عند قراءة ما بين السطور في خطابات وجلسات صنّاع القرار لدى مشاركتهم في الجمعية العامة للأمم المتحدة أو على هامشها، يُلاحظ أنّ هناك إقراراً بتراجع المنظمة الدولية ومؤسساتها، فيما هناك اندفاع لدى بعض المنظمات الإقليمية نحو توسيع آفاقها لتصبح أكثر عولمة. حلف شمال الأطلسي “ناتو” مثال على ذلك، باعترافٍ ضمني من الأمين العام ينس ستولتنبرغ. مجلس التعاون الخليجي مثال آخر، ليس من منطلق منافسة الأمم المتحدة وإنما نظراً لازدياد أهمية دول المجلس على الساحة الدولية ولدى الدول الكبرى، بما فيها الصين والولايات المتحدة.
الدورة 78 للجمعية العامة بدت مشوشة وغريبة بعض الشيء. الرئيس الأميركي جو بايدن لم يملأ الفراغ الذي تركه غياب قادة الصين وروسيا وفرنسا، وهي من الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن. نجومية رئيس أوكرانيا فولوديمير زيلينسكي كانت مبتورة لأسباب عدة، بالرغم من أنّها المرّة الأولى التي يخاطب فيها الأمم المتحدة، وسط انحسار جزئي للاندفاع الأميركي الشعبي لحرب أوكرانيا، كما بسبب معادلات عسكرية على أرض الحرب الأوكرانية. القادة العرب الذين شاركوا في الجمعية العامة التحقوا بالمستقبل لجهة الاهتمام بالتغيّر المناخي والتكنولوجيا، لكن القضايا التي تهمّهم مباشرة شقّت طريقها إلى الاجتماعات والمؤتمرات داخل وخارج مبنى الأمم المتحدة مع فارق مهمّ وهو، أنّ الدول العربية، لاسيّما الدول الخليجية، لم تأتِ الى الأمم المتحدة لتشكو وتتذمّر كما جرت العادة، وإنما لتطرح مبادراتها ومواقفها بصورة متجدّدة.
العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني حمل همومه إلى نيويورك، ليطالب الأمم المتحدة وأعضاءها ومؤسساتها بأن تتحمّل مسؤولية تجاهلها لخطورة تفاقم تدفق اللاجئين والنازحين السوريين إلى الأردن وإلى لبنان نتيجة ما يحدث في سوريا. تحدّث أمام “قمة الشرق الأوسط العالمية” التي عُقدت على هامش الجمعية العامة خارج الأمم المتحدة، وكان بين الحضور رئيس مجلس وزراء لبنان نجيب ميقاتي، الذي بدوره نقل هموم النازحين السوريين في لبنان إلى الساحة الدولية، مناشداً تحمّل المسؤولية.
كان لافتاً أنّ الملك عبدالله طرح موضوع اللاجئين والنازحين السوريين من منطلق ثنائية الأردن ولبنان. هذا طرح جيد ومفيد للبلدين، لاسيّما إزاء تعمّد المجتمع الدولي الهروب إلى الأمام لتجنّب ما تقتضيه معالجة هذه المسألة بتداعياتها الخطيرة على لبنان والأردن- خوفاً من انعكاسات مكلفة للدول الأوروبية المصابة بالرعب من هجرة سورية إليها.
العاهل الأردني تحدّث بصراحة عن تخوفه من موجة جديدة من النازحين السوريين نتيجة “ربيع عربي” جديد في سوريا، مشيراً إلى التطورات في السويداء وكذلك إلى درعا. قال إنّ الأردن ولبنان لن يبقيا حصراً محطتين للموجة الجديدة، في تحذير إلى الأوروبيين بأنّ المشكلة ستكون مشكلتهم، إذا لم يستفيقوا إلى خطورة الأمر، لأنّ الأردن ولبنان سيكونان ممراً لعبور اللاجئين إلى أوروبا، مشدّداً على أنّ مساعدة المجتمع الدولي للأردن ولبنان تأتي في اطار مساعدة نفسه.
صراحة الملك عبدالله في التحدّث عن الرئيس السوري بشار الأسد كانت لافتة، لاسيّما وأنّ الأردن كان لعب دوراً حيوياً في المساعي العربية لإعادة تأهيل سوريا في ما يُعرف بمبادرة خطوة خطوة. قال إنّ الأسد لم يقدّم شيئاً ولم يلبّ مطالب مبادرة الخطوة بخطوة، بخاصة في ما يتعلق بتهريب المخدرات والسلاح عبر الحدود السورية- الأردنية. قال أيضاً إنّ الأسد لا يسيطر على ما يحدث على الحدود، ويبدو غير قادر على السيطرة على الوضع لكبح تهريب الكبتاغون والأسلحة الذي لإيران و “حزب الله” دور فيه.
مصادر مطّلِعة على المواقف الأوروبية نحو سوريا نقلت عن الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل قوله في جلسات خاصة، إنّ الأسد غير قادر على الإمساك بزمام الأمور في سوريا، وأنّ النظام السوري أثبت أنّه أقوى من بشار الأسد، وأنّه ليس بوسع الأوروبيين أن يثقوا بالأسد.
ووفق ديبلوماسي اشترط عدم ذكر اسمه، انّ التقويم الأوروبي والعربي في هذا المنعطف، هو أنّ مبادرة الخطوة بخطوة العربية تلفظ أنفاسها الأخيرة، وأنّ المبادرة العربية تجاه سوريا في طريقها إلى الفشل قبل نهاية السنة، نتيجة عدم قدرة الأسد على تنفيذ وعوده. أضاف الديبلوماسي، أنّ سوريا في وضع أسوأ من قبل، لأنّ النظام فيها هش ومنقسم انقساماً عمودياً، ولأنّ الرئيس غير قادر أن يحكم جدّياً. فإذا أصابت الانقسامات والهشاشة وحدة الجيش، هناك عندئذ تخوّف من انهيار النظام السوري برمّته.
روسيا وإيران ما زالتا تدعمان بشار الأسد والنظام السوري، إنما لكل منهما أولوياته. المحادثات الروسية- الإيرانية أثناء الزيارة الأخيرة الأسبوع الماضي لوزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو إلى طهران، تطرّقت إلى الوضع في سوريا، كما في ناغورني كراباخ، وإلى التعاون العسكري بين البلدين. كلاهما يسعيان وراء أوضاع مسيطر عليها في الإقليم وفي سوريا، والأهم أنّ وزير الدفاع الروسي أراد بزيارته أن يبعث رسالة مهمّة الى الغرب وبالذات إلى الولايات المتحدة.
فحوى الرسالة هي أنّ روسيا تعزّز علاقاتها مع كوريا الشمالية ومع الجمهورية الإسلامية الإيرانية- وكلاهما ضدّ الولايات المتحدة. حقّق شويغو ما يريده بتقارب روسيا مع كوريا الشمالية، وتتويج ذلك بلقاءات الزعيم الكوري الشمالي مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في موسكو. وهو أراد أن يبلّغ طهران أنّ موسكو هي حليفها، وأنّ أميركا لا يمكن الثقة بها. فروسيا تريد قطع الطريق على المحاولات الأميركية لاستقطاب إيران بعيداً من روسيا، عبر صفقات تدريجية شملت أخيراً صفقة تبادل السجناء والإفراج عن 6 مليارات دولار، والتي شكر الرئيس بايدن كلاً من قطر وعمان على أدوارهما في تيسيرها.
إيران ليست بالضرورة متفائلة تماماً بأنّ الجهود التي تبذلها الدول الخليجية ستؤدّي الى مصالحة أميركية- إيرانية، لكنها ما زالت تراهن على هذه الجهود لأنّها مفتاح رفع العقوبات عنها. إدارة بايدن قرّرت الاستثمار في التقارب السعودي- الإيراني، وهي تريد وساطة سعودية بينها وبين إيران، إضافة إلى أدوار قطر وعمان والإمارات في مختلف المجالات، من الملف النووي إلى ملف تبادل السجناء. الرئاسة الإيرانية ووزارة الخارجية تريدان الاستفادة من رغبة إدارة بايدن في الاستثمار في التقارب السعودي- الإيراني، إنما ليس واضحاً ما هو موقف مرشد الجمهورية آية الله علي خامنئي، ولا مدى معارضة “الحرس الثوري” لما يُسمّى بتوجّه الاعتدال.
السعودية من جهتها ترسّخ التعاون مع إدارة بايدن، وهي مستعدة للعب دور الوسيط للتقريب بينها وبين إيران. حتى الآن، ووفق مصادر أميركية معنية بالملف اليمني، لم تقدّم إيران أي دليل بعد على عزمها أو استعدادها للمساعدة في ملف اليمن. الرياض لا تجعل من ذلك عرقلة أمام استمرار جهودها كوسيط بين واشنطن وطهران، لكنها لا تضع كل البيض في السلّة الإيرانية، إدراكاً منها أنّ الانقسامات الداخلية ما زالت تحول دون نقلة نوعية في عقيدة وسلوك إيران الاقليمي.
ما تركّز عليه السعودية في العلاقة مع الولايات المتحدة يدخل ليس فقط في اطار العلاقات الثنائية الفائقة الأهمية، وإنما في الأبعاد الجيو- سياسية والجيو- اقتصادية. مشروع “الممر الاقتصادي” الذي يربط الهند بالخليج وبالأردن وإسرائيل بأوروبا، والذي تتبنّاه وتسوّقه السعودية والإمارات، مشروع له بُعد سياسي على علاقة بالسعي الأميركي للتطبيع بين السعودية وإسرائيل. الإمارات، كما هو معروف، طبّعت مع إسرائيل عبر الاتفاقات الإبراهيمية وهي، كما قال المستشار الديبلوماسي لرئيس دولة الإمارات أنور قرقاش، كانت السبّاقة الى اختراق نوعي في مقاربة العلاقات العربية مع إسرائيل.
ما قاله قرقاش أثناء مشاركته في “قمّة الشرق الأوسط العالمية” وجاء كمفاجأة، هو أنّ الإمارات تسعى للتوصّل الى اتفاق دفاعي “صارم” مع الولايات المتحدة، في اتفاقية واضحة تستجيب لخططها في تأمين أمنها القومي على المدى البعيد، وبـ “التزام رسمي” أميركي. جاء هذا الكلام وسط مباحثات أميركية- سعودية لإعداد “معاهدة دفاع مشترك” بعدما كانت واشنطن وقّعت قبل أسبوع اتفاقية ثنائية للدفاع والتكنولوجيا مع البحرين، لا تتضمن ضماناً للدفاع المشترك لكنها تستلزم التشاور الفوري لتحديد الردّ المناسب في حال تعرّضت البحرين لـ “عدوان خارجي”. ما أراد قرقاش إبرازه هو أنّ الاتفاقات الشفوية الفضفاضة لا تناسب الإمارات، وأنّ ما تريده من إدارة بايدن هو الجديّة في تنفيذ تعهداتها باتفاقية دفاعية ذات بعد استراتيجي يمكن الرهان عليها.
هذه لغة جديدة تتزامن مع لغة سعودية تتخذ أيضاً من الصرامة أساساً لها. فقد حدث تغيير نوعي في العلاقات الخليجية مع إدارة بايدن، بعدما استدركت الإدارة الأميركية أخطاءها في التعامل مع الدول الخليجية العربية، على نسق إدارة أوباما التي كادت تمزّق نسيج العلاقة التاريخية.
المقاربة الخليجية عامة والسعودية خاصة للعلاقة مع الولايات المتحدة والصين وروسيا والعواصم الأوروبية والدول الآسيوية والإفريقية، مقاربة تنطلق من الثقة بالنفس والقدرة على صياغة توجّهات غير اعتيادية وفرض تنازلات لم تكن واردة في الماضي. هذه لغة جديدة في المشهد الدولي. فليست دول حلف ناتو وحدها التي تستعيد أنفاسها. ذلك أنّ دول مجلس التعاون الخليجي قد فرضت نفسها بحلّة جديدة على الساحة الدولية، وهذه المرّة من منبر الأمم المتحدة ومن مدينة نيويورك، التي لم يسبق أن رحّبت بالدول العربية كما تفعل.
المصدر: النهار العربي