انشغل السوريون بحراك سياسي غير مسبوق شمل مناطق جغرافية عدة في سوريا بعد سنوات من عطالة الميدان عسكرياً وسياسياً، وجذبت السويداء الأنظار بحراك احتجاجي بسقف سياسي مرتفع لامس شعارات الثورة السورية الأولى في إسقاط النظام واستهداف رئيسه المجرم بشكل دغدغ العواطف وشحن القلوب المتهتكة وأعاد طرح مفردات التغيير السياسي بعد أن ساد في الآونة الأخيرة خطاب تسوية يقترب من القرار الدولي 2254 ولا ينفذه.
وكالعادة، انهمك بعضهم في تسمية ما يجري، توصيفه وتأطيره بوصفه هبات أطراف مهمشة تثور لخبزها وقوتها، إذ تزخر العديد من المقالات الصحفية وتقارير مراكز الأبحاث الغربية بمصطلحات، كلفة الحياة، غلاء المعيشة، التضخم، انهيار العملة.. إلخ، فهل تكفي هذه المفردات فعلا لفهم ما يجري؟
سوريا هي دمشق
نظرية المركز والأطراف قديمة وشائعة في توصيف الحراك الاحتجاجي، لكنها عجزت وتعجز عن توصيف الحالة السورية، ذلك أن المدن التي ثارت في الماضي، وتتحرك اليوم مثل السويداء لا تعتبر أطرافاً ريفية، بل مراكز مدينية لها أطراف مهمشة تمثل أريافها، بتعبير أدق ومختصر، هي مراكز أطراف مقابل مركز الدولة (دمشق).
في ضوء ذلك، لا يمكن لحراكها أن يوصف كانتفاضة فلاحين أو “ثورة جياع” أو “هبات منفلتة” لسبب بسيط أنها ما تزال تنتج شعارات سياسية وتطرح مطالب وحلولاً عامة تخص مجموع السوريين أو شرائح كبيرة منهم لا تنحصر بقضايا الفقر، وغلاء المعيشة، أو المظالم الاقتصادية على أهمية الأخيرة كقادح “Trigger” للحراك في بعض الأحيان.
بكلمات أخرى، المداخل المعرفية لعلم الاجتماع السياسي لا توفّر كل الإجابات لفهم ما يجري في السويداء وإمكانية استمراريته واستجابة النظام والفاعلين الخارجيين، ثمة حاجة لاستعارة خلاصات إضافية بسيطة من حقل الدراسات الأمنية.
بعد اعتماد الحل الأمني/ العسكري سبيلاً وحيداً في مواجهة الثورة المسلحة، كانت استراتيجية النظام وحلفائه واضحة في إبعاد المركز السياسي، وهو العاصمة دمشق، عن أي تبعات واستخدام ما يلزم في سبيل ذلك.
تدخل حزب الله جاء مبكراً في النصف الثاني من عام 2012 لحماية العاصمة كما اعترف حسن نصر الله بذلك، التدخل الإيراني والعراقي ضمن خطة المعصم، بُرمِجتْ على هذا الأساس بحيث تطوّق الميليشيات الشيعية دمشق من مختلف جوانبها لمنع أي حراك داخلها وأي تهديد من خارجها، حصار الغوطتين كان التتويج لخطة ثبات المركز أمنياً والتي خاطر فيها حدَّ استخدام السلاح الكيماوي على نطاق واسع في آب/ أغسطس عام 2013.
رغم كل ذلك، أثبتت الوقائع أن قوات النظام عاجزة عن صدّ أي هجوم منظم وكبير على دمشق، وهو ما حصل في معركة “الله غالب” عام 2015، إذ سيطرت فصائل المعارضة مثلاً على مبنى الأركان الاحتياطي وقطعت الطريق الدولي لولا التدخل الروسي جواً الذي قلب المعركة وقتل معظم المهاجمين.
لقد دأب لافروف على تذكير النظام وإيران بأن تدخل بلاده حمى العاصمة وأنقذ النظام من سقوط وشيك، ومنذ ذلك الحين بات النظام يتصرّف وكأنّه المنتصر الذي يفرض الشروط لا أن تُفرض عليه الشروط، لا سيما فيما يتعلق بتجاوبه مع الحل السياسي.
باختصار، كانت سوريا بالنسبة للنظام هي دمشق، وكل ما عداها هي أطراف إما موالية كالساحل، أو حيادية كالسويداء، محيّدة كدرعا، متمردة غير مهمة كالشمال، أو مزعجة كالبادية وشمال شرقي سوريا.
راهن النظام على مسألتين جوهريتين هما لعبة الوقت مع القضم التدريجي، واستمرار عجز المعارضة السياسية والمسلحة عن تقديم بديل دولتي من شأنه أن يشجع قوى دولية كالولايات المتحدة والغرب للاستثمار بها إذا رغبت مناكفة روسيا وإيران، لكن الأخيرة، ومع الانشغال بقتال داعش والنهج التركي التنازلي مع روسيا في سوريا بعد انطلاق مسار أستانا، اتجهت للعب لعبة تقليدية صالحة لسياقات مشابهة أو مجمدة مثل السياق السوري.
المركز: بين الاجتماعي والأمني
ثمة رأي يحظى بدعم شريحة جيدة من الباحثين أن الصراعات المسلحة التي تتحول إلى حروب وكالة “Proxy war” تصل إلى مرحلة “عطالة” بعد عقد من الزمن نتيجة غياب الحسم، وتعب الفاعلين المحليين مع انشغال الداعمين الخارجيين بأزمات جديدة، ويصبح وقف إطلاق النار هو السمة العامة للصراع مع وجود خروقات لا تؤثر على خرائط السيطرة وموازين القوى.
يتحول الاقتصاد والأداء الوظيفي للقوى المسيطرة ليكونا المحدد الرئيس في استمرارية الفاعلين المحليين وزوالهم، وتصبح عملية تعبئة الموارد هي المهمة الأكبر للقائمين عليها بكل ما يتطلبه ذلك من تبني أطر أيديولوجية أو التخلي عنها.
بالعموم، يدخل الجميع في عملية مراجعة سلوكية وفكرية لمرحلة الصراع، باحثين عن مكان لهم في المستقبل بعد اقتناعهم تدريجياً بالتسوية وعدم قدرتهم كفاعلين على الخروج على القيود البنيوية الموجودة.
مع الوصول إلى نقطة العطالة، يواجه المركز السياسي للدولة ومن يتحكم به تحديات جمة مقارنة مع غيره من الفاعلين من غير الدولة الذين يحكمون حيزاً جغرافياً وديمغرافياً ضمن أراضي الدولة ذاتها. يُعزى ذلك إلى عجز المركز عن تفسير أو تبرير ما يجري في الراهن مقارنة بفترة الحرب وتاريخها التي يتصرف فيها كأحد الأطراف أو الميليشيات المسلحة. بكلمات أخرى، تبرز أسئلة الدولة المتعددة كالأمن، والخدمات، والفعالية، والمؤسساتية، والتعافي، وإعادة الإعمار، والتعويضات، والتسوية أو المصالحة، والأهم هو السؤال: ما العمل لمنع تكرار الماضي؟
ينجح المركز في تأكيد انتصاره العسكري أو مقاومة الانهيار في حالة وفرة الموارد، ويمكن أن نطرح حالة طرابلس في ليبيا بوصفها المثال الأكثر تعبيراً عن ذلك، لكنه يدخل في مسارات مختلفة أكثر هشاشة كلما غابت الموارد وانشغل الممولون الخارجيون بملفات أخرى.
باختصار، يصبح سيناريو انهيار الدولة هو الوحيد المتاح لإحداث تغيير يمنع تجدّد الحرب إما عبر زوال النظام القديم ككل أو ظهور جناح معتدل “Soft-liners” لكنه قوي وقادر على اتخاذ المبادرة لفتح مسار سياسي إنقاذي ميثاقي “Pact”.
لحصول ذلك، هناك افتراض ضمني أنه كلما تراجع المركز وتهمشت أدواره الوظيفية ظهرت مراكز طرفية قوية أو قويت المراكز الموجودة، وهذا ما جرى في سوريا منذ عام 2020. فبعد أن هدأت المعارك نتيجة اتفاق موسكو آذار/ 2020، وتراجع زخم المعركة ضد تنظيم الدولة بعد انهيار قواته وانحسارها نحو البادية، وتراجع اقتصاد الحرب بدأت تظهر أسئلة المستقبل أو ما نسميه “الما بعد” في وجه نظام الأسد الذي يمثل الدولة نظرياً، ولم يكن الأخير يملك من إجابات سوى وعود وشعارات وأحياناً إجراءات إسعافية ترتبط بسخاء الداعمين الخارجيين كإيران أو بيع أصول كاملة لهم.
مراكز الأطراف تعيد تعريف العلاقة مع المركز
دخل النظام بقراره في مسار الخراب الشامل، فهو من جهة لا يرغب في أي مسار إصلاحي مهما كان صغيراً؛ لأنّ ذلك يؤدي إلى انهياره، ويعجز في الوقت عينه عن إعادة تقديم نفسه كدولة تقوم بوظائفها التقليدية بعد “الانتصار” العسكري.
ترافق ذلك مع ظهور تنافس ضمن المركز السياسي على الموارد الشحيحة أصلاً واحتكارها كمعيار للبقاء في المستقبل، كما حصل مع أسماء الأسد التي حاولت إعادة هندسة الاقتصاد المنهار أصلاً بما يتوافق مع حضورها وسيناريو التوريث الذي يشغل بالها بما يتطلبه من نخب جديدة على مستوى النظام.
على هذا الأساس، جرى استبعاد فاعلين اقتصاديين اعتادوا تجميلَ احتكارهم للثروة والاقتصاد من خلال مشاريع خيرية تستهدف الأطراف لإسكاتها أو لتلبية الطلب على التجنيد البشري منها.
بتعبير أدق، كشف النظام عن أبشع وجوهه، بحيث لم يعد يهتم بتقديم أي شيء لأنصاره قبل معارضيه سوى القمع الأمني، ولم يعد لديه استراتيجيات للبقاء سوى استمرار الاستثمار بالجهاز القسري، أمن وجيش مع مكافأة الداعمين الخارجيين بمزيد من الأصول الثابتة.
أمام هذا الواقع، كان من الطبيعي أن تلجأ المراكز الطرفية إلى إعادة تعريف علاقتها مع المركز السياسي، المنشغل بذاته، لتصبح هي الأخرى مراكز سياسية لأطرافها الهشة والمفقرة التي تضغط عليها، مراكز تمارس السياسة بكل ما يتطلبه ذلك من أعباء وذخيرة أيديولوجية وعلاقات دولية أيضاً.
ويمكن وضع حراك السويداء ضمن الخلاصات السابقة، فالمحافظة وبحكم تركيبتها الديمغرافية حيّدت نفسها عن الصراع بعد توضّح معالمه وانتقاله للعمل المسلح، وقد بلورت في أكثر من مرة حراكاً محدوداً متقطعاً معارضاً للنظام، لكن غموض عملية التغيير والشك بالمعارضة كان هو السائد ويمنع انخراطاً أكبر.
بعد مرور السنوات، وتعمق أزمات النظام، راحت المدينة تنظر خارج علاقتها التقليدية مع دمشق، تجارب المراكز الطرفية من خلال نماذج الحكم في شرقي سوريا وشمالها حفّزتها لتخوض تجربتها على الأقل بالتخلّص من النظام في محاولة لصياغة مكان لها في مستقبل سوريا أكثر من الانفصال عنها، الهوية الفرعية الدرزية كانت الإطار الأيديولوجي الأكثر واقعية في عملية التعبئة كونها تجمع ما بين المظالم الاجتماعية والدينية من جهة وتقدم نفسها من جهة ثانية ضمن سرديات بناء الكيان السوري إبان النضال ضد الاستعمار الفرنسي والاستقلال.
قد يسأل بعضهم عن المحفز في تجربة الإدارة الذاتية التي تقودها طغمة كردية ستالينية النهج والفكر والأدوات تسمى زوراً وبهتاناً “قوات سوريا الديمقراطية”، تستغل دعم التحالف الدولي لها وقمع مَن يختلف معها أو يخالفها بتهم الدواعش والدعشنة”، ما الجاذب في تجربة إدلب التي تحكمها جماعة جهادية مصنفة لم تستطع رغم كل التغيرات السلوكية والشكلية إزالة التصنيف الذي يصنف بدوره ملايين البشر الذين يعيشون تحت سطوتها؟ ما المغري في تجربة تعج بالفلتان الأمني كما هي مناطق الجيش الوطني؟
الجواب باختصار، أن جميع التجارب السابقة على رداءتها تقدّم تجارب حكم محلي وخدمي أفضل بآلاف الأميال على ما يقدّمه المركز السياسي ويتوافر فيه هامش حرية يتيح مناورة أكبر مقارنة بالنظام، وتؤمن لمجتمعاتها المحلية تبادلاً تجارياً مع العالم الخارجي بحكم وجود حدود دولية يفتقدها المركز المعزول إجرائياً. وعليه، لم تعد المقارنة بين الأفضل أو المبتغى، بل بين الأقل سوءاً، وهو نهج صار سائداً في أدبيات العمل السياسي السوري.
“السيئ والأقل سوءاً” واضطراب العلاقة مع المركز السياسي ووجوهه الاقتصادية الجديدة، ديناميات تفسّر حراك الساحل الذي يوصف بكونه القاعدة الاجتماعية للنظام، فقد برزت أصوات جديدة في انتقاد النظام لا تتماشى مفردات خطابها ومضمونها مع نهج التنفيس التقليدي الذي تتبعه الأنظمة السلطوية وشبه السلطوية خلال الأزمات الاجتماعية والسياسية الحادة، حيث تجري محاولة تأطير ما يجري بعناوين سياسية جماعية من قبيل “10 آب” و”حركة العلويين الأحرار” وغيرها بانتظار ما قد يرشح عن حراك السويداء الذي يُرجّح أنه يتجه لنمط إدارة ذاتية مع انتفاء قدرة النظام على المواجهة المفتوحة في المدى القصير والمتوسط.
لأوّل مرة لن تكون لعبة الوقت في صالح النظام، بل ضده، الاستمرار في معاندة حركة التاريخ لن تلحق به إلا مزيداً من الخراب قبل السقوط المدوي الذي بات حتمية تاريخية.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا