أثار اعتقال أحد الناشطين في مدينة الباب في الخامس والعشرين من الشهر الجاري أحاديث صاخبة في المشهد السوري، وذلك على إثر انتزاع الناشط المذكور لإحدى اللافتات التركية التي تحمل اسم جندي تركي، وقد وضعت على إحدى المدارس التي تقرر استبدال اسمها القديم باسم أحد الجنود الأتراك. ولعل ما زاد من صخب الحديث هو تزامن هذه الحادثة مع ارتفاع وتيرة النزعة العنصرية تجاه اللاجئين السوريين في تركيا، الأمر الذي أدّى إلى كثير من خلط الأوراق وتداخل التأويلات وطرق الاستثارة وربما التشويش المتعمد في بعض الأحيان، ظنّاً من البعض أن هكذا أجواء من الصخب ربما تكون مناسبة جداً من أجل تجييش الرأي العام أو استثارة العواطف نصرةً لفكرة أو ظاهرة ما.
ما ينبغي الوقوف عنده اولاً هو ضرورة الفصل بين الواقعتين، أو تحديداً بين سياقين سلوكيين تضمن كل واحد منهما جملة من الأحداث، ولعله من الصحيح أن الطرف المُستهدف في الحالتين هم السوريون، ولكن الجهة التي تتحمل المسؤولية ليست واحدة في الحالتين معاً. وبالعودة إلى أصل حادثة اعتقال الناشط السوري في مدينة الباب يمكن التأكيد على أنها تنتمي إلى سياق سلوكي بدأت ملامحه بالظهور منذ تأسيس الكيانات الرسمية السورية على الأراضي التركية، ومن ثم منذ أن بدأت تركيا تمارس نفوذها كاملاً على مدن شمال غرب سوريا، أي المدن والبلدات الواقعة ضمن شريط درع الفرات وغصن الزيتون وكذلك مدن وبلدات نبع السلام شرقاً، وهذه المناطق جميعها تخضع للنفوذ التركي المباشر، وجميع المجالس المحلية والمؤسسات التعلمية والفصائل العسكرية تُدار بشكل مباشر من الجانب التركي، الأمر الذي جعل الكثير من السوريين في تلك المناطق يرون في السلطات التركية هي الحاكم الفعلي الذي يجب التوجه إليه في الخطاب، وكذلك يجب كسب ودّه ورضاه وتقديم الولاء الكامل بحسب الكثيرين، ربما سعياً لإثبات حسن السلوك، أو حرصاً على مكاسب شخصية معينة عند البعض.
ولكن بكل الحالات فإن الجهة التي تبادر بهذا السلوك هي جهات سورية، وهو سلوك مجاني في معظم الأحوال وليس مفروضاً من جانب الأتراك، وإن كان يلقى القبول من السلطات التركية إلّا أن عدم المبادرة به من جانب السوريين لا يوجب عليهم أي مسؤولية أو محاسبة، ومع ذلك يمكن الوقوف على كثير من المواقف يُقدم عليها سوريون تتجلى من خلالها مظاهر التزلّف والثناء المجاني المُبطّن بالنفاق أمام مسؤولين أو ضباط أتراك، علماً أن هؤلاء المسؤولين أو الضباط الأتراك أنفسهم يتفاجؤون بهذا السيل من التملّق، ولكن ربما مع مرور الزمن بات هذا الأمر لديهم مألوفاً أيضاً. أمّا الدوافع الحقيقية لهذا السلوك فيمكن ببساطة إرجاعها إلى تجذّر ثقافة التشبيح في طبقات الوعي لدى كثير من السوريين، تلك الثقافة التي خلّفتها عهود طويلة من القمع والترويع الذي مارسه الحكم الأسدي في حقبتي الأب والابن معاً، وربما وصلت درجة الخوف من السلطة لدى المواطن السوري إلى شعور دائم لديه بأنه مُتّهمٌ حتى يثبت العكس، ولن يثبت هذا (العكس) سوى بالبحث عن مناسبة يجد فيها المواطن الفرصة للتعبير عن ولائه وإخلاصه حتى يتبرأ من الاتهام الملازم له، ولا يجهل معظم السوريين انه حتى إذا أراد أي مسؤول أو مدير مؤسسة أو شركة الحديث عما أنجزته الدائرة التي يعمل بها أو يرأسها، فيتوجب عليه أن يختم حديثه بالقول: (ما كان هذا الإنجاز ليتحقق لولا توجيهات القيادة الحكيمة، أو بعبارات تشابهها).
ولا تزال ذاكرة السوريين ومخيلتهم تزخر بالعديد من مشاهد المناسبات التي يتبارى فيها الكثيرون لتقديم الولاء المجاني، ليس درءا لذنب اقترفوه، بل دفعاً لتهمةٍ ملصقة بهم سلفاً، وسوف تزداد التصاقاً إن لم يبادروا بتقديم الولاء والثناء، كالاحتفالات التي كانت تعم البلاد بذكرى الحركة التصحيحية، إذ يكفي أن تبادر مدرسة أو جمعية فلاحية في قرية نائية بإقامة احتفال بهذه المناسبة، حتى نجد أن جميع المدارس والجمعيات في القرى المجاورة حذت حذوها، خوفاً من تقصي رجال المخابرات أو خوفاً من تقارير الوشاة عن عدم المشاركة، ولعل اللافت في الأمر أن معظم السوريين الذين يحتفظون بهذا السلوك هم أنفسهم ثاروا على نظام الأسد، وتخلصوا من سطوته الأمنية، ولكنهم لم يتخلّصوا بعدُ من آثار ثقافة الخوف التي أورثها نظام الإبادة الأسدي لأجيال لاحقة.
يذكر كاتب هذه السطور الذي قضى شطراً من سنوات اللجوء في تركيا، أنه على إثر فشل انقلاب تموز عام 2016، خرجت على مدى أيام مظاهرات زاخرة تملأ الشوارع تندد بالانقلابيين وتؤكّد دعمها للحكومة، وقد شهدت تلك المظاهرات حضوراً لافتاً للسوريين الذين وحدهم انفردوا برفع صور الرئيس أردوغان، وذلك على خلاف المواطنين الأتراك الذي اكتفوا برفع العلم التركي فقط، وقد لفتت هذه الظاهرة أنظار رجال الأمن التركي، فبادروا إلى تنبيه السوريين بعدم رفع الصور، باعتبارها ليست عرفاً معهوداً لدى الأتراك.
تجليات ثقافة التشبيح بدأت بالظهور مبكّراً ولكن بمستويات متفاوتة، ولئن وجدناها تتجلى على مستويات دنيا في مناطق نفوذ تركيا من الشمال السوري، مدفوعةً لدى البعض بمصالح دونية، إلّا أن تجلياتها الأكثر وضوحاً ظهرت لدى الكيانات الرسمية السياسية والخدمية بطريقة أكثر دونيةً، ليس أقلّها ألّا يستطيع مسؤول سياسي سوري أن يتحدث مع طرف تركي دون أن يمهد لحديثه بديباجة مطولة من الثناء، ومن ثم يتحدث باستحياء شديد ومقتضب عن الشأن السوري، إلى درجة أن هذه الظاهرة لم تعد تثير أية حساسية عند الكثير من مسؤولي المعارضة، بل بات البعض منهم يبرر هذه المسألة باعتبارها من ضروب البروتوكول، والبعض الآخر يزعم أنه مُجبر على ذلك، وواقع الحال يكذّب ذلك، بل يمكن القول: حتى إذا طالب الطرف التركي بذلك أو أوحى به للآخرين، فعلى الطرف المقابل أن يرفض، وإن رفض فلن يُسجن ولن يؤذى بماله وأولاده ولن يُطرد خارج البلاد، بل أقصى ما يمكن أن يحدث له هو افتقاده لمصلحته الشخصية التي تكمن في استمراره بمنصبه، والسؤال: ألا تستحق القضية السورية من مسؤول يدّعي قيادة الثورة أن يضحّي بمنصبه حرصاً على شرف وكرامة قضيته؟
لا شكّ على الإطلاق في أن اعتقال الناشط الذي أزال اللافتة التركية هو أمرٌ مدان بشدة، ولا شك أن ما دفع الناشط إلى تلك المبادرة هو حسّ وطني وشعور بالغيرة على الانتماء للقضية السورية، ولكن يجب القول أيضاً إن اعتقاله نتيجة لثقافة التشبيح التي ما تزال راكدة في رواسب الوعي لدى الكثيرين، إذ لا ننسى أن من بادر بوضع اللافتة التركية في الأصل هو سوري وإنْ بإيحاء تركي، والذي وشى بالناشط وأبلغ السلطات التركية عنه هم سوريون أيضاً.
قد لا نختلف بالقول: إن جميع السلطات الحاكمة تتساوى في حرصها على أن يكون لديها أتباع وحشود من المصفقين وبائعي الولاءات المزيفة والمجانية، ولكن قدرة تلك السلطات على تحقيق ما تريد مرهون أيضاً بوجود شهوة الارتهان لدى تلك الحشود وقطّاعات المصفقين.
أمّا ما يخص الممارسات العنصرية التي يواجهها اللاجئون السوريون في تركيا، فهي مسألة أخرى، والحديث عنها مختلف، ولا يجوز خلطها بالأولى.
المصدر: تلفزيون سوريا