؤلفات متنوعة ويكاد يكون المرجع الأول حول المفكر عبد الرحمن الكواكبي. وهو -عبر عقود- صنع لذاته حضورا فكريا ومجتمعيا داخل حلب وفي سوريا كلها…
لم يكن موقف د جمال الداعم لحراك السوريين في ثورتهم ضد النظام الاستبدادي جديدا عليه. فهو من نخبة المثقفين الحلبيين الذين كانوا مشاركين في حراك المثقفين والسياسيين المعارضين منذ ربيع دمشق الذي بدأ اوائل الالفية الثانية وبعد الوعد بالانفتاح الديمقراطي الذي وعد به رأس النظام الابن أوائل عهده. والذي سرعان ما تراجع عنه واعتقل الكثير من الناشطين وقتها…
في حلب وما أن بدأ الحراك الشعبي السوري في ربيع عام ٢٠١١م بالتظاهر بعد الربيع العربي، وبعد الموقف القمعي للنظام في مواجهة اطفال درعا، وتوسع الحراك الشعبي السلمي الى اغلب محافظات سورية. حتى بدأ د جمال مع عدد من سياسيي ومثقفي حلب في تشكيل تنسيقية حلب للثورة السورية. تماما كما حصل في كل سوريا. كانت حلب قد تأخرت كمدينة عن الالتحاق بركب التظاهر. وذلك بسبب الضغط الأمني الشديد. وعوامل أخرى متنوعة، ولكنها التحقت بالثورة بعد ذلك وانطلق التظاهر في أحياء كثيرة. لم يمنع نشاطهم بطش الأمن والشبيحة. كانت التنسيقية تخطط للتظاهر. مكانه وزمانه و التوثيق والبث للفضائيات. تم الحصول على أجهزة الاتصال الفضائية. كذلك الحصول على الكاميرات الصغيرة المموهة. كل ذلك كان من مهام التنسيقية وكان منها د جمال…
في ذات الوقت كان النظام يعتمد على شبكة مخبريه التي بناها عبر عقود. وحاول اختراق التنسيقيات والوصول الى قيادات التظاهر. وكان قرار النظام الذي مارسه منذ الأشهر الاولى للثورة وهو القضاء على المتظاهرين والثورة بأي طريقة وشكل. اعتمد العنف الاعمى واستعمال السلاح في مواجهة المتظاهرين، واحضر الشبيحة مع رجال الامن وبعد ذلك احضر الجيش في اجتياحات للبلدات والمدن. كان الاعتقال اهم ادواته في القضاء على المتظاهرين والناشطين الثوريين. الاعتقال يعني تعذيب وحشي الى درجة القتل، ليس الهدف فقط الحصول على المعلومات، بل الارعاب والخوف وفي حال تم الافراج عن المعتقل، ان يخاف من العودة للتظاهر، هذا ما اعتمده اانظام في الاشهر الاولى، لكن المفرج عنهم عادوا للتظاهر وفي وجدانهم مظلومية ذاتية عاشوها في نعتقلات النظام. وكان التخلص من المتظاهرين بالقتل عبر التعذيب مباحا بشكل علني. المعلومات مهمة في الاعتقال. لكن تصفية المعتقل او التحفظ عليه لفترة طويلة هو النتيجة النهائية…
لقد اعتقل د جمال من بيته بأسلوب مهين. اخذوه الى فرع المخابرات الجوية في حلب. كان يعتقد في الفترة الاولى لاعتقاله أن الأمن العسكري من اعتقاله . قرر د جمال منذ البداية ان لا يقدم اي معلومة للامن عن نفسه مجانا. حاولوا كثيرا معه بالترهيب والتخويف وجعله يشاهد ويعايش التعذيب، كذلك ظروف الاعتقال داخل زنزانته. الاكل السيء وكذلك الخروج إلى التواليتات. التوحش في التعامل مع أبسط الحاجات الإنسانية للمعتقل.
كان د جمال مصابا بسرطان المثانة وقد قام بعمل جراحي. اعتمد على المطالبة بالعلاج والمتابعة له. اعتمد على تاريخه وأعماله الفكرية. كنا تناغم مع ذلك المتابعة الخارجية من المحطات الفضائية المطالبة به. كما انه تمترس أمام انه لا يخفي موقفه من حق الناس بالمطالبة بالإصلاحات، وأنه وزملاءه كانوا يلتقوا للتداول بطريقة تؤدي لعقلنة الحراك السلمي. استطاع شد ازر بعض اصدقائه الذين اعتقلوا من التنسيقية. وارجعهم الى مربع الدور التنويري والتوجيهي والباحث عن حل لسوريا قام به مع آخرين في حلب، أخفى أي معلومات عن أدوار للتنسيقية. وتوافق مع آخرين. علم أن اعتقال أصدقائه واعتقاله جاء بعد أن اخترقهم أحد المخبرين الذي تسلل إلى التنسيقية…
اعتمد د جمال مع المحققين ومسؤوليهم على اسلوب الهجوم بدل الدفاع، لقد ذكر تاريخه العلمي ودوره الثقافي. كما اعتمد اسلوب كتابة العرائض الموجهة للقيادات الامنية وحتى بعث احداها لرأس النظام. موضحا انه مظلوم وان اعتقاله خطأ ويجب الإفراج عنه فورا. استطاع الحصول على أدويته بعد الحاح بالمطالبة بها، وكذلك المتابعة العلاجية في المشفى رغم الظروف السيئة لمعاملته لكنه اخذ الكثير من حقوقه في علاجه وتوصيل كلمته للمسؤولين. وكذلك زيارة عائلته له، وهذا مستحيل في ظروف الاعتقال.
كان د جمال يعتمد أسلوب المعالجة النفسية لما هو فيه بالخروج الشعوري مما يعيشه. عاد الى جده من والده وجده من والدته وكيف عاش في كنفهما. عاد إلى حلب حبه وشغفه. والى أحيائها التي نشأ وكبر فيها. تذكر طفولته وشبابه وعلاقته مع عائلته. كان حريصا على علاقته مع الله. يتوضأ كلما خرج للمرحاض. يصلي يراجع محفوظاته من القرآن. يعبر عن رأيه المتنور بالإسلام المقاصدي، خاصة عندما وضعوا معه أحد المعتقلين وناقشه عن خيارات المستقبل. وان الاسلام والعروبة هويتنا، وأن المستقبل يصنعه كل الناس بخيارات ديمقراطية في مجتمع عادل وحر. لم يقترب د جمال من البنية الطائفية للنظام إلا بشكل غير مباشر. فكل عناصر الأمن بدءا من العميد رئيس الفرع وحتى آخر عسكري في معتقلهم كلهم يرددون لهجة الساحل يعني علويين… وهذا يعني ان الشعب السوري باغلبه ضحية نظام استبدادي طائفي فاسد…
توحش عناصر الأمن وتعذيبهم الشديد لكل من يصل إلى معتقلهم يصل إلى درجة القتل بدم بارد، او إصابة المعتقل بعاهة، دون أي إحساس بالذنب، أو محاسبة او مساءلة…
لم يستطع المحققين ولا عناصرهم الحصول على أي معلومة تدين د جمال واصدقائه. وما علمه الأمن عن التنسيقية في حلب اوّله لهم جمال بأنه كان عملا المقصود به تنوير المتظاهرين ودفعهم لأخذ المنحى السلمي ودفع النظام لتفهم مطالبهم والاستجابة لها…
الامن لم يقتنع لكن الضغط الإعلامي والشعبي من أجل د جمال. كذلك تطور الحراك الشعبي في سوريا وتوسعه وبداية عسكرته، جعل قضية د جمال واصدقائه ثانوية بالاهتمام. هذا غير ضغط د جمال عليهم بمرضه و علاقاته وعمله وإنتاجه الفكري…
استمر اعتقال د جمال في الأمن الجوي في حلب لأشهر ومن هناك تم اغلاق ملفه وتم نقله مع بعض اصدقائه الى دمشق ضمن أكثر من مركز أمني تابع للمخابرات الجوية. حيث تم اعادة التحقيق المصاحب للتعذيب مع اغلب من كان معه في قضية التنسيقية…
وبعد مضي خمسة أشهر تقريبا على اعتقاله وفي اواخر سنة ٢٠١١م. تم الإفراج عنه حيث نقل بالطائرة من دمشق الى حلب وتم تسليمه لمحافظ حلب. الذي كان قد تلقى الكثير من المطالبات الشعبية ومن وجوه اجتماعية وفكرية في حلب بضرورة الإفراج عن د جمال…
خرج د جمال من المعتقل. ولم يستسلم ويتنازل عن دوره. فقد عاد ليقوم بدور في جميع مناشط التظاهر والدعم الاغاثي والإمداد بالمتطلبات الإعلامية من اجهزة اتصال وكاميرات وغيرها… وكذلك في المناشط العلنيّة التي كانت متاحة ويستطيع من خلالها القيام بدوره الداعم ضمنا لمطالب الشعب السوري…
استمر نشاط د جمال في حلب في هذه المناشط حتى شهر آب من عام ٢٠١٢م. واحس ان الحلقة حوله تضيق. فقد اعتقل بعض المقربين منه والعاملين معه. فلم يكن أمامه حل الا أخير وهو مغادرة سوريا خوفا من اعتقال قد يودي بحياته…
هنا تنتهي مذكرات د جمال طحان.
في التعقيب عليها اقول:
انني اعبر عن انبهاري أمام هذه المذكرات التي ان احببت توصيفها كعمل ادبي فهي تمتلك كل مواصفات الجذب والتحفيز و الترقب مع قدرتها أن تدخل في النفس كل المنعكسات المرتجعة لاحداثها. من حزن وفرح وخوف وأمنيات ومعاناة…
كما أرى أن مذكرات شيء يخصني نموذجا لتداخل المعاش اليومي بفجائعه لمعتقل سياسي عند نظام وحشي. مع التداخل مع العالم النفسي لصاحب المذكرات بحيث تظهر وأنها شكل من البوح الحميم من صديق لصديق يجعل الحكاية ليست فقط لصاحب المذكرات بل للقارئ نفسه. كما يتداخل ذلك مع استرجاع الزمان لعقود سابقة في حلب العريقة وأهلها الذين صنعوا مجدهم وحضورهم في التاريخ منذ القديم للآن…
كما أن النص وبعد مضي اثني عشر سنة على الثورة السورية وبعدما وضعت سوريا وشعبها وقضيتها في ثلاجات الصراع الدولي. وأصبحت سوريا مقسمة واقعيا. واغلب شعبها مشتت داخل سوريا وخارجها. أصبحت مقسمة بين القوى الدولية والإقليمية والطائفية والانفصالية. روسيا وإيران وأمريكا وحزب الله وحزب العمال الكردستاني الـ ب ك ك ممثلا قوات سوريا الديمقراطية وال ب ي د الحكم الذاتي الكردي الانفصالي… وبعض سوريا تحت سيطرة النظام وكل سوريا موجوعة من الجوع والفاقة ونقص في كل اسباب الحياة…
مازالت أسباب ثورتنا السورية قائمة وحاجتنا لبناء سوريا الحرية والعدالة والكرامة والديمقراطية اكثر الحاحا من اي وقت…
نعم إن مذكرات شيء يخصني وامثالها تجعل قضية الشعب السوري حيّة تحت مسمى:
لكي لا ننسى ….