تشبه حالة سورية – الدولة والنظام في هذه البرهة من التاريخ، حالة مريض، بلغ درجة الموت السريري. كان هذا الرجل في حياته ثريًا يعيش في رغد وسعة، ورث ثروة طائلة لم يتعب في جنيها، فقامر بها، حتى خسر كل أرصدته وأمواله المنقولة وغير المنقولة. ثم استدان ورهن كل أصوله لدى الدائنين والمرابين، وحين شارف على الموت، تجمع هؤلاء حوله ليقتسموا بقايا أملاكه، ضمانًا لمستحقاتهم. بينما يتصارع أهله وذووه على فتات ما سيورثه لهم بعد تصفية التركة وسداد الديون!
هذه هي حال سورية التي آلت اليها على أيدي لصوص آل الأسد ومخلوف بعد خمسين سنة من الاستيلاء عليها بالقوة، وإدارتها بالإرهاب والبلطجة. فنهبوها بلا رحمة، وبددوا ثرواتها بلا شفقة، ونشروا الفساد في خلاياها بلا وازع، وسلموها لدائنين أشبه بالمرابين، مستعدين لنهش لحمها، وسلخ جلدها، ومص دمائها حتى آخر قطرة.
لقد بات بإمكاننا الجزم بأن الأسرة التي كانت منذ خمسين سنة مالكة، ستغدو لا محالة قريبًا هالكة. ولكن سورية التي كانت جوهرة الشرق للأسف لن تستعيد حريتها واستقلالها الذي ضحت أجيال متتالية في سبيله، بل ستبقى رهينة ومرهونة لعشرات السنين القادمة، بين القياصرة، والأكاسرة، والدول المجاورة.
ومن السهل اليوم القاء المسؤولية على عاتق النظام اللصوصي الارهابي ويتجاهل كل فرد، وكل مكون مسؤوليته، ويرمي على عاتق آل الأسد السابقين والحاليين كل المفاسد والجرائم، ويبرئ ساحته. إلا أن هذا المسلك المعوج سيكون غير منصف، وغير ذي جدوى. لنكون منصفين علينا أن نتذكر كيف كنا كشعب ومجتمع ونخب وأحزاب إلا ما رحم الله مصفقين ومطبلين للطغاة البغاة الجناة الذين لم ينجزوا في عصرهم سوى تدمير سورية، وطرد شعبها منها بالجملة والمفرق. علينا اليوم أن نسترجع المحنة التي مرت، وألا نتهرب من تحمل قسطنا من المسؤولية، لنستوعب الدروس ولا نكرر هذه الخطايا الكبرى لأنها كانت أساسًا لنظام متوحش، استغلها أحسن استغلال، ليتمكن ويمكن لعائلته، وطائفته، وزمرته الاوليغارشية.
كل من استخف بأثر وتأثير الانتهازية والنفاق والخيانة، واشترك في ممارسة طقوسها التي شرعها ونشرها كهنة هذا النظام، وكل من شارك في إفشاء الفساد والإفساد واستسلم لثقافة وشريعة (عبادة الفرد) ولم يقاومها، مسؤول وطنيًا وشرعيًا وقانونيًا وأخلاقيًا عن الانحطاط الذي ازدهر في نظام الحشاشين والنهابين والقرامطة الجدد. كل من شارك في التظاهرات المليونية، تأييدًا للطاغيتين الأب أو الابن، وانتسب لحزب العبث الاشتراكي لا يمكنه إعفاء نفسه، وتبرئتها منه، ومن هذا الانحطاط القروسطي الذي أعادنا له بوتيرة لا تختلف عن أشد عصور الظلام حلكة في تاريخنا، ولم تبلغه حتى الشعوب التي خضعت للاستعمار الأجنبي، بما فيه الاستعمار الصهيوني الاسرائيلي الاستيطاني. الكل مسؤول من مثقفينا اليساريين الذين قادهم فكرهم إلى الاصطفاف مع آل الأسد، إلى مشايخنا الذين خانوا الله وتناسوا قول الله تعالى (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة، واعلموا أن الله شديد العقاب – الأنفال 25)
لا نقول هذا لنخفف من مسؤولية العائلة /العصابة، بل لنبصر الجميع بما يسببه الولاء للطغاة الظالمين، ومجاراتهم في الفساد من آثار مدمرة ترتد على الجميع، وتترتب عليها نتائج قد تستمر عقودًا وقرونًا من الزمن، وتهلك الحرث والنسل.
إن شعوب العالم الحر لم تنتقل من الحكم المطلق إلى الحكم الديمقراطي إلا بثورات دموية جذرية، وضعت حدًا لحكم الكنيسة والعروش المستبدة، ومحاسبة الحكام على كل خطوة وكل فلس.
إن سورية بقضها وقضيضها مهددة اليوم بالزوال والتقسيم بين ثعالب وذئاب ووحوش العالم جراء ضعفنا جميعًا، وعجزنا وقصورنا حتى ونحن في العام العاشر من الثورة، لأن نخبنا السياسية والفكرية عجزت عن الاتحاد والتحالف والتعالي على حساسياتها وضغائنها ومصالحها الفئوية، كما عجزت المكونات الرئيسية في استلهام الثورة السورية الكبرى عام 1925 بعد قرن كامل، فظلت بل تعمقت الانقسامات بين المكونات ، وبقيت بعض الطوائف خارج صفوف الثورة، واختارت بعض المكونات الانفصال حلًا مغلفًا بمسميات الفيدرالية الكاذبة، وهي أسرع الطرق لتمزيق سورية، واختارت مكونات أخرى الاستقواء بالخارج، والاحتماء بالدول الكبرى، تكرارًا لعصور القناصل والحماية الأجنبية قبل قرن ونصف.
إن جميع السوريين نخبًا وأحزابًا وقوى سياسية ومجتمعية ستكون مسؤولة عن ضياع سورية ما لم تنهض وتسرع لبناء جبهة وطنية عريضة وتعمل بقوة وحكمة ووحدة لفرض إرادة الشعب السوري الموحد على المرابين الدوليين الكبار الذين شرعوا في تقرير مصير سورية والسوريين من وراء ظهورهم وبتغييب أي دور لهم وللعرب، والاستفراد بهم قطرًا بعد قطر، من العراق إلى سورية ومن اليمن إلى ليبيا.
أيها السوريون إن سورية تناديكم لتتحدوا، وأرواح أسلافكم تهيب بكم أن تتحدوا وتثوروا كما ثار أجدادكم في وجه فرنسا قبل قرن. أما إذا بقيتم على تفرقكم وتشرذمكم وتناحركم، فالكل سيخسر، وستؤول سورية إلى أعدائكم.
أيها السوريون عربًا وكردًا، سنة وعلويين ومسيحيين ودروزًا عودوا إلى تاريخكم قبل أن تفقدوا مستقبلكم. وتمسكوا بهويتكم الوطنية التي توحدكم فهي سلاحكم وسر قوتكم. ثوروا على نظام اللصوص والارهاب، وحرروا بلادكم من المستعمرين الجدد قياصرة وأكاسرة لكي لا تتحولوا هنودًا حمرًا ، وروهينجا في وطنكم.
الثورة الفرنسية اسقطت لويس السابع عشر واعدمته خلال ايام لكنها استمرت عشرون عاما ضمن عملية تغيير ثوري وارست قيما كثيرة رغم عودة فرنسا الى الدكتاتورية العسكرية على يد نابوليون الاول, مع الاسف ثورتنا جتى الان لم تسقط ملك ولم ترسي قيما جديدة ما معناه “لسه المشوار طويل”