من المرجح أن تؤدي الحرب في غزة إلى تعزيز جنوح البلاد نحو اليمين.
منذ اللحظة التي اخترقت فيها “حماس” السياج الأمني الإسرائيلي على حدود غزة في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وبدأت هجومها المدمر، بدا كأن إسرائيل توشك أن تشهد تغيراً جذرياً. وفي غضون ساعات اضطر الإسرائيليون إلى مواجهة حقيقة انهيار عدد من الافتراضات التي طالما وجهت السياسة الإسرائيلية المعتمدة إزاء الفلسطينيين.
لقد فشلت سياسة حصار غزة التي اتبعتها الدولة منذ 16 عاماً في جعلهم آمنين، وعوضاً عن ذلك فقد تشجعت إسرائيل على التقاعس تحت تأثير حسابات الحكومة بأنها قادرة على دفع “حماس” إلى تبني نهج واقعي براغماتي، سواء من خلال السماح بالتمويل القطري للحركة أو منح تصاريح عمل للغزاويين، وثبت أن الاعتقاد بأن غالبية التهديدات الصادرة عن “حماس” يمكن إزالتها من خلال المراقبة التقنية العالية والحواجز العميقة تحت الأرض ونظام دفاع “القبة الحديدية” الصاروخي، جاء خاطئاً تماماً.
وعلى نطاق أوسع سلطت تلك الهجمات الضوء على الفشل الذريع لفكرة أنه من الممكن تهميش القضية السياسية الفلسطينية إلى أجل غير مسمى من دون أي كلفة على إسرائيل، ويشار إلى أن ذلك الاعتقاد راسخ جداً بين عناصر القيادة الإسرائيلية لدرجة أن المعلقين وجدوا له أسماء على غرار إدارة الصراع أو “تقليص حجم الصراع”، وهكذا طوال أعوام لم تحصل مفاوضات إسرائيلية فلسطينية حول اتفاق سلام نهائي، على رغم سعي إسرائيل إلى التطبيع مع عدد متزايد من الدول العربية.
وعلى مدى أكثر من عقدين من الزمن أكدت الأحزاب اليمينية المهيمنة على المشهد السياسي الإسرائيلي للناخبين بأن البلاد أكثر أمناً مما ستكون عليه في ظل أي سياسة أخرى، ووافق الناخبون بغالبيتهم على ذلك، ولكن في السابع من أكتوبر أدى هجوم “حماس” إلى انهيار الوضع السائد.
ومع ذلك فهناك جانب حاسم تواصل إسرائيل إظهار الثبات فيه، وعلى رغم أن الإسرائيليين يلومون قيادة البلاد بسبب الإخفاقات الأمنية الكارثية المرتكبة خلال الهجمات فمن غير المرجح أن يتغير توجههم السياسي الأساس، وقد يضطر رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إلى الاستقالة حينما تنتهي الحرب إن لم يكن قبل ذلك، لأن تلك الحرب ليست لها نهاية واضحة.
ولكن وفق ما أظهره التاريخ الإسرائيلي مراراً وتكراراً، وخصوصاً في العقود الأخيرة، فإن فترات الحرب أو العنف الشديد مثل تلك التي تحدث حالياً لم تؤد إلا إلى تعزيز الميل نحو اليمين في السياسة الإسرائيلية، وإذا استمر هذا النمط الآن فلربما ينتخب الإسرائيليون حكومة جديدة لكنهم قد يستمرون في تأييد الافتراضات الخاطئة نفسها التي حددت هذا الميل وأسهمت في تشكيل الأزمة الحالية.
إلقاء اللوم على القائد
من غير المستغرب أن يلقي عدد من الإسرائيليين اللوم في الفشل الأمني الكارثي الذي شهدته البلاد على نتنياهو، الرجل الذي في القمة، لكن الأمر الأكثر إثارة للدهشة أنهم يعبرون عن معارضتهم في وقت تخوض فيه إسرائيل واحدة من أصعب حروبها منذ عقود، وهكذا ففي الأسابيع التي تلت الهجوم شهدنا تظاهرات عدة تطالب نتنياهو بالاستقالة، وأيد هذا المطلب يائير لبيد رئيس المعارضة وبعض عائلات الضحايا الذين قتلوا أو اختطفوا على يد “حماس”، وفي ذلك الإطار تشير بعض استطلاعات الرأي إلى أن نتنياهو سيهزم هزيمة نكراء إذا أجريت الانتخابات الآن.
وحتى في استطلاع أجري في الـ 22 والـ23 نوفمبر الماضي بعد أن أعلنت الحكومة صفقة لإطلاق سراح بعض الرهائن بدا ممكناً أن تعزز موقفها، تبين أن الائتلاف الحاكم سيخسر 23 مقعداً من مقاعده الـ64 في الكنيست (من أصل 120 مقعداً [أي عدد المقاعد الكامل في الكنيست]).
واستطراداً انخفض الدعم لحزب نتنياهو بصورة كبيرة، وفي الواقع تشير استطلاعات الرأي إلى أن حزب الليكود سيخسر ما يقارب نصف مقاعده في الكنيست البالغ عددها 32 مقعداً إذا أجريت الانتخابات الآن، وربما من أكثر الأمور إثارة للدهشة يتمثل بأن ما يفوق ثلاثة أرباع الإسرائيليين يعتقدون أن نتنياهو يجب أن يستقيل بعد الحرب أو حتى أثناءها.
وتتناقض هذه الأرقام بصورة صارخة مع موجة التأييد التي يحظى بها في العادة معظم القادة حينما تتعرض بلادهم للهجوم أو تكون في حال حرب، ومن الأمثلة البارزة على ذلك الدعم الواسع النطاق الذي تلقاه الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش من الأميركيين في أعقاب هجمات 11 سبتمبر عام 2001،وكذلك ازدادت شعبية القادة الأميركيين إلى مقدار الضعفين خلال حرب الخليج 1990-1991 وحرب العراق التي بدأت عام 2003، وعلى نحو مماثل تمتع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بارتفاع هائل في شعبيته بعد الغزو الروسي لأوكرانيا عام 2022.
وفي المقابل فبالنسبة إلى الإسرائيليين فإن الانقلاب على قادتهم في زمن الحرب ليس بالأمر الجديد، وكثيراً ما شعر الناخبون في البلاد بعدم الرضا عن حكومتهم بعد اندلاع الحرب، بغض النظر عن التوجه السياسي للأحزاب الحاكمة، ففي عام 1973 ألقي اللوم على رئيسة الوزراء غولدا مائير لفشلها في توقع الهجوم المصري الذي أدى إلى اندلاع حرب “يوم الغفران”، وأزيحت في النهاية من منصبها، وأدت الانتفاضة الثانية، أي الانتفاضة الفلسطينية العنيفة التي حدثت عام 2000، إلى انهيار حكومة رئيس الوزراء إيهود باراك وخسارته أمام آرييل شارون بنحو 25 نقطة مئوية عام 2001.
ومن الأمثلة الأخرى حرب إسرائيل ضد “حزب الله” عام 2006، فبحلول أغسطس (آب) من ذلك العام شعر 63 في المئة من الإسرائيليين أن رئيس الوزراء إيهود أولمرت فشل في إدارة الحرب بصورة صحيح وعليه الاستقالة، وبحلول أوائل عام 2007 واجه أولمرت أيضاً تحقيقات بتهم الفساد ولم يكن أكثر من ثلاثة أرباع الإسرائيليين راضين عن أدائه الوظيفي، وهي النسبة نفسها التي تريد حالياً أن يتخلى نتنياهو عن السلطة. (استقال أولمرت في نهاية المطاف عام 2008 لأنه كان على وشك مواجهة لائحة اتهامات بالفساد).
وبناء على هذا النمط الراسخ يبدو من المرجح أن مصير نتنياهو سيكون مشابهاً، فقبل وقت طويل من هجمات “حماس” تعرضت حكومته الائتلافية اليمينية المتطرفة التي تشكلت أواخر ديسمبر (كانون الأول) 2022 لانتقادات واسعة النطاق، وخلال الجزء الأكبر من العام الماضي خرجت أعداد هائلة من الإسرائيليين إلى الشوارع من أجل معارضة خطة الحكومة للإصلاح القضائي المثيرة للجدل إلى حد كبير، في ما أصبح يشكل الاحتجاج الأطول أمداً في التاريخ الإسرائيلي، وأوشك على دخول أسبوعه الـ 40 على التوالي في السابع من أكتوبر.
وفي أبريل (نيسان) الماضي لم يحظ رئيس الوزراء إلا بدعم 37 في المئة من الإسرائيليين، ومنذ الهجمات انخفض هذا الرقم إلى 26 في المئة، وبحلول منتصف نوفمبر الماضي أعرب ضعف هذا العدد، أي ما يوازي 52 في المئة من الإسرائيليين، عن تفضيلهم رئيس أركان قوات الدفاع الإسرائيلية السابق بيني غانتس، المنافس السياسي الرئيس لنتنياهو والشريك الحالي في حكومة الطوارئ الحربية.
وعلاوة على ذلك تلاحق نتنياهو أيضاً اتهامات بالفساد، ومن بين قضايا الفساد المرفوعة ضده والإخفاقات الأمنية في عهده والحرب الحالية، سيكون من الصعب إن لم يكن من المستحيل أن يبقى في منصبه، لكن يبقى السؤال الأهم مطروحاً في شأن مدى التغيير الجوهري في توجهات السياسة الإسرائيلية التي ستحدث بأثر من رحيله.
الاستجابة بالجنوح نحو اليمين
مراراً وتكراراً وفي لحظات الحرب أو العنف الشديد، جنح الإسرائيليون نحو اليمين، فحينما انتخبت إسرائيل حزب الليكود اليميني للمرة الأولى عام 1977، كان ذلك بمثابة ذروة الانحدار البطيء لحكومة حزب العمل، وهو انحدار بدأ بعد حرب عام 1973، وجاء ذلك الانتصار مدفوعاً بالتمرد الذي تخمر منذ فترة طويلة ضد النخب الحاكمة في “التحالف العمالي”، لكنه أضفى الشرعية على الأيديولوجيات القومية المتطرفة باعتبارها قوة مهمة في إسرائيل، وكذلك دشن [الانتصار نفسه] المرحلة الثانية من التاريخ السياسي للبلاد التي هيمنت عليها في الغالب حكومات يمينية.
وخلال ثمانينيات القرن الـ 20 أسهم صراعان كبيران في دفع مزيد من الإسرائيليين إلى الإعلان عن انتمائهم إلى اليمين، تمثلا في حرب عام 1982 والانتفاضة الأولى التي بدأت عام 1987، وظهر ذلك التحول في أرقام استطلاعات الرأي، ففي عام 1981 وجد الباحثون في مجال الاستطلاعات أنه بين السكان اليهود ذكر 36 في المئة من المستطلعين أنهم يخططون لدعم حزب يميني (كانت الاستطلاعات العامة في ذاك الوقت بالكاد تشمل أشخاصاً من السكان العرب). وبحلول عام 1991 اتسعت هذه الشريحة وارتفعت نسبة اليهود الإسرائيليين الذين يصنفون أنفسهم كمؤيدين لليمين إلى حوالى النصف، ومع ذلك ففي انتخابات عام 1992 فاز زعيم حزب العمل إسحاق رابين عبر حملة انتخابية ناصرت عملية السلام مع الفلسطينيين، وبصورة ظاهرة يتعارض ذلك الأمر مع التوقعات بأن الصراع يؤدي إلى انتصارات انتخابية يحققها اليمين، وخلص بعض المحللين في وقت لاحق إلى أن استخدام الفلسطينيين للقوة في الانتفاضة الأولى ربما يكون قد أسهم في دعم إسرائيل للسلام والحكومات المسالمة.
وفي المقابل جاء ذلك الصراع أقل عنفاً بكثير من الحروب اللاحقة، وبالاسترجاع استخدم الفلسطينيون إلى حد كبير أساليب العصيان المدني واندلعت غالبية الاشتباكات الخفيفة في الأراضي المحتلة وحدها، وشكلت انتخابات عام 1992 المرة الأخيرة التي صوت فيها الإسرائيليون لمصلحة اليسار في أعقاب أي نوع من أنواع من الصراع مع الفلسطينيين.
وعلى رغم أن حكومة رابين وقعت “اتفاقات أوسلو” مع منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات، إلا أن المتطرفين على الجانبين سرعان ما أحبطوا العملية، فبين عامي 1993 و1995 نفذت الجماعات الفلسطينية المسلحة 14 تفجيراً انتحارياً في إسرائيل، وفي عام 1994 ارتكب المستوطن اليهودي المتعصب باروخ غولدشتاين مجزرة من خلال قتله 29 من المصلين المسلمين في الخليل، ثم في نوفمبر 1995 اغتيل رابين على يد متطرف ديني قومي إسرائيلي أثناء مسيرة سلام في تل أبيب.
ويعتقد كثير من المحللين الإسرائيليين وحتى المفاوضين السابقين أن اغتيال رابين أدى إلى الإجهاز على عملية السلام، وفي الواقع فلقد جعلها رابين محوراً لقيادته إضافة إلى أنه تمتع بهيبة سياسية مكنته من التأثير في شريحة كبيرة من الجمهور الإسرائيلي، ولكن هناك تفسيراً آخر يتلخص في أن الإسرائيليين في غياب رابين عادوا ببساطة لتفضيلاتهم الأيديولوجية الطبيعية،، ففي أوائل عام 1995وقبل اغتيال رابين أشار حوالى نصف اليهود الإسرائيليين إلى أنهم يمينيون في مقابل 28 في المئة اعتبروا أنفسهم يساريين و23 في المئة عرفوا عن أنفسهم بأنهم وسطيون، وتتقارب تلك إلى حد كبير من تلك المسجلة في استطلاعات عام 1991. وخلال انتخابات عام 1996 وعلى رغم أن استطلاعات الرأي أظهرت تعاطفاً مع خليفة رابين، شمعون بيريز، بعد الاغتيال، إلا أن الناخبين اختاروا في نهاية المطاف نتنياهو الذي خاض الانتخابات متبنياً برنامجاً يمينياً شعبوياً وعارض “عملية السلام”.
ولكن إذا دفع العنف الإسرائيليين إلى الجنوح أكثر نحو اليمين فهناك أيضاً أدلة من أعوام “اتفاقيات أوسلو” على أن الأوقات الأكثر هدوءاً يمكن أن تؤدي إلى جنوح مماثل حتى لو جاء بصورة معتدلة نحو اليسار، ومثلاً فخلال فترة ولاية نتنياهو الأولى في أواخر تسعينيات القرن الـ 20 ومع انخفاض التفجيرات الانتحارية ارتفعت نسبة اليهود الإسرائيليين الذين عبروا عن تأييدهم لليسار إلى 35 في المئة، في حين انخفضت نسبة أولئك المؤيدين لليمين إلى 42 في المئة.
ووفقاً لبيانات الاستطلاع المتاحة فقد بلغ ذلك الفارق سبع نقاط ويُعتبر الأضيق بين الجانبين طوال الأعوام الـ 30 الماضية. ثم في عام 1999 فاز باراك، الزعيم الذي اعتبره معظم الإسرائيليين آنذاك يسارياً، بمنصب الرئاسة بناء على وعود بإحياء عملية السلام وإنهاء فترة الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان التي امتدت إلى 17 عاماً آنذاك، لكن لم يدم الدعم الإسرائيلي لليسار، ففي قمة كامب ديفيد في يوليو (تموز) 2000 حاول باراك التوصل إلى اتفاق كامل في شأن الدولتين مع عرفات، وعوضاً عن ذلك فشلت المحادثات واندلعت الانتفاضة الثانية، وسرعان ما أضحت أكثر عنفاً بكثير من الانتفاضة الأولى، وجاء التأثير في الناخبين فورياً تقريباً.
ووفق ما أظهرته الاستطلاعات التي أجريتها فقد انخفضت نسبة اليهود الإسرائيليين الذين أيدوا المواقف اليسارية بمقدار 10 نقاط خلال السنة الأولى من الانتفاضة، واستمرت في الانخفاض بعد ذلك.
تعزيز السيطرة
وخلال العقد الأول من القرن الحالي جنح الإسرائيليون أكثر نحو اليمين وتميز النصف الأول من العقد بأربعة أعوام من التفجيرات الانتحارية وإعادة اجتياح إسرائيل للمدن الفلسطينية في عملية “الدرع الواقي”، وشمل النصف الثاني حرب عام 2006 في لبنان إضافة إلى انسحاب إسرائيل من غزة الذي أسهم في فوز “حماس” في الانتخابات الفلسطينية واستيلائها العنيف على غزة عام 2007. وأدى ذلك [الاستيلاء] إلى حصار إسرائيل للقطاع وتزايدت وتيرة إطلاق الصواريخ من غزة على إسرائيل، فأسفر ذلك في نهاية المطاف إلى تنفيذ عملية “الرصاص المصبوب” التي تجسدت باجتياح إسرائيلي كبير لغزة في 2008 – 2009، وبعد فترة وجيزة من تلك الحرب صوّت الإسرائيليون لمصلحة نتنياهو واتخذ حزب الليكود توجهاً شعبوياً قومياً متزايداً، ومع حلول عام 2011 عبر أكثر من نصف اليهود الإسرائيليين عن تأييدهم لليمين، أي أكثر من ثلاثة أضعاف عدد الأشخاص من أصحاب الميول اليسارية الذي انخفض إلى 15 في المئة.
واستمر هذا التوجه خلال العقد الأول من القرن الـ 21، وبينما خاضت إسرائيل صراعات عدة مع “حماس”، بما في ذلك عمليتها الموسعة في غزة عام 2014، ارتفعت نسبة الناخبين الإسرائيليين اليهود المؤيدين للأيديولوجية اليمينية بصورة مطردة، وعلى رغم أن هذا المؤشر ناهز 50 في المئة تقريباً في منتصف العقد الأول من القرن الـ 21 إلا أنه وصل إلى 60 في المئة مع حلول عام 2019، وفقاً لاستطلاعات الرأي التي أجريتها.
وفي تلك المرحلة شملت استطلاعات الرأي بانتظام العرب الإسرائيليين أيضاً الذين يشكلون حوالى 20 في المئة من سكان إسرائيل (لكنهم لا يتجاوزون الـ17 في المئة من المواطنين البالغين الذين يتمتعون بحق الاقتراع)، وأدى انخفاض مستويات تأييدهم للأيديولوجية اليمينية إلى انخفاض المتوسط الإجمالي لدعم اليمين، ولكن فحتى مع مشاركتهم بقيت نسبة الإسرائيليين الذين يعتبرون أنفسهم يمينيين ضمن حدود الـ50 في المئة تقريباً. (أسهم العرب الإسرائيليون في رفع المعدل الإجمالي لمؤيدي اليسار إلى حوالى 18 في المئة من إجمال السكان في معظم الاستطلاعات التي أجريت خلال الأعوام الأخيرة).
وعززت الأعوام التي سبقت الحرب الحالية ذلك المسار، ففي مايو (أيار) 2021 أدى تصعيد جديد مع “حماس” إلى أعمال عنف غير مسبوقة في الشوارع بين اليهود والمواطنين العرب في إسرائيل، تلتها جولة أقصر من العنف عام 2022 ومعركة سريعة مع حركة “الجهاد الإسلامي” الفلسطينية في مايو 2023. وعلى رغم الغضب الواسع النطاق تجاه حكومة نتنياهو بسبب خطة الإصلاح القضائي، واصل غالبية الناخبين اليهود التعبير عن جنوحهم نحو اليمين في الاستطلاعات.
يذكر أنه قبل خمسة أيام بالضبط من هجمات “حماس” أجرى مركز “إيه كورد” aChord لبحوث علم النفس الاجتماعي التابع للجامعة العبرية استطلاعاً وجد أن ثلثي اليهود الإسرائيليين أعلنوا تأييدهم لليمين (إما “يمين متشدد” أو “يمين معتدل”) في مقابل 10 في المئة مؤيدين لليسار، ويعني ذلك أن كل ناخب يهودي إسرائيلي يساري يقابله سبعة ناخبين يمينيين، وبناء على تلك البيانات الصارخة فسيكون من المستغرب ألا يميل الإسرائيليون أكثر نحو اليمين في أعقاب أسوأ أعمال عنف تعرضوا لها منذ تأسيس دولتهم.
استمرار الأشياء نفسها
وعلى رغم الاستياء الشعبي الكبير من قيادة نتنياهو إلا أن المخاوف في شأن عدم الاستقرار السياسي قد تتيح له البقاء في السلطة خلال الحرب الحالية، وعلاوة على ذلك لا يزال ممكناً حدوث أمور كثيرة في الحرب نفسها، ومن المحتمل أن تعتمد ميول الناخبين أيضاً على مقدار الوقت الذي قد يمر قبل إجراء الانتخابات التالية، ولكن إذا أُجبر نتنياهو في نهاية المطاف على ترك منصبه فمن غير المؤكد أن إسرائيل ستسلك مساراً أيديولوجياً مختلفاً، إذ تظهر استطلاعات الرأي الحالية أن الناخبين يحتشدون حول حزب “الوحدة الوطنية” الذي ينتمي إلى يمين الوسط ويتزعمه غانتس، ووفق استطلاع رأي نشر في الـ 24 من نوفمبر الماضي فإنه إذا أجريت الانتخابات الآن فسيحصل حزب غانتس على 43 مقعداً، أي أكثر بـ11 مقعداً مما فاز به حزب الليكود في انتخابات عام 2022 وأكثر من ضعفي المقاعد التي من المتوقع أن يحصل عليها الليكود حالياً.
ولكن من السابق لأوانه معرفة مدى بقاء هذه الأرقام على حالها أو إذا كانت ستظهر جنوحاً أوسع نحو المواقف السياسية الوسطية، وتتمثل إحدى المشكلات في أن جميع أحزاب اليمين المتطرف في إسرائيل موجودة في الائتلاف الحاكم الذي لا يحظى بشعبية كبيرة، وبالتالي فإن الناخبين الغاضبين من حكومة نتنياهو الأساس يدعمون تلقائياً حزب “الوحدة الوطنية” الذي أصبح الآن شريكاً في تلك الحكومة في زمن الحرب، ويبدو أن غانتس بمؤهلاته العسكرية القوية يستفيد أيضاً من الدعم الناجم عن “التوحد خلف علم البلاد” في الحرب الحالية.
ولكن إذا استاء الإسرائيليون من نتنياهو لكنهم استمروا في إبداء الميل إلى الجنوح نحو اليمين، فلماذا لا يتمسكون بأحزاب اليمين المتطرف في الائتلاف الحاكم؟ لغاية الآن لا تظهر استطلاعات الرأي أي ارتفاع في نسبة تأييد حزبي “القوة اليهودية” و”الصهيونية الدينية” اليمينيين المتطرفيين، ومن عجيب المفارقات أن البرنامج المتطرف الذي تتبناه حكومة نتنياهو وهجومها على المؤسسات الديمقراطية وسوء الإدارة الكارثي الذي أدى إلى الحرب، قد يمنع الناخبين في الواقع من التوجه تلقائياً نحو يمين أكثر ثيوقراطية ومعاداة للديمقراطية وشديد التطرف.
إذاً فإن إحدى النتائج المعقولة للأزمة الحالية قد تأتي على شكل تحول إسرائيل نحو حكومة جديدة بقيادة غانتس، ومن المرجح أن يتجنب غانتس اعتماد شعبوية نتنياهو المثيرة للانقسام وفضائح الفساد التي يواجهها هذا الأخير، ويكاد يكون من المؤكد أنه سيتجنب السعي المتسربل بتوق ديني إلى أداء مهمة خلاصية تتمثل في السعي الحثيث إلى توسيع المستوطنات أو إضفاء الطابع الرسمي على الضم، على غرار ما فعلته حكومات سابقة، وعلى رغم ذلك وبفضل سجل غانتس العسكري الطويل وانضمام أعضاء سابقين من حزب الليكود إلى حزبه، فقد بات يتمتع بشرعية بين أوساط اليمين وسيرغب في الحفاظ عليها، وعلاوة على ذلك لا يوجد في خطاب غانتس ما يشير إلى أنه سينجرف بصورة كبيرة بعيداً من النهج الحالي الذي يتبعه اليمين إزاء المشكلة الفلسطينية.
وبالاسترجاع فلم يدعم غانتس علناً حل الدولتين أو أي حل سياسي للقضية الفلسطينية، لا أثناء ترشيحه ولا منذ انضمامه إلى حكومة الحرب، وفي العام الماضي ذكر فكرة “دولتين لشعبين” لكنه أعرب عن قناعة مفادها “أنا لا أؤيدها”.
في الحقيقة تجسد أحد أسوأ أخطاء نتنياهو بالنظر إلى المشكلة الفلسطينية من الناحية الأمنية البحتة، وكأنما من المستطاع تجاهل السياسات الكامنة وراء الصراع، وقد أدى ذلك بطبيعة الحال إلى ظهور “النقطة العمياء” [نقطة في حقل البصر تبدو كأنها ضمنها لكنها ليست ضمن الرؤية الفعلية] التي ساعدت في جعل هجمات “حماس” مميتة للغاية، ولكن بصفته ضابطاً في الجيش الإسرائيلي فيبدو من المرجح أن ينظر غانتس إلى المشكلة الفلسطينية بالطريقة نفسها تقريباً فيعتبرها تهديداً أمنياً يجب احتواءه بدلاً من الاعتراف بحق الفلسطينيين في تقرير المصير، وإذا سار الأمر على ذلك النحو فمن المرجح أن يؤدي يوم السابع من أكتوبر الماضي، على رغم فظائعه كلها، إلى استمرار الظروف نفسها من دون تغير ملموس، بما في ذلك معاناة كلا الجانبين في المستقبل.
* داليا شيندلن خبيرة في مجال استطلاعات الرأي وزميلة سياسية في مركز “سانتشوري إنترناشيونال” Century International وكاتبة عمود في صحيفة “هآرتس”، وألفت كتاباً بعنوان “عود الديمقراطية الأعوج في إسرائيل” The Crooked Timber of Democracy in Israel.
المصدر: اندبندنت عربية
قراءة من وجهة نظر صهيونية لمنعكسات حرب غزة ونتائجها ، والتي تنطلق من الحق التاريخي لليهود بفلسطين وكأن الفلسطينيين لاجئين لديهم ، وليس العكس ، ويتوصل الى إن نتائج الحرب لن تكون واضحة المعالم وستؤدي الى توجه أكثر تطرفاً ، هل يوجد تطرف أكثر من هذه الحكومة التي تدعو الى إبادة وترحيل السكان الأصليين الفلسطينيين لصالح اللاجئين من أصقاع العالم ، إن لم تقتنع النخب الحاكمة بالدولة الديمقراطية والعيش المشترك أو حل الدولتين لن يكون سلام .