من يعرف محافظة السويداء بطابعها الريفي الانتقالي وطبيعة علاقتها الاجتماعية والإنسانية، يدرك معنى قولنا “إنّ المضافة هي ديوان السويداء” وإن أجيالها المتلاحقة هم بمعنى أو بآخر خريجو هذه المضافات العريقة بتقاليدها وطقوسها وفنجان قهوتها العربية الأصيلة التي شكلت رصيداً عاطفياً وتراكماً معرفيا لتاريخ من التوافقات والصراعات المتعددة وحددت سمات وعي الجماعة بذاتها وبالآخر القريب والبعيد. إنهم أبناء تلك العلاقات الطيبة المتبادلة والسمحة التي ترسخت في مناخ المضافة الجبلية (الحورانية) خلال أكثر من ثلاثة قرون، أي منذ انتقلت تلك المجموعات البشرية من دروز لبنان وفلسطين وحلب في ظروف قاهرة إلى جبل حوران واختلاطهم وتفاعلهم مع سكانه الأقدم والقلائل من المسيحيين وبعض العشائر، حيث تبادلوا معهم التأثير والتأثر بالعادات والتقاليد وفنون الغناء والموسيقا والدبكات الشعبية وغيرها، وامتد هذا أيضاً إلى جواره في سهل حوران عبر التواصل المباشر في العمل والتجارة والمنتديات الشعبية التي يتداولون فيها مختلف شؤون حياتهم حرباً وسلما وأفراحا وأتراحا، واستعاضوا بها عن غياب المنتديات الرسمية أو تقصيرها سواء خلال السلطنة العثمانية والاحتلال الفرنسي وتباعاً حين أدخلوا تحت هيمنة سلطات البعث التي اتخذت بدورها شكلاً من أشكال الاحتلال الداخلي المعرقل والمعطل لكل مفاصل الحياة وتفاصيلها اليومية.
وتبعا لقراءة ما سبق من ظلم وتغييب لدور الجماعات الأهلية ونتيجة له، قد نجد تفسيراً لانخراط أكثرية مجتمع السويداء ومختلف فعالياته في ساحات التظاهر السلمي وفي قوة التفافه على الهدف، ليغدو نظيراً للحراك الذي بدأته محافظة درعا في آذار 2011 وليكون أحد أشكال امتداده المتجدد في الديموغرافية الجنوبية. ولكن بعد أن طوّروا أدواته السلمية واستفادوا من تجربة الحراك السوري طوال اثني عشر عاماً، وراح يحشد المزيد من مظاهر الإبداع الفني والأدبي ومختلف الفعاليات والثقافات التي رسخها التواصل والتجاور بين أهل الجنوب في عمق الشخصية الاجتماعية، فصعدت بتأثير منها ومن واقع استبداد سلطة البعث وفسادها وإجرامها إلى السياسة، وجذبت مكونات أهلية متباينة التوجهات ومتفاوتة في مستوى الثقافة، وكلها تنضح من المعين نفسه وتنتمي إلى مجتمع حاز قسطاً وافراً من التعليم وتميز بسعة شرائحه الوسطى التي ضخت المزيد من خريجي المعاهد والجامعات من ذوي المهارات المهنية والحرفية ونسبة عالية من المبدعين في مجال الغناء والموسيقا والتمثيل والفن التشكيلي والآداب من الذكور والإناث. وقد اندفعت كلها إلى موقف حاسم من السلطات المطلقة الفاسدة التي سيطرت زمنا طويلاً على الفضاء العام وزرعته بالتماثيل وصور (القائد) الذي عطل كل فعالية، واستباح كل القيم وانتهك كل القوانين.
لقد فكك نظام الأسد أواصر الوحدة الجبلية الداخلية المعروفة بمتانتها وقوّض التركيبة الاجتماعية عبر محاصرة دور الوجهاء الاجتماعيين والدينين والمثقفين المميزين الذين أسهموا في صقل ثقافة الأجيال المتلاحقة، وزودوها بالمعارف والخبرات وبإشاعة المحسوبيات والارتزاق واعتماده على شبكات المخبرين أفسد العلاقات الحيوية والعاطفية والقيم النبيلة بين الأهالي، ودفع بعناصره الحزبية والأمنية للهيمنة على المجتمع، فحجزوا لأنفسهم المواقع والمنافع وتصرفوا بشؤون العامة ومستقبل الأبناء، وتخلّى عن التنمية الوطنية وعطل المنفذ الحدودي والطريق الدولي الذي كان مقرراً أن يمر بالمحافظة المنهكة اقتصاديا لينشط الحركة التجارية والترانزيت، كما أهمل المناطق السياحية الغنية بآثارها المميزة، بل توغلت قوات تابعة لرأس النظام ونهبت كنوزها وهربتها إلى الخارج. وأمام إغلاق كل أبواب العمل المنتج في وجوه أبنائها، ثم كان لتخليه عن كل مظاهر التنمية والتطوير دوره في دفع أبناء الجنوب إلى المهاجر القريبة والبعيدة ولما عاد بعضهم بقسط وافر من الأموال وسعوا لإقامة مشاريع تنموية بديلة، اصطدموا بفساد سلطات الأسد التي رفضت أي مشروع خاص لا يدفع صاحبه عمولة عالية ويرفض أن يشاركه المتنفذون بنصف الأرباح، فتوقفت مشاريعهم وانصرفوا إما إلى بناء القصور الفارهة أو عادوا ليستثمرو في البلدان التي غنموا فيها.
وبالجمع بين العلاقات الاجتماعية الأصيلة ومظاهر التحديث والعصرنة، أسست طليعة السكان الباقين في ظلّ المعاناة القاسية حراكهم وقدموا مطالبهم المعيشية الضرورية ثم أدركوا أن معركة لقمة الخبز والعيش الكريم لا تنفصل عن معركة الحرية والحقوق، وأسسوا وعياً سياسياً حديثاً، يتطلع إلى التغيير السياسي نحو الحرية والديمقراطية والعدالة وكرامة الإنسان وحقوقه المشروعة على أرضية وطنية، استخلصت مبادئ ثورة الحرية والكرامة، بعد تنقيتها مما ألحقته بها فصائل سلفية مسلحة ببنادق مأجورة من الشوائب والانحرافات، كما رفضت هذه الحشود الشعبية المنتفضة عملية تطييف الصراع التي أخرجت قوى التغيير الوطني الديموقراطي من الميدان وأماتت فعالياتها السياسية، وحينما هبت من جديد بعد توفر الشروط السياسية والاجتماعية المناسبة للانتفاضة، أخذت طابعاً اجتماعياً لمجتمع، بدأ يتعرف على ذاته ويعرفها بعد أن غُيبت مطولا وأخذ يستعيد لحمته المتينة ويقدم نموذجه وتجربته النضالية إلى الشريك الوطني السوري ليعمل الجميع على تفعيل الحوار عبر الاحتكاك المباشر مع ساحات الكرامة التي خلصت المنتفضين من اغترابهم وحررتهم من استلابهم المديد ودفعت بالنقابات المهنية والعلمية كالمهندسين والمحامين والمعلمين والمرأة إلى استعادة الحياة المدنية، وبمشاركة وازنة من الجنسين الذكور والإناث وكذلك بعض البيوتات التقليدية التي همشها البعث وفرض عليها طوقا أمنياً أو حوّل بعض رموزها إلى تابعين مبتذلين يرتمون على عتباته. ولعل اللافت والذي يجب أن يحظى بالاهتمام في هذا المشهد هو اندفاع جيل من اليافعين الذين ترعرعوا في مناخ ثورة الحرية والكرامة وأسقطوا من حسابهم ثقافة البعث، وبنوا جسور التواصل بين أجيال الثورة فتلاقحت طاقة الشباب وحكمة الشيوخ، وتقدمت المرأة بخطا واثقة لتكسر قيود الجندرة ولتأخذ دورها في الساحة وتبلوّر تجربتها عبر المشاركة السياسية والاجتماعية الخاصة.
وبعيدا عن أية نتائج سياسية تبدو بعيدة وغير واضحة، يمكن للمرء أن يتوقف عند أهم ما يعكسه هذا الحراك بطابعه السلمي والحواري المتصاعد بقوة إجماعه والتفافه على الهدف الأساسي، وإعادة اللحمة الاجتماعية التي هشمتها عهود الاستبداد والقطع مع نظام القتل والدمار وقطع الطريق على أي استبداد آخر، والمطالبة بالتغيير السياسي نحو الديمقراطية والحرية والعدالة، وبهذا وغيره يكون الحراك السلمي قد تحرر من القيد السلطوي وحرر ذاته الوطنية ودفع بطاقاتها لتخرج من عطالة مديدة تحتشد وفق اصطفاف منظم ومسار متصاعد، تغذيه ذاكرة ثورة الحرية والكرامة بوصفها قيمة أخلاقية وسياسية أعلى من كل قيمة أخرى..
وفي الختام، هل يسأل بعضنا: لماذا السويداء؟ وكيف؟ وإلى أين؟ ولهؤلاء جميعا يقول الحراك: إنها السويداء بنت مضافاتها وتاريخها وواقعها وحصيلة هذا المزيج الحضاري الجنوبي المميز. ومن أجله ومن أجل سوريا كلها جاء رد الانتفاضة سلمياً حازماً وقاطعاً من دون أن يفرض خياراته على أحد. بل قال للجميع: نحن أبناء ثقافة السلم والعمل لمتطلباته ومن يرغب به ويعمل من أجله فستظل أيادي السويداء ممدودة له.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا