حينما تداعت الدول الغربية الإستعمارية فعقدت مؤتمرًا داخليًا في أوائل القرن العشرين للبحث في مستقبل البلاد العربية عقب سقوط دولة الخلافة العثمانية – وهو السقوط المتوقع والتي كانت تعد له وتسعى إليه تلك الدول الأوروبية المجتمعة – أصدرت ما يعرف بتقرير كامبل بانرمان وخلاصته أن الخطر الأكبر على الوجود الغربي ومصالح الغرب ( الاستعماري ) يتمثل في قيام دولة عربية واحدة تمثل كل العرب وتدير شؤونهم وحياتهم وتصنع مستقبلهم على اساس من وحدة المصير الذي يجمعهم جميعا في خندق واحد..ومما جاء في ذلك التقرير : تتوفر لهذه البلاد من العوامل المشتركة ما يجعل منها لو استقلت عن الدولة العثمانية وبقيت موحدة ؛ خطرا كبيرا يهدد وجود ومصالح القوى الغربية ليس فقط في المنطقة ذاتها بل في كل العالم الاستراتيجي أي في آسيا وأفريقيا وحتى داخل أوروبا..تتوفر لها من وحدة اللغة والثقافة والتاريخ والجغرافيا والموقع الاستراتيجي الذي يجعلها ذات مصير واحد ومستقبل واعد واحد ..وهذا ما يفرض على” دول الحضارة الغربية ” ؛ كما اسمت ذاتها ؛ العمل معا للحيلولة دون قيام دولة عربية واحدة في بقعة تمثل قلب العالم وتسيطر على أهم الممرات البحرية والمضائق والبحار التي تشكل عقدة مواصلات العالم الإستراتيجية..
وقد رأى المؤتمرون أنه للحيلولة دون قيام مثل هذه الدولة العربية الواحدة فإن أفضل وسيلة تتمثل في : ” إقامة جسم بشري غريب على المنطقة وسكانها وثقافتها ومعاد لها ولهويتها يفصل بين المشرق العربي والمغرب العربي ويشكل عائقا أمام تواصل وتفاعل أجزائها ويمنع وحدتها ويكون قاعدة للمصالح الغربية وأداة تلهب ظهر العرب وتخرب أية محاولة لنهضتهم وتقدمهم وتطورهم التنموي المستقبلي..”
وعلى هذا الأساس وإنطلاقا من هذا التصور الغربي الاستراتيجي عملت تلك الدول الغربية على إقامة وتأسيس دولة الكيان الصهيوني في فلسطين لتلعب هذا الدور الإستعماري المنشود…وللتأكيد فهو يتمثل في منع وحدة العرب وتخريب تقدمهم ونهضتهم لصالح إبقائهم تحت سيطرة تلك الدول الأوروبية تتحكم بها وبمواردها وبمواقعها وتقودها إلى حيث تريد .. كانت بريطانيا تتزعم تلك السياسة الإستعمارية وفيها عقد مؤتمر كامبل بانرمان وبدأ التحضير لإقامة ذلك الحاجز البشري الغريب والمعادي لثقافة وهوية المنطقة العربية.. يذكر أن عددا كبيرا من أساتذة التاريخ والمستشرقين وعلماء النفس والاجتماع وأساتذة الجامعات قد حضروا ذلك المؤتمر وشاركوا في وضع إستراتيجية متكاملة للدول الأوروبية في سعيها لمنع وحدة العرب وتقدمهم.. وكان بين التوصيات أو القرارات مجموعة من البنود المتعلقة بإثارة كل أنواع الفتن والحساسيات والتناقضات والتباعد النفسي ووضع حدود جغرافية تعيق تفاعل وتقارب ألبلاد العربية
فيما بينها في سعي لخلق فواصل جغرافية تتحول مع الزمن إلى فواصل مصلحية ونفسية واقتصادية وثقافية واجتماعية تجعل مسألة الوحدة فيما بينها غير قابلة للتحقيق بفعل العوامل الذاتية وليس فقط بفعل الرغبة الإستعمارية وسياساتها المتكاملة..
ووضعت الخطط التفصيلية التطبيقية لتنفيذ تلك السياسة الأوروبية الإستعمارية ..وكثير منها تم كشفه بفعل الممارسة وكثير منها قد يكون لا زال مخفيا أو غامضا أو مبهما بوسائل شتى وخدع كثيرة.. وهكذا تم التوافق على إختيار بريطانيا لإحتلال فلسطين وبدء تنفيذ المرسوم..وهذا ما تم بمجرد إنتهاء الحرب العالمية الثانية وخروج تركيا من المنطقة العربية..وكان سبق هذا الإحتلال صدور ما يعرف بوعد بلفور الذي ينص على موافقة بريطانية صريحة على مساعدة الحركة الصهيونية في إقامة ما يسمى ” وطن قومي لليهود في فلسطين ” ..ومنذ ذلك الحين تم تنظيم هجرات صهيونية بشرية متتالية ومتلاحقة إلى فلسطين التي كانت تحت الإحتلال العسكري البريطاني.. وبدأت عمليات تجميع وتسليح المستوردين من اليهود الصهاينة في مستعمرات خاصة في أنحاء متفرقة من فلسطين ؛ وطبعا برعاية وحماية قوات الإحتلال البريطانية..وحينما تصدى شعب فلسطين العربي – مدعوما بمتطوعين عرب – لتلك الظاهرة لما أدرك خطورتها وأخطارها الإستعمارية ؛ فقام بأكثر من ثورة وإنتفاضة ( ثورة ١٩٣٦ وغيرها ) ؛ كانت القوات البريطانية تتصدى له وتقمع ثوراته وكل مظاهر الاحتجاج التي كان يقوم بها.. وبلغ التآمر الغربي الإستعماري ذروته في حرب ١٩٤٨ والتي أسفرت عن تأسيس الكيان الصهيوني على جزء من أرض فلسطين العربية..وصدر قرار أممي بتقسيم فلسطين إلى دولتين وتخصيص دولة لليهود الصهاينة ؛ تم ذلك برعاية أوروبية تامة وبمشاركة إيجابية هذه المرة من الإتحاد السوفييتي الشيوعي وتأييده لقرار التقسيم وإعترافه الفوري بالكيان الغاصب المستحدث..
واستمرت دولة الكيان المصطنع الغاصب تمارس وظيفتها المرسومة لها والمطلوب منها تحت حماية ورعاية تامة من قوى النظام العالمي الإستعماري الفاسد ..وتركزت وسائل عملها في الجوانب التالية :
-محاربة كل محاولة تقدم أو تحرر عربية تحت أي غطاء كانت..
– محاربة كل تجربة بناء إقتصادي ولا سيما الصناعي منها في كل بلد عربي..
– تعقب وإغتيال العلماء العرب أينما كانوا وفي أي بلد عملوا حتى من كان منهم يعمل في بلاد غير عربية..
– إقتلاع اكبر عدد من أبناء الشعب الفلسطيني من أرضه التاريخية وإستبدالهم بيهود مستجلبين من أنحاء متفرقة من بلاد العالم..
– طمس وتشويه تاريخ فلسطين وهوية الأرض الفلسطينية العربية وسرقة كل خصائص الشعب الفلسطيني ونسبتها ألى الإسرائيلي المغتصب..
– تتبع وإغتيال كل شخصية فلسطينية متحررة من الوصاية الدولية والنفوذ الأجنبي وتمارس دورها الوطني في الدفاع عن فلسطين وهويتها التاريخية العربية وتقاوم المشروع الإستعماري الصهيوني وتفضح إدعاءاته وتكشف زيفها..أكانت شخصيات عسكرية أو سياسية أو حتى إعلامية وثقافية وفنية..
– إختراع تاريخ ” إسرائيلي ” يستند إلى مجموعة أكاذيب دينية يدعي ملكية أرض فلسطين بحجة وجود أنبياء بني إسرائيل قديما في فلسطين..مع العلم أن اليهود الصهاينة الذين أسسوا الحركة الصهيونية وبعدها دولة ” إسرائيل ” لا علاقة لهم ابدا ببني إسرائيل الوارد ذكرهم في القرآن الكريم..
– إغراء يهود العالم وتحريضهم للهجرة إلى فلسطين على أساس أن دولة ” إسرائيل ” التي يجب أن تمتد من النيل إلى الفرات هي دولة اليهود في العالم..
– إفتعال إعتداءات على اليهود العرب وغيرهم من يهود العالم الذين لم يقبلوا بداية الهجرة إلى فلسطين.. بغرض زرع الرعب في نفوسهم وتخويفهم من البقاء في بلادهم بزعم أن تلك الإعتداءات من صنع العرب أنفسهم الذين يكرهون اليهود ويستهدفون وجودهم وبالتالي لا حماية لحياة اليهود إلا باللجوء إلى ” أرض الميعاد ” المزعوم في فلسطين..
– محاربة أية حركة شعبية ذات توجه عربي توحيدي تحرري في أي بلد كانت..
– إقامة جسور علاقات ومصالح مع كل الأقليات ذات الطابع الديني ؛ مذهبي أو طائفي ؛ ومع الأقليات العرقية المتواجده في أية أرض عربية..
– إقامة شبكات من العملاء والجواسيس في البلاد العربية ليكونوا أدوات للتجسس والتخريب وتعطيل الطاقات وإستنزاف الجهود العربية..
– إنشاء تكتلات إعلامية ؛ محلية وعالمية ؛ ذات إمكانيات ضخمة موجهة للإنسان العربي لزعزعة ثقته بنفسه وبتاريخه وبتراثه وزرع الإحباط واليأس عنده من إمكانية تقدم العرب أو توحدهم..
– دعم أية دعوة إنفصالية شعوبية أو عرقية وتحريضها على الانفصال بحجة إمتلاك مقومات قومية مختلفة عن الهوية العربية الجامعة..
– تشويه العروبة كهوية توحيدية للمنطقة وتكفير الناس بها وتحميلها مسؤولية كل فوضى وكل ضعف وكل تراجع وكل هزيمة وكل تناحر وصولا إلى تخلي أبنائها عنها بمحضر إرادتهم..
في موازاة ذلك كانت الدول الاوروبية ذاتها تعمل في النطاق العربي لتكوين جماعات موالية لمشروعها وترتبط به مصلحيا ثم تدعيمها ومدها بأسباب النفوذ والسلطان والفعاليات الميدانية ثم تدريبها وتحضيرها لاستلام السلطة في البلاد العربية المجزأة وفقا للخارطة الإستعمارية وإستنادا إلى ما يعرف ب إتفاقية سايكس – بيكو … سايكس كان وزير خارجية بريطانيا وبيكون وزير خارجية فرنسا..
وفي الفترة الممتدة بين الحربين العالميتين الأولى والثانية كان إعداد جماعات محلية من أبناء البلاد لتسلم السلطة وفق الكيانات المجزأة ؛ يتم على أكمل وجه..وما أن إنتهت الحرب العالمية الثانية إلا وقد أصبحت تلك الجماعات مؤهلة لتسلم زمام الحكم في بلادها وفقا لما هو مرسوم ومطلوب منها..وهذا ما تم..وقد أعدت تظاهرات وأخرجت معارك وحروب لتبدو تلك الجماعات وكأنها تخوض معارك لتحرير بلادها من سلطة الإحتلال الأجنبي مقيمة عليها سلطتها الوطنية المستقلة..وهكذا نشأت سلطات محلية ” مستقلة ” وراحت تمارس دورها بفعالية ونجاح..
كان أول دور مرسوم لتلك السلطات المستجدة في أكثر من بلد عربي ؛ أن تخوض حربا عسكرية ضد العصابات الصهيونية التي شنت عدوانا على شعب فلسطين لتأسيس كيان صهيوني جديد..فقامت ما سمي حرب ١٩٤٨ العربية – الإسرائيلية والتي إنتهت بإنتصار عصابات صهيون وهزيمة الجيوش العربية وفيها جيش الإنقاذ التي تطوع فيه آلاف من الشباب العربي دفاعا عن فلسطين العربية..يكفي أن نعرف أن الجنرال الإنجليزي غلوب باشا كان القائد العام لتلك الجيوش الرسمية العربية ومعها جيش الإنقاذ..وغلوب باشا كان القائد العام لجيش المملكة الأردنية التي أنشأها وأدارها الإحتلال البريطاني..
كان الدور المحلي للنظام الرسمي العربي مكملا للجهود المبذولة في الجانب الآخر وخلاصتها معا : تأسيس الكيان الصهيوني ورعايته ليتمكن من الاستقرار والبقاء والنجاح في مهماته المطلوبة منه إستعماريا وفي مقدمتها منع تحرر وتقدم ووحدة العرب وإدامة الهيمنة الإستعمارية عليهم..
وحينما حلت الولايات المتحدة في قيادة النظام الرأسمالي العالمي تولت مباشرة بكل إمكانياتها رعاية دولة الإسرائيلي التي أصبحت قاعدة متقدمة وذراعا طويلة فاعلة للأطماع الأمريكية في البلاد العربية ثم العالم الثالث وأفريقيا أيضا..
ولقد أدرك رعاة الكيان المصطنع صعوبة بقائه على قيد الحياة إلى ما لا نهاية..وهم يدركون بفعل معرفتهم بالتاريخ والحقائق الإجتماعية والثقافية والدينية إستحالة بقاء هذا الكيان ليصبح عضوا طبيعيا في نسيج المنطقة العربية الإجتماعي والأخلاقي والحضاري والثقافي..وهم يعلمون منذ البدايات أن الشعب العربي لا يمكن أن يتقبل إستمرأر وبقاء دولة الإسرائيلي على أرض فلسطين بديلا عن شعبها العربي..مهما تفرعنت قوة تلك الدولة ومهما تخاذل النظام الرسمي ومهما ضعف الوضع العربي ..ويدركون أيضا أنها لا تملك مقومات الاستقرار والاستمرار الحقيقية الفعلية لأسباب كثيرة..وأنها لا بد ستنهار بفعل ألعوامل الذاتية الداخلية وليس بفعل إنتصار عسكري ساحق يحققه العرب عليها…ولهذا فهم يعملون منذ زمن بعيد في خلق بدائل عن تلك الدويلة الغريبة ؛ بدائل تتمتع بفعالية اكبر في أداء المهمات المطلوبة..وتكلفة أقل وخسائر أقل أيضا…والأهم أن تكون بدائل من صلب التكوين الإجتماعي للمنطقة ونسيجه الإنساني الثقافي المتجانس…
وهذا ما يحصل حاليا في أكثر من موقع وأكثر من أرض عربية وفي مقدمتها أرض فلسطين موضوع الصراع وميدانه الأساسي..
– لماذا إذن لا بد أن ينهار ذلك الكيان المصطنع وبفعل أية عوامل داخلية تدخل في صلب تكوينه ؟
– وما هي البدائل الممكنة والمطروحة والأكثر قدرة على البقاء والاستمرار وتستطيع تنفيذ أهداف ومطالب المشروع الإستعماري في المنطقة العربية ؟ وعلى أية أسس قد تقوم ؟؟
المصدر: كل العرب