بدأ شهر حزيران في تركيا مع عودة حذرة ومشروطة إلى الحياة الطبيعية بعد نحو شهرين ونصف من الحجر المنزلي وإجراءات الوقاية من عدوى وباء كورونا، على أن تستمر بعض التدابير القاسية.
واستبقت الحياة السياسية هذه العودة بزخم ملحوظ فشهدت مفرداتها نشاطاً قد يراه البعض مبالغاً فيه أو سابقاً لأوانه، بالنظر إلى أن موعد أقرب انتخابات سياسية هو العام 2023، أي بعد ثلاث سنوات. فالموسم الانتخابي هو ما يحرك، عادةً، ركود الحياة السياسية في تركيا، ما لم تقع أحداث استثنائية.
غير أن الوجع الاقتصادي الذي تفاقم أكثر مع التدابير الوقائية من الوباء، إضافة إلى التوقعات المتشائمة بشأن الأشهر المقبلة، تجعل جميع الفاعلين السياسيين، في السلطة والمعارضة معاً، في حالة من البحث الدؤوب عن خيارات بديلة من شأنها تصحيح المسار، ليس فقط في الاقتصاد بل أيضاً في الحياة السياسية التي فقدت الكثير بعد الانتقال إلى النظام الرئاسي ولم تستقر، بعد، على وضع مقبول وقابل للاستمرار. فمن جهة السلطة، لا يفوّت الرئيس أردوغان فرصةً واحدة إلا ويهاجم فيها أحزاب المعارضة ويتهمها شتى الاتهامات كما لو كانت هي المسؤولة عن جميع المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تعاني منها البلاد، وكذا يفعل حليفه دولت بهجلي، رئيس الحركة القومية، والصحافة الموالية التي تبرر جميع الإجراءات والسياسات الحكومية وتهاجم تصريحات أحزاب المعارضة التي لا تملك أدوات أخرى غير التصريحات.
وبدورها تنتقد أحزاب المعارضة السياسات والإجراءات الحكومية، مع التركيز على رئيس الجمهورية بوصفه يمسك بكامل قوة السلطة بعدما تم الانتقال إلى النظام الرئاسي. لكنها تعرف أن الانتقادات وحدها لا تنتج سياسة، بل من شأن الاقتصار عليها أن يقوي السلطة ويدفع بقاعدتها الاجتماعية إلى مزيد من الالتفاف حولها في جو الاستقطاب الاجتماعي ـ السياسي الذي من شأنه أن يفشل أي محاولة لتغيير الوضع القائم. لذلك تظهر محاولات للبحث عن بديل سياسي يمكنه أن يسعى إلى التغيير، ليس الآن بالطبع، بل حين يحين أوان الاستحقاقات الانتخابية بعد ثلاث سنوات. في هذا الإطار، يدور حديث عن مسعى لإقامة «تحالف يميني معارض» من الحزب الخيّر (القومي) برئاسة ميرال آكشنر، وحزب السعادة (الإسلامي) برئاسة تمل قرامولا أوغلو، وحزب الديمقراطية والوثبة (دواء) البراغماتي برئاسة وزير الاقتصاد السابق علي باباجان، وحزب المستقبل برئاسة رئيس الوزراء السابق أحمد داوود أوغلو، على أمل أن يستقطب جزءاً من القاعدة الاجتماعية للتحالف الحاكم (إسلامي محافظ ـ قومي متشدد). أما حزب المعارضة الرئيسي، حزب الشعب الجمهوري بقيادة كمال كلجدار أوغلو، فهو يستعد لإطلاق برنامج سياسي جديد أداة لتوحيد جبهة المعارضة في مواجهة السلطة، على غرار ما حدث بأشكال مختلفة في الانتخابات البرلمانية والرئاسية (2018) وفي الانتخابات البلدية (2019) فيما سمي بـ«تحالف الشعب» أو «الأمة» مع كل من الحزب الخير وحزب السعادة، واستبعاد حزب الشعوب الديمقراطي (الكردي).
وقد أطلق الحزب الكردي المذكور، بدوره، سياسته للمرحلة القادمة تحت شعار «معاً» داعياً إلى توحيد المعارضة الديمقراطية حول برنامج كثفه في تسعة بنود تتعلق بقضايا الحريات العامة والفصل بين السلطات بما في ذلك العودة إلى النظام البرلماني مع إدخال إصلاحات أكثر ديمقراطية عليه، وحل المسألة الكردية حلاً وطنياً توافقياً بعيداً عن العقلية الأمنية والاستئصالية المتبعة حالياً، والسعي إلى العدالة الاجتماعية والاهتمام بمشكلات الطبقات الاجتماعية المهمشة، وكذا فيما يتصل بحقوق فئات مهمشة كالنساء والشباب، وإرساء أسس سياسة خارجية تعمل على تعزيز السلم والتعاون الدولي بدلاً من تأجيج النزاعات المسلحة (…) إلى آخر ما هنالك من أهداف يمكن وصفها في مجموعها ببرنامج عمل ديمقراطي ـ اجتماعي يساري، أكثر من كونه برنامج عمل لحزب يمثل كرد تركيا بلغ عدد ناخبيه في آخر العمليات الانتخابية نحو 6 ملايين ناخب.
ينطلق المفكر مجاهد بيليجي من هذه النقطة ليقول إن السبب في فشل حزب الشعوب الديمقراطي في حل مشكلات تركيا هو تنكره لتمثيل قاعدته الاجتماعية الكردية. ففي رأيه أن هذا الحزب قد أثبت، في الانتخابات الأخيرة وبخاصة انتخابات رئاسة بلدية إسطنبول، أن له دوراً مفتاحياً لا غنى لأي قوة سياسية طامحة للسلطة عن التفاهم معه. وهذا ما يجعله في موقع الحزب المؤهل لحل مشكلات تركيا. فبدونه لا يمكن حتى لأوسع تحالف معارض أن يتفوق في الانتخابات على التحالف الحاكم. لكن مشكلة هذا الحزب، دائماً في رأي بيليجي، هي أنه يتصرف كتيار هامشي معارض لا طموح سلطوياً لديه، يطلق الشعارات ويتعرض للملاحقات. أي أنه يجيد لعب دور الضحية فقط ولا يعرف كيف يساهم في صياغة شكل ومضمون السلطة، على رغم أنه الحزب الثالث في البرلمان بعدد نوابه الستين، في حين تمكن الحزب الرابع (القومي المتشدد) من أن يكون شريكاً في السلطة من خارجها، بل أصبح هو المرجع السياسي للحزب الحاكم.
تعمل البروباغندا السلطوية بأقصى طاقتها على شيطنة حزب الشعوب بدعوى أنه امتداد لحزب العمال الكردستاني المصنف إرهابياً، وهو ما يشكل ابتزازاً لجميع أحزاب المعارضة وتحذيراً لها من أي تقارب معه، وينطبق هذا بشكل خاص على حزب الشعب الجمهوري الذي استفاد من دعم الناخبين الكرد في الانتخابات البلدية الأخيرة، وبخاصة في إسطنبول. إنها مفارقة غريبة حقاً: ممنوع على أحزاب المعارضة أي تعاون مع الحزب الكردي الممثل في البرلمان، في حين أرسلت السلطة شخصاً من طرفها إلى سجن إيمرالي ليعود من هناك برسالة من أوجالان المسجون بتهمة الإرهاب يدعو فيها الناخب الكردي إلى دعم مرشح الحكومة بصورة غير مباشرة، أي بالامتناع عن التصويت!
إلى ذلك، تدور في كواليس السياسة أخبار وشائعات كثيرة حول عمليات انفضاض عن الحزب الحاكم وانتقال إلى الحزبين الجديدين اللذين تأسسا على انشقاقات منه، حزب المستقبل وحزب الدواء. وتعزز استطلاعات الرأي الشهرية من قناعة تزداد اتساعاً حول تراجع شعبية الحزب الحاكم وحليفه القومي معاً بحيث أن مجموع ناخبي الحزبين قد لا يكفي لتأمين أغلبية 51 في المئة الضرورية لإعادة انتخاب الرئيس في 2023. وهذا مما يرفع من وتيرة القلق لدى السلطة ويدفعها إلى مزيد من التضييق على المعارضة باطراد.
المصدر: القدس العربي