بمعايير القوة التقليدية المعروفة، تعدّ إيران من القوى المتوسّطة، فهي تحتل المرتبة 18 على مستوى العالم من حيث المساحة، وتأتي في المرتبة 17 من حيث السكان. وفوق ذلك، تعدّ بلدا غنيا بثرواته، إذ تملك ثاني أكبر احتياط غاز في العالم بعد روسيا (17%) وثالث أكبر احتياط من النفط، بعد فنزويلا والسعودية (11%)، كما تستحوذ على مخزونات كبيرة من الليثيوم وغيره من معادن استراتيجية. لجهة كفاءة الموارد البشرية، تملك إيران واحدا من أكثر مجتمعات المنطقة تعليمياً، وطبقة وسطى واسعة، أخذت تتقلص في العقدين الأخيرين. وهناك طبعا إرث الحضارة الفارسية التي يرى فيها الإيرانيون روح الأمة، وتمثل بالنسبة لهم مصدر فخر واعتزاز. رغم ذلك كله، تواجه إيران صعوباتٍ كبرى، تنحدر بها إلى وضع استراتيجي أضعف كثيرا مما تسمح به إمكاناتها الفعلية. داخليا، تحدّ سياسات القمع من قدرات المجتمع الإيراني على المبادرة والإبداع وتدفع كثيرين إلى الهجرة. وتعد إيران، اذا استثنينا الدول التي تعاني من حروب وصراعات، أكثر دول المنطقة نزيفا للعقول.
ونتيجة أربعة عقود من الحصار، تملك إيران بنيةً تحتية متهالكة، وتعاني انقطاعًا عن أحدث التطورات العلمية والتكنولوجية في العالم، وجفافًا في السيولة المالية، وضعفًا في نسب الاستثمار الخارجي، وعدم اتّضاح الأفق في خصوص مستقبل النظام. أما خارجيا، فتعاني إيران من علاقات مضطربة مع جيرانها والعالم، وتقع تحت واحدٍ من أقسى أنظمة العقوبات المعروفة في التاريخ. ويمنعها ذلك كله من استثمار مقوّمات القوة التي تملكها، وبما ينعكس إيجابا على قوتها الاقتصادية ومكانتها الاستراتيجية. خلال الأعوام الخمسة الماضية، خسر الاقتصاد الإيراني، بحسب البنك الدولي، نحو نصف حجمه تقريبا وبات 40% من الشعب الإيراني يعيش تحت خط الفقر، نصفهم تقريبا يعيشون في أحياء من الصفيح.
ورغم مظاهر القوّة الخادعة التي تحاول إيهام خصومها بها، إلا أن قدرات إيران العسكرية التقليدية تعد قديمة ومحدودة؛ مقارنة بجيرانها. وباستثناء صفقة صواريخ إس – 300 التي تسلّمتها من روسيا بعد توقيع الاتفاق النووي في عام 2015، لم تحصل إيران على أي أسلحةٍ متقدّمة منذ سقوط الشاه في عام 1979؛ لأنها كانت تخضع لحظر استيراد السلاح بموجب قرار مجلس الأمن رقم 1929 لعام 2010. واستمر الحظر بفعل الضغط الأميركي، على الرغم من انتهاء مدّته في أكتوبر/ تشرين الأول 2020. لهذا السبب تحاول ايران الاستعاضة عن تراجع قدراتها العسكرية التقليدية بتطوير برنامجها النووي وبرنامجها الصاروخي وبرنامج الطائرات المسيرة. كما تحاول استخدام عوامل قوة غير تقليدية للتعويض عن جوانب ضعفها المختلفة، في مدّ نفوذها الخارجي ومواجهة خصومها. بيد أن الميزة النسبية الكبرى التي تخدم ايران وتمكّنها من تحقيق مصالحها وغاياتها في محيطها الجيوسياسي فتتمثل في هشاشة الدول والمجتمعات التي تستهدفها. والمتتبع لوضع إيران خلال العقود الأربعة الماضية لا بد أن يلحظ أن قوة إيران تتعاظم بمقدار ما تزداد هشاشة دول المحيط. فالنفوذ الإيراني أخذ يتعاظم في المنطقة انطلاقا من لبنان الذي كان يعد تجسيدا لضعف قوة الدولة في المنطقة، حيث يتمتّع زعماء الطوائف بكثير من النفوذ، ويتولون، بدل الدولة، تقديم الخدمات “لرعاياهم”، بما في ذلك خدمة الأمن والحماية، ويستقوون على بعضهم عند الحاجة بالخارج الذي يقيمون معه علاقاتٍ بمعزلٍ عن الدولة. وسمح هذا الوضع لإيران أن ترعى فصيلا طائفيا مسلحا صار يقوم، بعد تجريد بقية الطوائف من السلاح، مقام الدولة، ويتحكّم بكل قراراتها. تعاظم نفوذ إيران أكثر مع انهيار دولة بحجم العراق، حيث أدّى عجز النخب العراقية عن إعادة بناء الدولة على أسس وطنية، بعد تفكيك دولة “البعث” إلى تمكين إيران من فرض وصايتها على البلد من خلال نحو 70 مليشيا تأتمر بأمرها، وذلك على الرغم من أن غالبية الشيعة العراقيين (83% بحسب دراسة حديثة) يعتبرون أنفسهم عربا ويرفضون وصاية إيران على بلادهم. ستواجه سورية على الأرجح المصير نفسه، أي التحوّل إلى دولة فاشلة، تقيم فيها مليشيات أجنبية أو محلية تخدم الأجندة الايرانية، بعيدا عن أي سلطة مركزية، إذا عجز السوريون عن إطلاق حوار وطني مجتمعي، هدفه إنقاذ البلد، والدفع نحو بناء دولة لكل مواطنيها، ومستقلّة عن كل إرادة أجنبية.
المصدر: العربي الجديد