لايبدو أن سياسة الهيمنة والسيطرة الإيرانية، عبر ميليشياتها المنتشرة على مساحات واسعة من الجغرافيا السورية، في طريقها للتريث ولجم مسألة القضم المستمرة للمنازل والعقارات في دمشق القديمة، وفي حلب أيضاً، وفي العديد من مناطق سورية. وليس في منظور الإيرانيين الذين تمكنوا من الإطباق على السياسة السورية الأسدية، وجعلها سياسات تابعة ليس إلا، ضمن مشروع إيراني واضح المعالم، لن يوقفه بالضرورة ما جرى من تفاهمات مع المملكة العربية السعودية في الصين بتاريخ 10 آذار/ مارس المنصرم.
فما جرى مؤخرًا من إحراق عشرات المنازل الدمشقية القديمة، والمراكز الأثرية التي تعود إلى تواريخ قديمة، تمثل لدى السوريين الكثير من العمق والحب والتعلق بالأرض، ما جرى في حي دمشق العريق ساروجة، وما جرى قبله في غير مكان من دمشق بحرق المنازل والمحلات (البزورية) التي يأبى أصحابها بيعها لمدحلة الهيمنة الديمغرافية الإيرانية وسياساتها الاستيطانية، في تغيير الملمح السكاني الدمشقي الأصيل.
هذه الحرائق ذات الطابع المخطط له، والتي تأتي ليلاً وبذريعة ماس كهربائي، حيث لا كهرباء في دمشق، وضمن أماكن بعينها، حيث تأكل نار العسف والسيطرة الأخضر واليابس، فتترك المنازل العريقة التراثية الجميلة ركاماً من الأنقاض، هي نفسها سياسة المشروع الإيراني الخطر الذي يطال المنطقة العربية برمّتها، ويساعده في ذلك صمت (العالم المتحضّر) ولا فاعلية النظام الرسمي العربي، الذي يعتقد أن نجاته لوحده تكفي، بدون أن يدرك أنه أُكل يوم أُكل الثور الأبيض في بلاد الشام وفي بلاد الرافدين .
حريق ساروجة خطير بما يترك من آثار تغييرية ديمغرافية، وبما يساهم مع سياسة (التجانس) الأسدية، الكثير من الأخطار التي تنبىء بمصائر صعبة في سوريا، لا أحد يستطيع رصد تبعاتها في مستقبلات الأيام وانقلابات الأزمان.
يدرك أهل الشام بحسهم الوطني أن ما يجري من افتعالات لحرائق ضخمة، وبهذا الحجم، إنما يتسق بالضرورة مع مجمل الفساد والإفساد الأسدي، الذي يجري تباعاً، منذ أن خطف الوطنَ السوري ثلةٌ عصبوية من الطغم العسكرية الأمنيّة، التي لا تنتمي لهذا الوطن السوري، ولا للوطنية السورية بمجملها، ومن ثم فإن السكوت عن مثل هذه الجرائم، وعدم فضحها، سوف يؤدي إلى مزيد من مثيلاتها، وينتج حالات من الألم والتغيير الديمغرافي، التي طالما عمل بها وعليها ما يسمى (الحرس الثوري الإيراني) وتوابعه من الحشد الشعبي العراقي، وميليشيات الأفغان وباكستان التابعة لطهران.
من يستطيع التعدي على أسواق وأحياء دمشق العريقة وجمالها وعمق كينونتها التاريخية، ومن يتمكن من حصد المزيد من الصمت على فعلته هذه، إنما يكون قد وضع نفسه على مسارات وأنساق ومآلات المشروع الإيراني الفارسي الطائفي البغيض، الذي بات يشكل الخطر الأكبر في منطقتنا العربية، والتي قد تتجاوز الخطر الصهيوني واستطالاته.
لا بد من أن ندرك جميعاً، وخاصة من مازال يهمه مستقبل سوريا وحضارتها ووطنيتها، أن الصمت على أفعال إيران وتابعها في دمشق وسوريا، سوف يأخذنا إلى ملاذات لا تحمد عقباها، ولعل الوعي المطابق للحالة السورية، وإدراك كنه المسألة الجرمية التي تجري، هو الضرورة الأهم وصولاً إلى متابعة الاشتغال برويّة وموضوعية، من أجل الإمساك بالخط الوطني السوري المتشابك، بعيدًا عن مشاريع آل الأسد أو إيران الفارسية الطائفية.
ولعل العمل اليوم على إنجاز العقد الاجتماعي الوطني السوري الذي يمثل كل البنية السكانية السورية، ويستوعب جل الحالة الوطنية، هو الأكثر ضرورة لإنجاز موقف وطني، يتمكن من كنس الإيرانيين ومن لف لفهم، وإزاحة الطغيان الأسدي، من أجل وطن ومواطنة سورية، لا تقبل القمع ولا الهيمنة ولا العسف من أحد. فلا سيادة إلا للدستور الوطني، والقوانين الوطنية التي تنبع من داخل الكينونة التاريخية للشعب السوري.
فتاريخنا وتراثنا وعراقتنا تحترق على أيدي شذاذ الآفاق، ومن أتوا إلى سوريا للقضاء على تاريخها وتراثها، وهي مسألة تستدعي الكثير من الوعي والإدراك لما يجري، والدخول لعمق الماهية، وامتلاك القدرة على مواجهتها، من حيث إنها باتت تشكل خطراً كبيراً على كل مكونات التاريخ والعراقة السورية.
في دمشق عاصمة الأمويين الناتجة من التاريخ الغارق في أمجاده الحضارية العربية الإسلامية، حوّلوها اليوم إلى أن تكون (دمشق الحرائق). وإذا كان (زكريا تامر) قد عنون مجموعته القصصية يوماً ما بهذا العنوان، فإن حريق ساروجة الكبير الذي استهدف عشرات المباني الأثرية في حي ساروجة العريق، يشير وبوضوح إلى افتتاح صراعات جديدة في المنطقة لعلها الصراعات مع الماضي، بعد أن تجاوز العدو الفارسي الإيراني الصراع مع الحاضر، حيث وصل الحريق هذه المرة إلى الجذور في شامنا، شام العز والفخر الحضاري الإسلامي العريق.
يُقر الإجماع المعرفي الجمعي، على أن ما جرى وما يمكن أن يجري تتابعاً في الشام، وبلاد الشام الأموية، ينذر بانزياحات ديمغرافية غاية في الخطورة، وتؤسس لمرحلة جديدة تطال هذه المرة الجذر العميق في التاريخ والـتأريخ للحضارة العربية الإسلامية.
ويرى العديد من الباحثين والمطّلعين على انبثاقات وتجليات الاستراتيجية الإيرانية في منطقتنا، أن الاشتغال التغييري السكاني الممارس النابع من بعده الديني الطائفي قد يترك الأثر الأكثر خطورة وفداحة، ليس في سوريا فحسب، بل في مجمل بنيان الديمغرافيا في الجوار السوري، بل الجوار العربي بكليته.
كل ذلك وما يدور حوله، يدق ناقوس الخطر من جديد معلناً انتهاء وقت المهادنة، والغوص عميقاً في البحث عن أدوات عملانية لإنجاز المشروع المناهض للسياسات الاستراتيجية الإيرانية في منطقتنا التي باتت أكثر خطراً، بعد التفاهمات السعودية الإيرانية برعاية صينية منذ أشهر.
الحريق سوف يطال الجميع بلا استثناء، ومتغيرات كثيرة سوف تواكب هذه المرحلة التي تهادن المشروع الإيراني، وهذا الحريق الذي لا يبدو أنه قاب قوسين أو أدنى من النهاية، بل هو في طريقه نحو تراكم في مدماكية البنيانية، كسرة إثر كسرة ومعطًى جديد إثر آخر.
من هنا كان تركيزنا اليوم على ضرورات إعطاء البعد الحقيقي للكارثة الحرائقية التي حلّت بدمشق والتي مابرحت تؤشر إلى المشهد السياسي والديمغرافي القادم، مع مستقبلات سورية وعربية أكثر خراباً بوجود القوة الإيرانية في سوريا، بعد أن باع بشار الأسد كل السيادة الوطنية للإيرانيين والروس بثمن بخس، كان ومايزال يتوافق مع دوره الوظيفي المتجدد بهذه المرحلة.
المصدر: أورينت نت