يدفعني إلى إعادة نشر هذه المحاضرة التي أعددتها منذ 16 عاماً، مع إجراء بعض التعديلات لربط الماضي المنظور بحاضرنا المغاربي البائس، الذي تمزقه الصراعات بين قاطرتي المنطقة الجزائر والمغرب، حيث أني في هذه الأيام بتونس أتابع الانزيحات بين البلدين الشقيقين، التي لا تبشر بالخير للمنطقة وللعالم العربي.
بعد أكثر من ستة عقود الاستقلال الوطني لم تستطع المجموعة المغاربية أن تصبح فريقاً متجانساً، ليس فقط في مؤسسات العمل العربي المشترك وإنما أيضاً في علاقاتها مع شركائها الأوروبيين والأمريكيين. مع أنّ الاتحاد المغاربي أقيم، منذ سنة 1989، على أساس ” وحدة التطلعات والمصير ” وعلى خيار ” الأمن الجماعي “، وهو الأساس الذي تقوم عليه غالبية التجمعات الإقليمية.
وفي محاولتي مقاربة إشكاليات الصحراء الغربية وتداعياتها، يبدو لي أنّ الدول المغاربية تتعايش مع أزماتها، أكان ذلك باستمرار الحذر في مسار العلاقات المغربية – الجزائرية، أو بدرجة أكثر حذراً في التعاطي مع نزاع الصحراء الغربية. فلقد كان الربط، سلباً أو إيجاباً، بين تطور العلاقات المغربية – الجزائرية وتسوية نزاع الصحراء الغربية والعمل المغاربي المشترك، لا يحتاج جهد كبير لاكتشافه. فعلى مدى أكثر من 40 سنة عرقل النزاع أي تعاون فاعل بين البلدين، وجمد قاطرة الاتحاد المغاربي.
توصيف العلاقة الجزائرية – المغربية وأسباب نزاعهما
لقد ظلت العلاقة المغربية – الجزائرية، على الأقل طوال العقود الخمسة السابقة، شديدة التعقيد، وكثيرة الغموض. فالجوامع المشتركة بين البلدين قوية إلى حدِّ التلاحم، مع كل ما هو متحقق من عناصر للتعايش ومن مقوّمات للحوار المنتج. لكن، في المقابل، حجم الفروقات ليس أقل من حجم المشترك بين البلدين. فقد ظهرت هذه الفروقات، بشكل أوضح، في فترة بناء الدولة الوطنية وإعادة بلورة الهوية الوطنية وانتهاج استراتيجيات التدبير السياسي والاقتصادي والاختيارات الكبرى لتوجهات الدولتين، مما كان يؤشر إلى صعوبة التعايش بين البلدين، في ظل جو دولي كانت تتحكم فيه آليات صراع الحرب الباردة ذي القطبية الثنائية، وتعارض المصالح والخيارات والأهداف.
ليس الصراع المغربي – الجزائري ذا خلفية تاريخية فحسب، وإنما هو صراع ذو طابع مستقبلي، يقوم على فكرة ” تهميش الآخر ” والتحوّل إلى ناطق باسم المنطقة المغاربية في المنتديات الدولية. إذ تدور المعركة بين الطرفين حول ثلاث نقاط أساسية: أولاها، من سيخرج منتصراً في نزاع الصحراء الغربية. وثانيتها، من سيحظى بود واحترام الدول الكبرى. وثالثتها، من سينسج علاقات مع دول مرشحة لأن تكون فاعلة في الساحة الدولية مستقبلاً. ووسط هذه اللعبة الاستراتيجية يبقي الموقف من الصحراء هو المحدد.
وفي الواقع، لا يمكننا أن نفهم المشكل بصورة جيدة إلا في سياق الميراث الاستعماري، وسياق أخطاء معارك التحرير وإكراهاتها المعلنة والمسكوت عنها. فقد ساهمت خلافات الحدود، التي لعب فيها الاستعمار الفرنسي دوراً كبيراً، بحكم التصوّرات الاستعمارية التي ظلت فرنسا تنظر من خلالها إلى التراب الجزائري والتراب المغربي، في صنع الملامح الكبرى للأزمة.
إنّ سياسات القوى الدولية ترى في المنطقة خزاناً طاقوياً (الجزائر) وموقعاً استراتيجياً (المغرب)، فضلاً عن كونهما سوقاً للسلاح بامتياز، وإنّ قضية الصحراء كانت توجد في قلب صراع دولي باعتبار دورها في تعميق تبعية الدول المغاربية، وأنها أصبحت أداة لإشغالها وإبعادها عن المشرق العربي، خصوصا وأنّ المغرب والجزائر سبق أن عبّرا عن انشغالهما الكبير بالقضايا العربية، والأكثر دلالة على ذلك هو استمرار هذه الوضعية رغم انتهاء الحرب الباردة، فإطالة الأزمة في المنطقة، وإدامة مشكلة الصحراء، تعتبران آلية ناجعة لإطالة عمر المصالح الأجنبية في المنطقة خصوصاً والقارة الأفريقية عموماً.
فلا تزال الولايات المتحدة الأمريكية تفضل الاستفادة من نزاع الصحراء الغربية للحصول على أقصى ما يمكن من التنازلات من كل من المغرب والجزائر معاً، ففي علاقاتها بين الطرفين تحاول الموازنة في هذه العلاقات، فهي تعتبر المغرب صديقاً تقليدياً وحليفاً استراتيجياً، لكنها في الواقع لها مصالح اقتصادية مهمة مع الجزائر في ما يتعلق بمواردها الطاقوية (خاصة بعد الغزو الروسي لأوكرانيا). وتتجلى أهمية المنطقة بالنسبــــة لـ ” البنتاغون ” في كونه يقع في منطقة حساسة عسكرية للمخططات العسكرية الأمريكية، فهذه المنطقة تقع في البحر الأبيض المتوسط الذي يمر منه خمس التجارة الدولية ويبحر فيه باستمرار الأسطول السادس. أما وزارة الخارجية الأمريكية فترى فيها منطقة حيوية سياسياً، في محاولة لتحجيم دور الاتحاد الأوروبي الذي يمكن أن يهدد زعامة الولايات المتحدة مستقبلاً (ومؤخراً ازداد التنافس الدولي على أفريقيا/الصين وروسيا وأوروبا وأميركا).
وفي معطيات تاريخية أنّ فرنسا التي كانت ترغب في إقامة كيان في منطقة الصحراء الشرقية، وإسبانيا التي ظلت تحلم بكيان مماثل في الصحراء الغربية يدار من جزر لاس بالماس، لهما ما يكفي من مبررات للتعاطي مع القضية. وهكذا يعيد تباين المواقف الدولية، حول قضية الصحراء الغربية، ترسيم لعبة الدومينو القديمة.
التحوّلات الدولية والبحث عن حلول توافقية
بعد نهاية الحرب الباردة شهد العالم، بأجمعه، تحوّلات فارقة، فسقطت رؤى، وانبثقت بديلاتها، تراجعت استراتيجيات وظهرت أخرى، تشكلت علاقات دولية جديدة، تحكمت في نشأتها وتبلورها مصالح جديدة بديلاً عن تلك التقليدية، فراحت الوحدات الجغرافية في العالم تشهد تقسيماً جديداً للعمل، مما حدا بجزء غير يسير في العالم إلى إعادة تشكيل ذاته وبناء مستقبله تأسيساً على المعطيات الدولية الجديدة والمفاهيم المستحدثة للتعاطي مع الجغرافيا السياسية.
وفي المنطقة المغاربية أمامنا أسئلة جديدة ومتغيّرات جديدة، تتطلب تشخيصاً جديداً للأزمة الجزائرية – المغربية، وذلك لبلورة اقتراحات مناسبة للمعطيات الراهنة. فالدول المغاربية مطالبة بمزيد من مجابهة إشكال الإصلاح الديمقراطي، للتمكن من استيعاب ديناميات التحول الجارية في قلب مجتمعاتها، والوقوف في وجه رياح التحديات السياسية والاقتصادية المحلية والإقليمية، وهو الأمر الذي يستدعي الدفع بمشروع الاتحاد المغاربي خطوات إلى الأمام من أجل تعزيز آليات التعاون الإقليمي بما يخدم مصالح شعوب المنطقة (بدلاً من البحث عن منظمات إقليمية أخرى).
إنّ المفارقة الملفتة للانتباه أنّ الجزائر والمغرب يلتقيان تحت مظلة منظومة 5+5 بين الدول الشمالية والجنوبية للبحر المتوسط، إلا أنهما يعجزان عن اللقاء تحت سقف المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة المغاربية. ويبدو من الأفضل أن يوضع الأمنين السياسي والاقتصادي للمنطقة برمتها في مقدمة جدول الأعمال، عسى أن ينفع ذلك في تغيير نظرة الجارين إلى نفسيهما وإلى مجالهما الإقليمي.
لقد أصبح حل النزاع مطلباً أمريكياً وأوروبياً: فالولايات المتحدة الأمريكية، التي عززت حضورها في المنطقة، عبر مبادرات طالت البلدان المغاربية الخمسة، لا تخفي حرصها على إطفاء بؤرة التوتر المزمنة التي تعصف بالاستقرار والسلم في المنطقة، وتحول دون قيام التكتل الإقليمي المنشود، بما يسهّل استثماراتها الاقتصادية ومخططاتها الأمنية. كما أنّ المجموعة الأوروبية تتبنى الخيار نفسه، خصوصاً بعد بروز مؤشرات جادة على تحول نوعي إيجابي في العلاقات المغربية – الإسبانية.
لقد غدا حل نزاع الصحراء الغربية، الذي يشلُّ الأوضاع في المنطقة، مطلباً إقليمياً ودولياً لم يعد بالإمكان تأجيله لجملة اعتبارات عديدة. فمشروع الاتحاد المغاربي المتوقف مطلب شعبي، والاتحاد الأوروبي يتطلع إليه في سياق مقاربته المتوسطية، كما أنّ الإدارة الأمريكية تحث عليه في إطار مشروعها للشراكة المغاربية – الأمريكية. وهكذا، إنّ مختلف هذه المستجدات تسمح بتلمس بوادر توافق إقليمي ودولي حول صيغة حل يحظى بغطاء الشرعية الدولية.
سبل الحل التوافقي الممكن
لم يعد معقولاً ولا مقبولاً، ونحن نشاهد ما يجري في العالم، أن نواصل التعامل مع قضايانا التاريخية وإشكالاتنا السياسية بالطرق التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه اليوم. فهل يُعقل أن لا تقيم النخب السياسية المغاربية، خاصة في الجزائر والمغرب، اليوم تمييزاً بين شروط نشأة وتطور أزمة الصحراء الغربية في لحظات تشكلها، وبين مآلها الراهن في علاقاته بالمتغيّرات الجارية سواء في المغرب الكبير أو العالم العربي أو في العالم؟
إنّ نظرة مستقبلية وواقعية إلى مسار العلاقات الجزائرية – المغربية يمكن أن تجنّب البلدين معاً مخاطر الحساسيات المفرطة، في حال توجهت نحو الفرص المتاحة والتحديات الحقيقية.
والمطلوب في أي حل سياسي للنزاع أن يبدأ من إرساء قواعد بناء الثقة، ونتصور أنّ الديبلوماسية الشعبية، القائمة على تبادل الرأي بين مؤسسات المجتمع المدني في البلدين المغاربيين، قد تساهم في تكسير رتابة لغة التجافي المستندة إلى أطروحات لم يعد لها أي مبرر، حيث لا يمكن أن يجادل أحد في المصير المشترك لشعبين تحكمهما شروط تاريخية واجتماعية متشابهة، وتواجههما اليوم تحديات متماثلة، نقصد بذلك تحديات الاصلاح السياسي وتحديات التنمية المستدامة.
وفي السياق نفسه نتصور أنّ مواصلة العمل في مجال تفعيل مؤسسات الاتحاد المغاربي المعطلة، يمكن أن يساهم بدوره في بناء اقتراحات إضافية معززة لآلية التفكير في إيجاد مخرج متوافق عليه، ذلك أنّ بناء برامج تنموية في إطار الاتحاد سيساهم في إنشاء شركات ومؤسسات تدفع في اتجاه بناء اقتصاديات مغاربية مندمجة، وهو الأمر الذي تترتب عليه إمكانية وصول المنتجات الاقتصادية المغاربية والمنتجات المعدنية الجزائرية إلى موانئ المغرب في المحيط الأطلسي، فيصبح المستفيد من كل ما سبق هو مجتمعات المغرب الكبير.
إنّ حل النزاع متاح مغاربياً، عبر الوحدة أو التكامل الاقتصادي والشراكة المصيرية، بشرط توافر العقلانية والشفافية ومعايير العدالة والمساواة، خاصة وأنه لم يعد هناك مكان ولا فاعلية للشراذم والدويلات الصغيرة في زمن الوحدات السياسية الكبرى والتكتلات الاقتصادية.
ومن المفارقات في هذه القضية المعلقة، أنّ الطرفين لا يرحبان بأية جهود أو وساطات عربية لحلها، ولم يسبق أن أدرجت هذه القضية على جدول أعمال أية قمة عربية. أما بقية دول المجموعة المغاربية، فتبدو وكأنها تخشي التدخل في الخصام بين الدولتين الكبيرتين، خشية أن ينعكس ذلك على أوضاعها الداخلية واستقرارها الإقليمي. أي أنّ المشكلة تحولت إلى ما يشبه القنبلة النائمة، التي يخشى ذوو القربى الاقتراب منها مخافة أن تنفجر.
(*) – في الأصل ورقة قُدمت في إطار المؤتمر الواحد والعشرين لمنتدى الفكر المعاصر حول ” تكلفة اللامغرب ” بدعوة من ” مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات ” بالتعاون مع ” مؤسسة كونراد أديناور ” – تونس، في الفترة ما بين 11 و 13 كانون الثاني/يناير 2007.