تستعدّ مصر لانتخاباتٍ رئاسيةٍ جديدة، يتوقّع الإعلان عن بدء الإجراءات الخاصة بتنظيمها بعد أسابيع، وهي انتخاباتٌ كان يفترض أن تجرى في النصف الأول من عام 2024، لكن مصادر عديدة أكّدت أنها ربما تجرى خلال شهر ديسمبر/ كانون الأول المقبل. وعلى الرغم من أن الرئيس عبد الفتاح السيسي لم يعلن رسميا عن نيّته للترشّح، ومطالبة بعضهم له بأن يكتفي بالسنوات العشر التي قضاها في المنصب، فإن كل الشواهد تفيد بأنه قرّر الترشّح بالفعل. ولذا يعتقد كثيرون أن الانتخابات الرئاسية المقبلة لن تختلف كثيرا عن التي جرت في 2014 والأخرى في 2018. غير أن شواهد أخرى تدفعني إلى الاعتقاد باستحالة أن تكون نسخة مكرّرة من سابقتيْها.
جرت انتخابات 2014 في أجواء خاصة ومختلفة تماما عن أجواء انتخابات 2018، وأيضا عن الأجواء الحالية، فالسيسي الذي لم يكن يعرفه أحد قبل تعيين الرئيس محمد مرسي له وزيرا للدفاع، في أواخر 2012، تمتّع بشعبية واسعة، جعلته يبدو في أعين الناس آنذاك ليس بطلا مُنقذا خلّص البلاد من حكم جماعة الإخوان المسلمين فحسب، وإنما رجلا زاهدا استدعته الجماهير للسلطة، من دون أن يسعى هو إليها. ويكفي أن نتذكّر أن محمد حسنين هيكل ذهب في تأييده ترشّح السيسي إلى حد وصفه بأنه “مرشّح الضرورة”، وأن لا ننسى أيضا أن حمدين صبّاحي، أحد المرشّحين الذين حصلوا على ملايين الأصوات في انتخابات 2012، ترشّح أمامه في انتخابات 2014. صحيحٌ أن كثيرين ما زالوا يعتقدون أن حمدين أخطأ حين قبل الترشّح في انتخاباتٍ كان يعلم أن نتائجها محسومة سلفا، غير أن إقدام شخصية سياسية معروفة على خطوة من هذا القبيل حمل دلالاتٍ ذات مغزى آنذاك، خصوصا إذا ما قارنّاه بما جرى في انتخابات 2018، والتي لم يترشح فيها سوى شخص لا يعرفه أحد، اسمه موسى مصطفي موسى!! لذا يمكن القول من دون تردّد إن شعبية السيسي تآكلت كثيرا خلال فترة ولايته الأولى، وهذا ما أكّدته وسائل استطلاع الرأي العام. صحيحٌ أن بعضهم كان لا يزال يعتقد أن دواعي المحافظة على الاستقرار والأمن تبرّر ترشّح السيسي وانتخابه لولاية ثانية، غير أن هذا النمط من التفكير فقد مصداقيته تماما بعد ذلك، خصوصا عقب التعديلات التي تم إدخالها على دستور 2014 لتمكين السيسي من البقاء في الحكم حتى عام 2030.
لا أدّعي أن المواطن المصري الذي سيُطلب منه، خلال أسابيع أو أشهر قليلة، التوجّه إلى صناديق الاقتراع، ما زال مهموما بالديمقراطية، أو أن قضية الحرّيات العامة ما زالت تتصدّر قائمة أولوياته، فالواقع أنه بات مهموما، أولا وقبل كل شيء، بأوضاعه المعيشية، وبالارتفاع الجنوني في الأسعار، وبعدم قدرته على تلبية احتياجاته واحتياجات أسرته من السلع والخدمات الأساسية. لكنني أدّعي مع ذلك أن هذا المواطن بدأ يدرك تماما، ربما أكثر من أي وقت مضى، أن تدهور أوضاعه المعيشية لا يعود إلى ثورة يناير أو إلى وباء كوفيد 19 أو إلى الزيادة السكانية، كما تروّج وسائل الإعلام الرسمية، وإنما إلى خلل جسيم في الأولويات وفي توزيع الموارد والأعباء، نجم عنه انحياز فاضح للأغنياء على حساب الفقراء والطبقة المتوسّطة وانتشار للفساد بطريقة غير مسبوقة. بعبارة أخرى، يمكن القول إن المواطن البسيط بدأ يدرك بوضوح وجود علاقة مباشرة بين معاناته اليومية وشكل النظام الحاكم وتوجّهاته السياسية، فهو يدرك أن السلطة المسؤولة عن التشريع وعن الرقابة على السلطة التنفيذية لا تستطيع القيام بأدوارها بطريقة فعالة، وأن السجون باتت تعجّ بعشرات آلاف من المعتقلين المحرومين من ممارسة حقوقهم من دون وجه حقّ، وأن الإعلام الذي لا تتوفر فيه الحدود الدنيا من الكفاءة المهنية أصبح بعيدا عن هموم الناس، وغير قادر على التعبير عن الرأي والرأي الآخر.
لكل هذه الأسباب، لم يعد يخالجني أي شك في أن الأغلبية الساحقة من الناخبين أصبحت تتوق للتغيير، وأنها ستسعى إلى تحقيقه إن أتيحت لها الفرصة لخوض انتخاباتٍ تتوفر فيها معايير النزاهة والشفافية. وهنا الإشكالية التي تعكس بوضوح وجود معضلة في انتخابات الرئاسة المقبلة. فقناعة هذه الأغلبية راسخة بأن النظام الحاكم لن يسمح مطلقا بتنظيم انتخاباتٍ تتوفر فيها هذه المعايير. وتلاحظ، من ناحية أخرى، أن النخب السياسية ما تزال منشغلة بالصراعات فيما بينها أكثر بكثير من انشغالها بالصراع مع النظام الحاكم، ما يعني عجزها عن إدارة معركة انتخابية ناجحة أو حتى فعّالة. والأرجح، إذا ظلّت الأمور تسير على هذا النحو، أن يؤدّي ذلك إلى تفشّي حالة من الإحباط واليأس، تقنع معظم الناخبين بعدم جدوى التوجّه إلى صناديق الاقتراع، خصوصا أن قطاعاتٍ لا يستهان بها من النخب السياسية تتبنّى الدعوة إلى المقاطعة، استسهالا وعجزا في الوقت نفسه، فإذا أضفنا إلى ما تقدّم أن معظم الذين عبّروا عن رغبتهم في الترشّح لا يتمتعون بما يكفي من الجدّية لإقناع الناجبين بوجود سباق انتخابي حقيقي، لتبيّن لنا بوضوح أن ما يجري على سطح الحياة السياسية في مصر يوحي بأن الانتخابات الرئاسية المقبلة لن تختلف كثيرا عن طبعتيها السابقتين، في 2014 و2018. غير أن هذه النظرة تبدو تبسيطية أكثر مما ينبغي، ففي وُسع كل متابعٍ لما يجري داخل الأعماق أن يدرك استحالة تحوّل الانتخابات الرئاسية المقبلة إلى نسخة مكرّرة من انتخابات 2014 و2018، لسببين أساسيين: عمق الأزمة التي تمر بها مصر، وهي شاملة وبنيوية، وليست جزئية أو عابرة، تسببت فيها سياسات نظام لم يعد لديه رصيد يكفي لإقناع أحد بأن الأمور ما تزال تحت السيطرة، وأن بمقدوره تجاوز هذه الأزمة في المستقبل المنظور. وتلك مقولة أصبحت من المسلّمات، ومن ثم لم تعد في حاجةٍ إلى التوقف عندها بمزيد من الشرح والتفصيل. والسبب الثاني: بروز ظاهرة جديدة على الساحة السياسية المصرية تثير من التفاعلات ما قد يؤدّي إلى تغيير ملموس في المعادلات السياسية الراهنة. وبالتالي، في موازين القوة بين النظام الحاكم والمعارضة، خصوصا إذا ما انتبهت إليها النخبة السياسية، وتمكّنت من استغلالها وتوظيفها في الاتجاه الصحيح، وأعني ظاهرة أحمد الطنطاوي، وتلك قضية تستحقّ التوقف عندها بقدر أكبر من التفصيل.
أحمد الطنطاوي صحافي وناشط سياسي يبلغ 44 عاما، وهذه سنّ تؤهله للقيام بدورٍ قابل لأن يمتد عقدين أو ثلاثة عقود، وهو أمر تبدو الحياة السياسية في مصر في أمسّ الحاجة إليه. وقد اكتسب هذا المرشّح الشاب خبرة سياسية عملية لا بأس بها، من خلال مشاركته في ثورة يناير، وإيمانه العميق بأهدافها وتطلعاتها، وعضويّته في مجلس النواب التي تواصلت خمس سنوات، ورئاسته حزب الكرامة ثم استقالته السريعة منه… إلخ. غير أن أهم ما يتميّز به الطنطاوي رؤيته الواضحة تماما لما ينبغي القيام به، واتساق مواقفه السياسية اتساقا تاما طوال فترة انشغاله بالعمل السياسي، حيث يصعب على أي شخص أن يعثر له على مواقف متناقضة أو انتهازية أو مصلحية، إضافة إلى أنه قادر تماما على ضبط انفعالاته وسلوكه والسيطرة على مفردات خطابه السياسي الذي يتّسم بالوضوح والنضج والشجاعة والثبات على المبدأ في الوقت نفسه. والأهم من ذلك كله إعلان نيته الترشّح في الانتخابات الرئاسية المقبلة مبكّرا، ثم إصراره على خوضها حتى النهاية مهما كانت الصعاب أو العقبات. لذا يمكن القول إن بمقدور مرشّح من هذا النوع إثارة اهتمام الشباب المصري من كل الأطياف، وهم يشكلون ما لا يقل عن 60% من الناخبين. وبالتالي، إعادة إحياء أملهم في القدرة على إحداث التغيير من خلال صناديق الاقتراع. لذا لا أستبعد أبدا أن يكون الطنطاوي قادرا على بناء تيار يشبه الذي استطاع باراك أوباما تشكيله وحشده وتعبئته حول شعار “نحن نستطيع” إبّان حملة الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2008.
أدرك جيدا أن هذا المرشّح الشاب والواثق من نفسه سيواجَه بنوعين من العقبات، من النظام الحاكم، ومن النخب السياسية المختلفة، خصوصا المحسوبة على المعارضة! إذ يُتوقّع أن يحاول النظام الحاكم وضع كل ما يمكن تصوّره من عقبات في طريقه، كي يتعذّر عليه جمع العدد الكافي من التوكيلات اللازمة للوفاء بمتطلبات الترشّح. وإذا أفلت من هذه العقبة، يُتوقّع أن يحاول محاصرته أمنيا وإعلاميا، من خلال إطلاق حملات التشويه ضده من كل الأبواق. ولأن النخب السياسية تنقسم إلى قسم يدور في فلك النظام ويرتبط معه بروابط مصلحية، ومن ثم يتوقع أن يشارك في حملة التشويه التي ستشتعل حتما ضد الطنطاوي، وقسم آخر يحسب نفسه على المعارضة، لكنه مصابٌ بكل أنواع الأمراض التي أصابت كل قوى المعارضة منذ انطلاق مسارها المتعرّج والمشوّه عقب الانتقال إلى التعدّدية السياسية اعتبارا من عام 1974، ومن ثم يُتوقّع أن يساهم، بشكل مباشر أو غير مباشر، في التشكيك في قدرات الطنطاوي، وربما في تشويه سمعته لأسباب شخصية أو أيديولوجية، غير أن إصرار الطنطاوي على خوض الانتخابات الرئاسية يضع كلا من النظام والمعارضة المستأنسة في مأزق، فمحاصرته من النظام ومنعه من خوض الانتخابات سيكون له ثمن، وتركه يخوضها سيكون له ثمن أكبر. لذا ستكون الانتخابات الرئاسية المقبلة مختلفة كليا عن انتخابات 2014 و2018، حتى لو جاءت بالسيسي رئيسا، لأنها ستؤسّس، على الأرجح، لمرحلة جديدة، ستصبح فيها مصر بعدها مختلفة عما كانت عليه قبلها.
المصدر: العربي الجديد