طَوال السنوات العشر الأخيرة، كنتُ على الدوام مطالبًا، سواء في أعرق جامعات العالم، أو في استجوابات الصّحافيين أو في المجالس الخاصّة، بالردّ على سؤال متكرّر: لماذا أخفقت ثورات الربيع العربي التي كانت أولى الثورات الديمقراطية السلميّة في تاريخنا؟
كنت أردّد- وما أزال- أنَّ مشروع التحرّر من الاستبداد لم يفشل، وإنّما تعثّر، وإنّه لن يتوقّف بهذه الهزيمة أو تلك، كما لم يتوقّف مشروع التحرّر من الاستعمار، رغم كلّ ما قاسى من قمع وعرف من هزائمَ.
يبقى أنّه كان عليَّ أن أستعرض قائمة طويلة من الأسباب التي تفسّر ولا تبرّر التعثّر. من هذه القائمة:
سهولة الاستيلاء على آليات الديمقراطيّة؛ لضرب الديمقراطية من قبل قيادات الثورة المضادة.
ضعف وحتى سذاجة القوى الديمقراطية التي بحثت عن توافقات مستحيلة مع النظام القديم، والنتيجة ما نعرف.
الأزمة الاقتصادية التي فاقمتها الثورة واستغلّتها الثورة المضادة.
الفيتو الإقليمي، الرافض لانتصاب أيّ ديمقراطية خاصّة في بلد محوري مثل مصر، ومن ثَمة الأموال الهائلة التي أنفقت لتخريب التجربة.
انعدام أي دعم حقيقيّ من الدول الديمقراطية الغربية التي تفضّل التعامل مع أنظمة استبداديّة منبطحة على التعامل مع دول ديمقراطية تخضع للرأي العام لشعوبها، ومن ثَم غير قابلة للسيطرة والتفويض.
إذا تواصل تعثّر المشروع الديمقراطيّ العربي، فقد أضيف في السنوات التالية سببٌ آخر: التأثير الكارثي للدعم الغربي غير المشروط لإسرائيل في حربها ضدّ الشعب الفلسطيني عمومًا، وغزّة الشهيدة تحديدًا.
عن أي ديمقراطية نتحدث؟
كلنا نعرف فوائد الرياضة الجسدية للحفاظ على صحّة الجسم، لكن قلّ مَن يعرف أهمية الرياضة الذهنية للمحافظة على سلامة العقل والروح.
من هذه الرياضة الجلوس دوريًا للتفكير بمنطق الخَصم والعدوّ والمنافس لا لدحض أفكاره مسبقًا، وإنما للبحث عمّا قد يكون فيها من صواب أو من شرعيّة. ذلك لأنّ من يتصور أن أفكاره ولو كانت فعلًا صحيحة وأخلاقية قادرة على تغيير الواقع، هو ضحية وهْم خطير، والعالم ما يصنعه صراع الرؤى أيًا كانت معتقدات أصحابها.
رياضتي الذهنية هذه الأيام تصوُّر ردود فعل الشّباب العربي الذي نحلم ونخطط له المستقبل الأفضل.
لمعرفة ما يدور في الأذهان على المرء قراءة ما يُكتب في صفحات التّواصل الاجتماعي؛ ليقدر عمق الكارثة بالنّسبة لنا نحن الديمقراطيين العرب.
لتلخيص الأسئلة التالية والاستذكار الشديد المصاحب لها: أي ديمقراطية تموّهون بها علينا وربما حتّى على أنفسكم؟
ديمقراطية إسرائيل؟ هذه الديمقراطية التي تغطّي بغطاء قيميّ كاذب على الاحتلال والآبارتايد.
ديمقراطية الأنظمة الغربية؟ التي تدعم مثل هذه الدولة وأصبحت تجرّم الرأي الحرّ وحقّ التظاهر لكل من يحتجّ على جرائمها … هذه الأنظمة التي أفاقت على” بربريّتنا” يوم 7 أكتوبر وترفض التساؤل عن أسبابها!
الديمقراطية ككل؟ هذا النظام الذي يتحكّم فيه الإعلام الفاسد والمال الفاسد والشركات الكبرى، والذي جلب لنا مزيدًا من الفوضى بعد ما تسمّونه الربيع العربي، وكان كارثة على أهلنا في سوريا واليمن والعراق والسودان!
الديمقراطيون العرب؟ في أحسن الأحوال كمشة من السذج والمغفّلين، وفي أسوأ الأحوال عملاء مهمتهم نشر بضاعة فاسدة لتجار مُحتالين ولا هدفَ لها إلا ضرب مقوّمات ثقافتنا العربية الإسلامية.
والخلاصة في أذهان ملايين الشبان -وأدعو الله أن أكون مخطئًا- لا ديمقراطية ولا هُم يحزنون … السيف أصدق إنباءً من الكُتب/ في حدّه الحدّ بين الجدِّ واللعب…لا حلّ غير الجهاد، فهؤلاء المنافقون الغربيون لا يمارسون ولا يفهمون إلا لغةَ القوة، إلخ.
رسالة إلى شبابنا الغاضب
غضبكم غضبنا أمام الفظاعات التي يتعرّض لها أهلنا في غزة. وسنبقى مجنّدين معكم لنهاية العدوان، وتمتيع الشعب الفلسطينيّ بكل حقوقه المشروعة كلّف ذلك ما كلّف.
لكن هذا ليس سببًا لرمي الرضيع مع ماء الحمّام القذر والانخراط في ردود فعل لن تزيد الطين إلا بِلّة.
رجاء افتحوا قلوبكم وعقولكم لما يلي:
نحن- الديمقراطيين العرب- مجنّدون منذ أكثر من نصف قرن لنشر القيم والأفكار الديمقراطية. لماذا؟
لعميق اقتناعنا بصواب موقف المعلم الأوّل عبد الرحمان الكواكبي الذي ربط مرض هذه الأمّة بداء عضال واحد اسمه الاستبداد. وهو الموقف الذي لم تتوقف أحداث تاريخنا وتاريخ الآخرين على تأكيد صحّته.
فنحن مقتنعون أنّه لا أكثر خطرًا على شعب مكوّن من ملايين البشر أن يترك مصيره بيد فرد قد يكون سويًّا وقد لا يكون، قد يكون خيّرًا وقد يكون شرّيرًا، قد يكون حكيمًا، لكن يمكن أن يكون غبيًا يورّط بلدًا كاملًا في مصيبة ما.
نحن مقتنعون أنّ دولة بدون مؤسّسات وقوانين ومراقبة مواطنية، هي دولة متروكة للفساد وسوء الإدارة. ومن ثَمّ لا يمكن أن تكون أداة تقدّم الشعب بل هي أداة تخلّفه.
نحن مقتنعون أنّ شعوبًا من الرعايا، تُساس بالإعلام الكاذب والمخابرات المتوحّشة والجبروت والظلم، هي شعوبٌ تُفرّغ من طاقاتها الحيّة، ولا تستطيع أن تنافس شعوب المواطنين التي تخلقها الديمقراطية والقادرة على التفوّق في كل مجالات الخلق والإبداع.
نحن مقتنعون أن تشتّت هذه الأمّة إلى 22 دولة متناحرة وضعيفة وتابعة لا ينهيه الاستبداد، وإنّما الديمقراطية. من الأدلة على ذلك استحالة اتّحاد العراق وسوريا تحت حكم حزب البعث في السبعينيات، وتفجّر الاتحادات الاستبدادية: يوغوسلافيا والاتحاد السوفياتي نموذجًا في التسعينيات. على العكس رأينا الاتحاد الأوروبي بأنظمته الديمقراطية هو الوحيد القادر على رفع شعار باقٍ ويتمدّد.
لكلّ هذه الأسباب تجنّدنا فكريًا وسياسيًا لدفع المشروع الديمقراطي قُدمًا، وهو الوسيلة المثلى لخلق دول فعّالة وشعوب خلّاقة واتحاد بين دول مستقلة وشعوب حُرّة يعيدنا لساحة التّاريخ من أوسع الأبواب.
بربّكم هل كنا نشاهد اليوم عاجزين مكتوفي الأيدي ما يحصل لو بقيت مصر دولة ديمقراطية بعد ثورة 25 يناير المباركة؟ هل كانت القوى الغربية تستهين بنا إلى هذا الحدّ لو كان لنا سياسة موحّدة في مواجهة الصلف الإسرائيلي؟
المهمّ التخلّي عن سردية مضلّلة والالتزام بالسردية الموضوعية والتي تفتح أبواب الأمل والعمل المثمر.
أمّا السردية المضللة، فهي التي تجعل من الديمقراطية خاصية ثقافية غربية تكاد تكون من طبيعته البيولوجية يسوّقها الغرب للتغطية على مصالحه الاستعمارية، ويذيعها بيننا مَن خرجوا من جلدهم وهويتهم.
كل هذا هراء في هراء. فالديمقراطية ليست خاصية ثقافية غربية، وأغلب أفكارها- كما أثبت ذلك الباحثان البريطانيان Wengrow وGraeber -مستوحاة من شعوب أمريكا الشمالية. كذلك لم تعرف البشرية دكتاتوريات أبشع من الدكتاتوريات الغربية: الفاشية والنازية والشيوعية نموذجًا. أما القول إن الغرب يريد تصدير الديمقراطية لنا، فمن الأحسن الضحك بدل البكاء من هذه الكذبة.
أي سردية إذن؟ إنَّ البشرية في تاريخها الطويل ضد شياطينها الداخلية حاربت- ولا تزال- الآفات الثلاث: الاستعباد والاستعمار والاستبداد. لقد سبقتنا الشعوب الغربية في التخلّص من الاستعباد، وخرجت من الاستعمار الذي سُلِّط عليها والذي سلّطته على الغير. وأخيرًا سبقتنا في مرحلة التخلص من الاستبداد؛ وهذا سرّ قوتها. ما نحن مطالبون به ليس إلا مواصلة المسيرة التي يفرضها التطور الطبيعي للمجتمعات البشرية. أي بعد أن تخلّصنا من العبودية ومن الاستعمار، علينا القضاء على الاستبداد، لنصبح نحن أيضًا شعوبًا من المواطنين لا من الرعايا. وآنذاك سيُفتح أمامنا باب المستقبل المغلق حاليًا، ونحن ندور في حلقة مفرغة منذ الاستقلال الأول. وكما قال إيليا أبو ماضي:
“نرجو الخلاص بغاشم من غاشم…لا ينقذ النخاس من نخاس.
رسالة إلى أصحاب القرار الغربيين
الموقف المؤيّد لإسرائيل بكل هذه الشمولية والمبالغة واكتشافكم المفاجئ فظاعة العنف فقط يوم 7 أكتوبر له تبعات بالغة الخطورة.
– أنتم تشجعون دولة احتلال وآبارتايد يقودها نظام عنصريّ يمينيّ متطرف نحو مزيدٍ من العنف الذي سيقود نحو حرب أزلية لن تنتهي إلا بكارثة على الجميع.
– أنتم بهذه السياسة- التي تكيل بمكيالين بخصوص الحقّ في الحرية والحياة والاستقلال والأمان- تزرعون وتشجّعون على الكراهية بين الشعوب العربية الإسلامية وبين الشعوب الغربيّة. بل تصنعون شرخًا حتى داخل مجتمعاتكم التي أصبح فيها مكوِّن عربي مسلم، شئتم أم أبيتم.
– أنتم لا تُضعفون فقط مشروع دمقرطة العالم العربي -ونحن نعرف أن هذا آخر مشاغلكم – وإنما تُضعفون ديمقراطيتكم نفسها. ستؤدِّي سياستكم غير المسؤولة لتقوية اليمين المتطرف عندكم، وهو ألدّ أعداء الديمقراطية، استراتيجيته الأولى استغلال العداء ضد العرب والمسلمين للوصول للسلطة. آنذاك سيظهر وجههم الحقيقي تمامًا، كما فعل هتلر في ثلاثينيات القرن الماضي.
هو أيضًا استغلَّ معاداة السامية كورقة سياسية رابحة للوصول للسلطة ديمقراطيًا، ثم القضاء عليها حال تمكّنه من مقاليد الأمور. إن يمينكم المتطرف يلعب اليوم اللعبة نفسها، الفارق الوحيد أن الساميّين الذين يُنمّي ويُركّب موجة الحقد ضدهم للتمكّن لم يعودوا بني إسرائيل وإنما هم بنو إسماعيل.
رسالة إلى الإسرائيليين
جاءتكم فرصة ذهبية لتسوية النزاع لصالحكم في أواخر التسعينيات عبر مشروع الدولتين. لكن العُنْجُهِيَّة والصلف والغرور منعتكم من اصطياد فرصة لن تتكرر. هكذا أصبحتم دولة احتلال وآبارتايد تحت غلاف هشّ من الديمقراطية العرجاء.
هكذا انخرطتم في سياسة: “ما لم يحقّقه العنف يحقّقه عنف أكبر”. ها أنتم تكرّرون- من حرب عبثية لحرب عبثية أخرى- الخطأ نفسه القاتل لا تفهمون أنكم أنتم من يدفع الفلسطينيين لرفع مستوى مخابراتهم ومقاوميهم وتقنياتهم، وأن كل تحدٍّ سيواجه بتحدٍّ مقابل. أي أنكم تصطّفون وتصنعون بعناد غبي القوى التي ستهزمكم طالَ الزمان أم قصر.
ها قد اتّضح أنكم لن تواصلوا ممارسة أقسى أصناف العنف دون أن تدفعوا ثمنه عاجلًا أو آجلًا. ما أغرب أن تزرعوا الريح وتندهشوا لهبوب العاصفة.
ها قد اتّضح أنكم أمام شعب لم يستسلم منذ قرن لسرديتكم الخيالية حول “أرض بدون شعب، لشعب بدون أرض”، وأنه قادر على الصمود قرنًا آخرَ.
ها قد اتّضح أن وراء هذا الشعب ماردًا نائمًا اسمه الأمّة العربية، قد تكونون السبب في استفاقته وعودته إلى ثورات لا أحد يعرف تكلفتها للجميع.
ها قد اتّضح عبث ما تبحثون عنه من تطبيع مع ملوك طوائف يمضون لكم صكوكًا بدون رصيد.
المحصلة أنه لم يعد أمامكم إلا خياران، أحلاهما مرّ:
الأول هو مواصلة النهج الذي تتخذونه والنتيجة معروفة سلفًا؛ أي خراب كامل المنطقة، وسقوط السماء على رؤوس كل شعوبها، والكلّ يصرخ بصرخة شمشون ” عليّ وعلى أعدائي يا رب “.
الثاني قَبول الدولة الديمقراطية الواحدة التي تكفل المساواة نفسها والحرية والكرامة لكل مواطنيها، كالتي يتعايش فيها البشر في بلدان مثل: بلجيكا وكندا… ما يعني أنَّ الذي سيقودكم لبَرّ النجاة ليست الصهيونية، وإنما الديمقراطية.
حقًا الديمقراطية ليست الشرط الكافي لتحقيق السلام لكل الشعوب، لكنها دون أدنى شكّ الشرط الضروري له وفي غيابها فإنَّ الخيار- كان وسيبقى بالنسبة لكل شعوب المنطقة والعالم- بين الحرب الأزلية والحرب التي لا تتوقف.
لقد كان للمجلس العربي الشهر الماضي في مدينة سراييفو شرفُ إطلاق الشبكة العربية للديمقراطية؛ لتكون على الأمدَين: المتوسط والطويل الفضاءَ الذي نتبادل فيه -نحن العرب- خبراتنا لينهضَ المشروع الديمقراطي من كبوته الحالية ويواصل مساره التاريخي.
وحيث إن الديمقراطية واحدة ومهددة بطرق مختلفة في الكثير من البلدان ومنها الغربية، فلا بدَّ من بناء شبكة عالمية للديمقراطيين تتشكّل من المجتمعات المدنية والشخصيات الاعتبارية لتعيدَ للمشروع الديمقراطي جاذبيّته للشباب في العالم أجمع، بعد أن ضربه في مقتل تحيّز أعمى لدولة احتلال وآبارتايد، واليوم إبادة جماعيّة لأهلنا في غزة.
ولا بدّ لليل أن ينجلي
المصدر: الجزيرة نت