بداية نقول: إنَّ التَّنقُّل بين الأحضان الدافئة هو من سمات بنات اللَّيل، وهذا أمر لا ينكره أحد؛ والانتقال من أقصى اليمين إلى أقصى الشِّمال هو من شيم كثير من ساسة الغرف المعتمة، وهذا أيضًا لا يختلف عليه اثنان. فهل يمكن أن نستنتج من هذا أن المنحرفات وبعض السّاسة إخوة في السُّلوك والعتمة؟ بالمنطق الفلسفي هو كذلك، وبالمفهوم الدلالي جائز، وبناء على الفعل الظّاهر هو بيِّن بلا لبس. لكن، و”لكن” هذه لها ما بعدها، ألا يمكن أن نقع على مبرِّر -من أيِّ نوع كان- للسُّلوك “المظلم” هذا؟ طبعًا يوجد، بل ويمكن اعتباره “كلمة السِّر” في هذا السِّياق المعوج.
وللوقوف على الكلمة، تحملنا الإشارة إلى التّاريخ لنستعرض في متحفه لوحتين، تعود بنا إحداهما إلى تلك الحقبة السَّوداء من العصر العبّاسي أيّام الزَّحف المغولي الكاسح للمنطقة. وسأعرض لنقطة هامّة للغاية تجعلنا نتلمَّس ملامح كلمة السِّر تلك من حينها. فمع توارد أنباء الاكتساح المرعب لجيوش المغول، سارع سلاطين الممالك المستقلة فعلًا عن الدَّولة العباسية، والملحقة بها اسمًا، إلى تقديم فروض الطاعة والولاء للغازي المرعب طمعًا في الحفاظ على عروشهم. وقد وصل الأمر بأحدهم حدَّ رسم صورته على نعل أهداه إلى زعيم المغول، وكأنَّه رضي لنفسه أن تكون مداسًا ويبقى على عرشه. يمكن أن يعد هذا أحد أحط أشكال السلوك في السَّياقات المعوجَّة الَّتي حدَّثتنا عنها تلك الحقبة من التّاريخ “الملوَّن”.
ولا يختلف الأمر كثيرًا عن الوضع في عصر الممالك والإمارات في الأندلس قبيل غروب شمسها. فاللَّوحة الثّانية تعرض لنا جريرة التَّناحر الَّذي قام بين أمرائها، وبروز العدو الأقوى القادم من الشَّمال. فمع تسارع الأمراء إلى الاعتراف بهذا العدو مجيرًا وملاذًا وصاحب فضل، انتهى بهم الحال إلى ما نعلم. لقد رضوا أن يكونوا مداسًا له حتّى ارتمت عروشهم تحت قدميه. وهذا بدوره لا يختلف عن شكل السُّلوك المنحط الَّذي شهدته السّياقات المعوجّة في تاريخنا.
وبعد، ألن ننتهي من هذا الاعوجاج؟ لا، إذ يبدو أنَّ القادم “أعوج” من ذي قبل، إن صحّت صيغة المبالغة هنا. نحن نعيش ونشهد الجزء الأحدث من عصر الدُّول والإمارات، بل إنَّنا من ضحايا سلوكات التَّهافت واعوجاج السِّياقات. ما نشهد من تهافت على “المصالحة” مع إيران وربائبها في المنطقة لا يشذُّ كثيرًا عن اللَّوحتين المظلمتين اللَّتين أشرنا إليهما آنفًا. لكن السؤال الكبير هنا: هل تعد إيران مرعبة قدر المغول في زمانهم، واتحاد قشتالة وليون في عصرهما؟ أكيد لا، لكنَّها من أيّام الشّاه تلعب دور الحارس/الكلب في المنطقة، ولن يشذَّ ربائبها عن مقولة “كلب الوزير وزير أيضًا”، فهي تصلح لهذا السِّياق.
نصيحة بسيطة أطلقها الرئيس الصيني أن صفِّروا مشاكلكم لتصبح منطقتكم أهم من الاتحاد الأوروبي، فاندفع الجميع إلى الهرولة باتِّجاه الانتقال بشكله السِّياسي الَّذي أشرنا إليه بداية عبر التَّقارب مع إيران “فقط” وأتباعها في اليمن وسوريّة والعراق وكل بلد مبتلى بهم، ليلي ذلك التَّنقُّل بجوهره العاهر الَّذي عبَّر عنه عاملها بقوله: يمكن أن ينتقل الإنسان (النظام) من حضن لآخر، لكنه لا يغيّر انتماءه (مرجعيّته).
بمعزل عن الفلسفة الأخيرة المعتادة والمتكرِّرة، نصل إلى نتيجة مفادها أنَّنا لم نتعلَّم ولن نتعلَّم، لأنَّنا، وهنا مربط الفرس، نتخبَّط في ظلمتي النَّفس والانبطاحات. لم نتعلَّم من دروس التّاريخ، ولن نتعلَّم من دروس الحاضر، فكيف لنا أن نبني مستقبلًا بلا إدراك معرفيّ دقيق الدَّلالة للتَّوجُّهات ومن تبنّاها والمقصد من ذلك، ونحن على ما نحن عليه من جهل وجهالة، وطيش ومراهقة، وظلمة وظلامة؟ منذ تلك العصور وحتّى الآن تاهت منّا كلمة السِّر، وأضعنا المفتاح الَّذي يفتح أمامنا كلَّ مغلق: “الشَّرف”.
لكن إذا كان الإبقاء على الوضع الرّاهن مصلحة عليا للحفاظ على المناصب والعروش، فتلك والله داهية الدّواهي. درء المفاسد لا يكون باحتواء المرتد المفسد، بل بالضَّرب على يديه حتّى يرعوي؛ وتصفير المشاكل لا يعني التَّنازل والتَّغاضي وعفا اللّه عن “الدَّم” الَّذي سُفِك، بل إحقاق الحق ورد المظالم؛ كما أنَّ بناء المستقبل يقوم على الالتزام بمبدأ الشَّرف: شرف الكلمة وعهد الرِّجال، ولا يعتمد سياسة التَّنقُّل بين الأحضان.
نختتم فنقول: يحتاج الشَّرف إلى قلب واعٍ ورجولة حقّة، وكلَّما كان إدراك المرء أكبر لمعنى الرُّجولة والشَّرف ووعيه بمجريات الأحداث أعظم، كانت بصيرته أعمق وأشمل. والظّاهر أنَّنا سنبقى والوعي ضدّين لا يلتقيان، وما علينا إلّا انتظار ما سيتولَّد عن “سياسة نقِّل فؤادك” من تداعيات، وأين “سيستقر” بالقُوّاد المقام.
المصدر:اشراق