حملت زيارة أعضاء الكونغرس الأميركي الجمهوريين الثلاثة إلى الجمهورية التركية الشهر الماضي أكثر من بُعد، جميعها تصبّ في صالح مسار التقارب التركي الأميركي الذي ينعكس إيجاباً على القضية السورية. فقد أعادت الخبر السوري إلى الإعلام الأميركي من بوابة مختلفة، كما حفّزت الشعور بالمسؤولية الأخلاقية والإنسانية تجاه سكان الشمال المحرّر، ولكن في الخلفية كان مباحثات هامة تجري تخدم موقف السوريين تجاه نظام الأسد وتعزّز الطوق المفروض عليه بنفس درجة فتحها لآفاق جديدة أمام الحل في سورية.
وإذا كانت هذه الزيارة قد خطف الأضواء فيها إطلالة جريئة للسيناتور فرنش هيل من أركنسو ورفيقيه السيناتور بن كلاين من فرجينيا، و السيناتور سكوت فيتزجيرالد من ويسكونسن، داخل الأراضي السورية، ولقاؤهم بالأطفال السوريين وزياراتهم إلى “دار الحكمة” بالإضافة إلى مشاركتهم في حفل تكريم رئيس مجلس أمناء فريق الطوارئ السوري SETF جيري آدامز الذي أقامته منظمة “غلوبال جستس” في مدينة غازي عنتاب، فإن هناك ما توارى خلف هذا المشهد مثّلته اللقاءات الهامة التي أجراها السيناتورات مع المسؤولين الأتراك.
جديد العلاقات التركية الأميركية
أكثر من عامل يلعب دوره الآن في تحوّل العلاقات التركية الأميركية، هذه الأيام، انطلاقاً من مرحلة ما بعد الانتخابات النيابية والرئاسية الأخيرة التي حُسمت لصالح الرئيس رجب طيب أردوغان وحزبه وحلفائه، ليبدأ عهدٌ جديد كان من بين أبرز علاماته تراجع ما سمي بمسار التطبيع التركي مع نظام الأسد.
ولئن كان الأتراك قد أعلنوا مراراً عن نيتهم المضي قدماً في هذا التطبيع، وعلى الرغم من رعاية الروس للقاءات جرت بين الأتراك ومسؤولي الأسد، إلا أن المعرقل الأكبر لهذا كله كان بشار الأسد نفسه، الذي بدا وكأنه ينفّذ أجندة إيرانية – روسية حظرت عليه أي تقارب مع تركيا – الحليف اللدود للإيرانيين والروس.
ومع المزيد من التورّط الروسي في الحرب على أوكرانيا التي لا يبدو أن الرئيس فلاديمير بوتين قادر على حسمها لصالحه، ومع قدوم وزير خارجية تركي جديد يحتفظ بعلاقات ذات طابع خاص مع الغرب، كان من الطبيعي أن يُلحظ تطوّر في العلاقات ما بين أنقرة وواشنطن.
شهر واحد سبق زيارة السيناتورات إلى تركيا، شهد إعلان رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأميركي بوب مينينديز، عن إجرائه لمحادثات مع إدارة الرئيس جو بايدن بشأن التعليق الذي فرضه على المبيعات الأمريكية المستقبلية لطائرات (إف-16) المقاتلة إلى أنقرة.
مينينديز قال حينها إنه يمكنه اتخاذ قرار في غضون الأسبوع المقبل بشأن التعليق. وترافق ذلك مع تأكيدات مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان أن واشنطن ستمضي قدماً في نقل طائرات مقاتلة من طراز إف-16 إلى تركيا، بالتشاور مع الكونغرس.
ونتيجة للتفاوض مع تركيا حول انضمام السويد إلى حلف الناتو، أعلن الرئيس بايدن عن شكره لأردوغان على “شجاعته” في التخلي عن معارضته لانضمام السويد إلى الحلف، مؤكّداً دعمه لبيع أنقرة مقاتلات إف-16. وفي اجتماع على هامش قمة الحلف في فيلنيوس، رحّب بايدن بنجاح جهود دبلوماسية كبرى بذلت في إقناع أردوغان بالتخلي عن اعتراضة على انضمام السويد إلى التكتل. وقال بايدن متوجّها إلى أردوغان “أودّ أن أشكركم على دبلوماسيتكم وشجاعتكم. أود أن أشكركم على ريادتكم”.
موقف واشنطن السلبي من صفقة الطائرات يعود إلى غضبها من شراء أنقرة لمنظومة صواريخ إس-400 الروسية، القرار الذي اتخذه الأتراك بعد ما وصف بـ “تلكؤ” الغرب في تزويدها بصواريخ مضادة للطائرات.
استعملت إدارة الرئيس ترامب حينها قانوناً أميركيا يدعى قانون مكافحة خصوم أمريكا (CAATSA) لفرض الحظر على صفقة طائرات إف -16 لتركيا. وبعد وصول الرئيس بايدن إلى البيت الأبيض أعلن الأتراك أن الأميركيين عرضوا عليهم الموافقة على بيع طائرات إف-16 مقابل استثمارات تركيا في برنامج المقاتلة إف-35. وعادت تركيا لتتقدم بطلب في العام 2021 لشراء 40 مقاتلة من طراز إف-16 بقيمة 20 مليار دولار، إضافة إلى تحديث 79 طائرة تمتلكها.
عندها بدأ دور الكونغرس في إدارة اللعبة، فقد اعترض أعضاء فيه على “سياسات تركيا في سورية”، وموقفها الرافض لانضمام السويد للناتو، الأمر الذي علّلته تركيا بدعم السويد لمنظمة حزب العمال الكردستاني PKK التي تصنّفها هي والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي كمنظمة إرهابية.
في منتصف هذا العام، علت أصوات في الكونغرس تطالب مجدّداً بالموافقة على صفقة مع تركيا بقيمة 259 مليون دولار، تشمل تحديث برامج إلكترونيات الطيران لأسطول تركيا الحالي من مقاتلات “إف-16″.
ولكن تركيا لم تتخل عن مطالبتها بالوفاء بالتعهّد المشترك مع السويد، وما وصفته بـ “استئصال العناصر الإرهابية التي تستهدف تركيا من أراضيهما”. وهو حق طبيعي لعضو مؤسس للناتو يتعرّض لتهديدات معلنة ويومية ويجري تنفيذها باستمرار على يد PKK الذي باتت لديه قوات منظمة في شمال سورية حيث يحتل ثلاث محافظات بدعم مباشر من الولايات المتحدة.
مبادرة سيناريو ألمانيا الغربية على طاولة الحوار
هذا الوضع المعقّد بسط ظلاله على لقاءات السيناتور هيل وزميليه مع المسؤولين الأتراك، وقد عقد أعضاء الكونغرس اجتماعات مع نائب وزير الخارجية التركي بوراك أكجبار ومعاون الوزير أحمد يلدز.
وجرى في هذه الاجتماعات، حسب مصدر أميركي خاص، الحديث عن ضرورة توحيد الجهود الأميركية التركية في محاربة الإرهاب والميليشيات التي تهدّد أمن الطرفين، وكرّر السيناتورات التشديد على رغبة واشنطن برؤية نوع من الابتعاد التركي عن السياسات الروسية والإيرانية، لا سيما في الملف السوري.
وأضاف المصدر أن المصلحة المشتركة للولايات والمتحدة وتركيا تقتضي المزيد من التقارب في الملف السوري، فيما اعتبر مسؤول تركي طلب عدم ذكر اسمه في تصريحات خاصة بموقع “غلوبال جستس سيريا نيوز” أن هذه اللقاءات تشكّل “فرصة” للطرفين يجب استثمارها لتحقيق أهداف البلدين الاستراتيجية في الأمن والقضايا الساخنة، وعلى الأخص في ما يتصل بالملف السوري.
وفي وقت سابق من هذا العام، جدّد السيناتور هيل تأكيده على أن مجلس النواب الأميركي لن يدعم أي تطبيع مع النظام السوري، مضيفاً قوله “علينا أن نقاوم نظام الأسد باستمرار”. هيل قال حينها في كلمة له ألقاها في متحف “ذكرى الهولوكوست” في الولايات المتحدة، إنه “تحت أي ظرف من الظروف، يجب ألا تغمز الولايات المتحدة، أو تومئ برأسها، أو حتى تعقد اجتماعاً عن بعد، مع حكومة أخرى تسعى لتطبيع العلاقات الدبلوماسية مع النظام السوري”، معتبراً أن أي شكل من أشكال تطبيع العلاقات مع الأسد هو “خطأ كارثي، ولن يحظى بأي دعم من مجلس النواب الأميركي”.
كما أشار هيل في بيان صحافي نشره على موقعه الرسمي التابع للكونغرس الأميركي، قبل أيام، إلى حضوره حفل منظمة “غلوبال جستس” السنوي في مدينة غازي عنتاب، وأضاف إنه خلال فترة وجوده في الكونغرس، عمل بلا كلل كصوت للشعب والأبرياء في سوريا الذين تحمّلوا سنوات من التعذيب والقتل نتيجة للأعمال الوحشية التي يرتكبها نظام الأسد. وتابع “من الأهمية بمكان أن تعمل الدول في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة، معاً لتوفير المساعدات الإنسانية الضرورية ومواجهة نظام الأسد”. كما تعهد السيناتور الجمهوري بمواصلة العمل في واشنطن بشأن سورية ومستقبلها.
زيارة أعضاء الكونغرس إلى تركيا والشمال السوري أعادت طرح مبادرة “الأرض الحرام” و”سيناريو ألمانيا الغربية” اللتين قدمتهما منظمة غلوبال جستس بالاشتراك مع التحالف العربي الديموقراطي العام الماضي، وهاتان المبادرتان يقتضي تطبيقهما تقارباِ تركياً أميركياً يضمن مصالح الطرفين ويحقق للسوريين مخرجاً نحو الحل السياسي الشامل انطلاقاً من توحيد منطقتي النفوذ التركي والأميركي شمال غرب سورية وشمال شرقها بعد تحييد الإرهاب في النطاقين في الوقت ذاته وتنظيم شؤون المساحة الشاسعة التي يمكن أن تزدهر بالتنمية والإصلاح الإداري والانتخابات المحلية لإتاحة الفرصة لعودة اللاجئين إلى بلادهم.
المصدر: غلوبال جستس