ليس مطلوباً من السويداء أن تتحمّل كامل عبء الثورة السورية المستمرّة بصيغ مختلفة منذ ربيع عام 2011؛ ولكن ما جرى، ويجرى، فيها منذ نحو أسبوعين أنعش آمال السوريين الوطنيين، ممن لم تتلوّث أدمغتهم بسموم المشاريع الوظيفية العابرة للحدود، سواء بصيغتها الإسلاموية المتطرّفة التي بلغت لدى بعضها حدّ تمجيد الأعمال الإرهابية والتعويل عليها؛ أم بصيغتها القوموية بأسمائها المختلفة من عربية وكردية وتركمانية وغيرها. فقد أثبت الأهل الأعزّاء في سويداء القلب أنهم يدركون جيداً طبيعة العلاقة التي تربط بين سائر المكوّنات السورية، وتجمع بينها، وهي علاقة قديمة تعود بجذورها الحديثة إلى قرونٍ خلت. أما إذا عدنا إلى التاريخين، القديم والوسيط، للمنطقة، فسنجد أن العلاقة أقدم من ذلك بكثير، ولكننا سنبتعد حينئذٍ عن الموضوع الأساسي لهذا المقال. لذلك لن تغوص هذه السطور في تفصيلات المراحل التاريخية السالفة الخاصة بسورية، وإنما سنركّز على الكيان السياسي الذي تشكّل بعد الحرب العالمية الأولى باسم الدولة السورية عام 1920، وهو الكيان الذي جمع بين غالبية المكوّنات السورية الحالية، وهي المكوّنات التي رفضت تقسيم سورية بين كياناتٍ صغيرة كان الفرنسيون يريدون بنائها على أسس طائفية، واعتبارات جهوية، وذلك بما كان يتناسب مع حساباتهم ومصالحهم، ويسهّل تطبيق مشروعهم الاستعماري في البلد. لكن السوريين رفضوا ذلك المخطّط، ما عدا أصواتاً نشازاً هنا وهناك، وأصرّوا على توحيد قواهم بقيادة سلطان باشا الأطرش الذي كان يجمع، عبر تاريخ أسرته، بين شمال سورية وجنوبها، وقاد برجولة، إلى جانب زعماء الاستقلال الكبار (مثل عبد الرحمن الشهبندر وإبراهيم هنانو والشيخ صالح العلي)، الثورة السورية الكبرى التي أسّست لاستقلال سورية عام 1946.
واليوم، ها هم أحفاد الأطرش يجدّدون ذكراه وشمائله بالأسلوب الذي كان يرغب ويفعل، ويجتمعون في مضافته ليستلهموا من أجوائها قيم الوطنية الخالصة، قيم الكرامة والحرية على مستوى الجماعات والأفراد، ويستمدّوا منها العزيمة في سعيهم نحو السيادة الفعلية، لا المزعومة التي يتشدّق بها الحاكم بأمر غيره.
تتمثل الأهمية الاستثنائية لانتفاضة الحرية والكرامة في السويداء في أنها سلّطت الضوء من جديد على الجرح السوري المفتوح منذ أكثر من 12 عاماً بعد أن تجاهلته الدول البعيدة والقريبة، وانصراف كل واحدةٍ من الدول التي تقتسم الجغرافيا السورية حالياً عبر وكلائها المحليين والوافدين إلى تعزيز مواقعها في مناطق النفوذ التي تُهمين عليها، وتستعدّ لإقامة طويلة الأمد فيها. وقد بلغ التجاهل الدولي الكارثة السورية التي تمسّ مصير نحو 14 مليونا من البشر النازحين واللاجئين، وهيمنة الفقر المدقع على نحو 90% من السوريين المقيمين والمهاجرين، وهم الذين ينتمون إلى بلدٍ يمتلك كل إمكانات النهوض والتقدّم على صعيد الموارد الطبيعية والبشرية، ولكن المصيبة أنهم نُكبوا بسلطة فاسدة مفسدة مستبدّة؛ أعلنت، وتعلن، مواربة وصراحة، أنها تريد من سورية الثروات والصفقات، لا الشعب، وهي تتقاطع في ذلك مع المافيات الإقليمية والدولية التي تتشارك مع سلطة آل الأسد في المصالح والأهداف.
وقد بلغت موجة تجاهل القيامة السورية الدول العربية نفسها التي وافقت على دعوة بشار الأسد إلى قمتها في جدّة، لتسمع منه كلاماً لا ينسجم بأي شكلٍ مع الأوهام التي بنت عليها الدول المعنية خطّتها الجديدة في التعامل مع السلطة المقصودة، وفق سياسة خطوة مقابل خطوة؛ وهي الهرطقة التي سوّقها المندوب الأممي الخاص بسورية، غير بيدرسون، الذي يعلم أكثر من غيره أن بشّار الأسد، وبتوجيهات وتعليمات متشدّدة من رعاته الإيرانيين والروس، لم، ولن يتنازل سنتيمترات، إن لم نقل مليمترات عن مواقفه التي كانت، وما زالت، في ميدان قمع السوريين، والعمل على إذلالهم بمختلف الأدوات، بما في ذلك بالإفقار والتجويع. وفي هذا السياق، ذكر بشّار الأسد، في مقابلته أخيرا مع “سكاي نيوز عربية”، أنه لو عادت به الأيام إلى البدايات (بدايات الثورة السورية) لاتخذ القرارات ذاتها، وارتكب الآثام عينها ضد السورين المنتفضين على حكمه.
أما الأهمية الداخلية لانتفاضة السويداء، ففي تأكيدها ضرورة المشروع الوطني السوري، الذي لا بدّ أن يكون بكل السوريين ولكلهم، مشروعا يطمئن سائر المكوّنات المجتمعية السورية من خلال احترام الخصوصيات، والاعتراف بالحقوق، وإزالة الهواجس بعقود مكتوبة، وتعزيز الثقة المتبادلة، والتوافق على آلية لحل الخلافات التي ستظهر بكل تأكيد. ويتناقض مثل هذا المشروع، بالمطلق، مع جميع أشكال التطرّف والتعصّب، سواء الديني أو المذهبي، أو القومي أو الأيديولوجي. وقد بيّنت تجربة الثورة السورية أن المشاريع الإسلاموية بتدريجاتها المختلفة، وكذلك المشاريع القومومية والعلمانوية المتطرّفة، لم تحقّق للسوريين أي مفيد، بل أساءت إلى ثورتهم، وباعدت في ما بينهم، وفتحت المجال أمام ظهور حركات متطرّفة إرهابية استثمرت فيها أجهزة مخابرات الدول، وعقد عليها بعض الإسلامويين الآمال، اعتقاداً منهم إن المتطرّفين سيفشلون، وأن المعتدلين، بحكم خبرتهم السياسية، هم الذين سيقطفون الثمار في نهاية المطاف.
واللافت أن بعض الأصوات المتطرّفة، أو التي تبحث عن تسجيل النقاط الرخيصة، استمرّت في خطابها الطائفي الذي لم، ولن يساعد السوريين؛ بل أساء، وسيسيء إليهم كثيراً. ومن بين الحجج التي تناولها هؤلاء: “المستهدفون هم السنة”، و”الأقليات هي المستفيدة من الوضع”، و”لا ثقة بالأقليات”. وجدير بالذكر، ضمن هذا السياق، أن مفهوم الأقليات لدى قسم من هؤلاء يمتدّ ليشمل سائر الأقليات الدينية والمذهبية. أما من بين الأقليات القومية، فيتم التركيز على الكرد. وما يقال ويُكتب راهناً بخصوص ما يجري في منطقتي السويداء ودير الزور يبيّن المخاطر والتحدّيات التي تواجه السوريين، فأن ندين مكوّناً بالكامل، من دون إعطاء الاعتبار لإختلاف وجهات النظر وتعارض المواقف بين من ينتمون إليه بناء على اعتباراتٍ وراثيةٍ يؤدّي إلى أخطاء قاتلة.
ولنتوقف هنا عند مكوّنين من المكوّنات المجتمعية السورية، لنبتين مدى الخلط الذي يحدُث، فالسوريون جميعاً يدركون اليوم أنه لو تحرّكت مدينتا دمشق وحلب، بكامل قواهما في بداية الثورة السورية في أثناء مرحلتها السلمية، لسقطت السلطة في الأشهر الأولى؛ ولكن المشكلة أن معظم رجال الأعمال والدين في المدينتين كانوا مع السلطة، ويستفيدون منها؛ ولم يتم التحرّك المطلوب. واليوم نرى أن ضباطا كثيرين في الجيش والأجهزة الأمنية وفي الإدارات المدنية المهمة هم من السنّة، وهؤلاء في صفّ السلطة لا في صفّ الشعب. ومع ذلك، لا ينكر أحد أن السنّة هم الذين تضرروا في المقام الأول، ودفعوا الضريبة، إلا أن الإقرار بهذا الأمر لا يعني، بأي شكلٍ، إدانة المكوّنات الأخرى بالمطلق، أو أن نظهر السنة بالمطلق، وكأنهم جميعاً كانوا من أنصار الثورة ومن المساهمين فيها.
أما إذا انتقلنا إلى الوضع الكردي، فالجميع يعلم أن المظاهرات التي شهدتها المدن والبلدات في المناطق الكردية كانت من أوائل المظاهرات التي ساندت الثورة على مستوى سورية منذ الأيام الأولى، وتفاعلت معها، بل انخرطت في الثورة السورية، وكانت جزءاً منها على مختلف المستويات. ولكن ما حصل أن السلطة عقدت صفقة مع حزب العمّال الكردستاني، بناء على الدفاتر والاستثمارات السابقة، فدخلت قوات الحزب المعني، تحت اسم واجهته السورية حزب الاتحاد الديمقراطي، الساحة الكردية السورية، بمهمة قمع الأصوات الكردية القوية المتفاعلة مع الثورة، مقابل تردّد (وسلبية) الأحزاب الكردية التي كانت لها اعتباراتها وحساباتها الخاصة بها. كما ارتكبت مليشيات الحزب المذكور تصفية نشطاء كُرد، وارتكبت مجازر في عدة مدن، منها مجزرة عامودا (صيف عام 2013).
وأمام هذا القمع، إلى جانب الإجراءات التعسّفية مثل التجنيد الإجباري، وإلحاق الكوارث بالعملية التعليمية، اضطرّ أكثر من مليون كردي إلى مغادرة منازلهم، ليتحوّلوا إلى لاجئين في الجوار الإقليمي، سواء في إقليم كردستان أو في تركيا، وحتى إلى نازحين في الداخل، في حين أن بعضهم غرقوا في البحر وهم في طريق البحث عن ملاذ آمن، يضمن العيش الحرّ الكريم لهم ولأبنائهم. ومع ذلك، يتقصّد كثيرون عن سابق معرفة تجاهل كل هذه الأمور؛ ويصرّون، بناءً على نزعات وأضاليل ونزعات عنصرية تخصّهم، على إدانة الكرد جميعاً كمكوّن مجتمعي سوري.
ويسري ما سبق بشأن المكوّنين، العربي السني والكردي، على سائر المكوّنات السورية المجتمعية الأخرى، ومن بينها المكوّن العلوي الذي له خصوصيته؛ نتيجة حرص السلطة الأسدية على استخدامه أداة لها في قمع السوريين. ولكن هذا لا يبيح لأحدٍ، في جميع الأحوال، إدانة العلويين ككل. ولا يجوز لنا أن نفعل ذلك إذا كنا نؤمن بالمشروع الوطني السوري، ونعمل عليه من أجل الحفاظ على وحدة الشعب والوطن، في ظل نظام حكمٍ عادلٍ رشيد، يحرص على توفير مقوّمات العيش الحر الكريم لجميع السوريين.
بقي أن نقول إن السلطة الأسدية تستغلّ كل الأوراق والخلافات والتباينات بين السوريين لمصلحتها؛ بل هي تسعى عبر عملائها وشبّيحتها داخل سائر المكوّنات لإحداث الخلافات بين السوريين وتمزيق صفوفهم عبر شعاراتٍ ومزاعم متناقضة؛ والرد على ذلك يكون بضبط المواقف وفق البوصلة الوطنية؛ ونعني بذبك التركيز على المشروع الوطني، والقطع مع سائر نزعات التطرّف والتعصّب التي تلجأ عادة إلى سلاح التكفير والتخوين.
المصدر: العربي الجديد