يفتح مؤتمر الباحثين السوريين الذي ينظمه مركز حرمون بالتعاون مع الجمعية السورية للعلوم الاجتماعية في الأيام المقبلة أبواب أسئلة عديدة، من مثل: ما هي شواغل الباحثين السوريين خارج سوريا ممن أخذوا خيار عدم السكوت على جرائم النظام؟ وما دور جو الحرية البحثية المفتوح في منحهم مجالات بحثية جديدة، دون قيود من السلطة؟ وهل يتابع أولئك الباحثون المستجدات البحثية العالمية منهجاً وموضوعات وطرائق مقاربة؟ وما علاقة الأجيال البحثية السورية المهاجرة بعضها ببعض؟ وما مصير الباحثين ممن هم في جيل الأربعينات والخمسينات والستينات ممن لجؤوا أو هاجروا؟ وهل تقوم الجمعية السورية للعلوم الاجتماعية بدورها المأمول في أن تكون رابطة جامعة ومحطة تواصل؟ وهل أفاد الباحثون السوريون من مظلة حرمون المعرفية والمالية والأكاديمية والتشجيعية وماذا ينتظرون منه؟ وما الآفاق التي تنتظر الباحثين السوريين؟ وهل أصبح لديهم معرفة كافية بكيفية الحصول على تمويل لمشاريعهم البحثية؟ وهل عملوا معاً كفرق بحثية وأنجزوا أبحاثاً مشتركة وآمنوا بروح عمل الفريق؟ وهل من “داتا” للباحثين السوريين وفقاً للتخصص: علوم سياسية- اجتماعية- فكرية – اقتصادية- أدبية- فنية- تاريخ وآثار؟ وهل من شواغل تجمع أولئك الباحثين، بعيداً عن فكرة الجذور والانتماء لسوريا، وهل هذه الفكرة بقيت العامل الرئيس للمشترك بينهم في ظل أجواء الانفتاح الإنساني والمعرفي؟
بعد مرور عقد من الزمان على بداية ثورة عام 2011 في سوريا، بات واضحاً أن الرحلة طويلة وأن المهام تتعقد وتتداخل أكثر وأكثر في كل جوانب الملف السوري، وأن الدور البحثي يتعاظم حضوره يوماً بعد يوم؛ ليس بهدف تحليل الواقع السوري أو البحث في تاريخ سوريا المعاصر أو إشكاليات بناء الدولة وتاريخ سوريا، بل كذلك مستقبل سوريا وفكرة إعادة الإعمار، وأيُّ دور ينتظر السوريين، في ضوء اللجوء والهجرة والنزوح والتغيرات الاجتماعية.
قراءة عناوين الأوراق البحثية الخاصة بالمؤتمر وجلساته والاطلاع على عدد منها، يكشف أن هناك جيلين من الباحثين السوريين خارج سوريا، باتوا ينشغلون بالقضايا البحثية والمعرفية: جيل الشباب ممن أكملوا الماجستير والدكتوراه في الجامعات الغربية من المبتعثين السابقين أو ممن لجؤوا واشتغلوا على أنفسهم وتجربتهم ودخلوا ميادين الجامعات العالمية وباتوا يشكلون صوتاً مهماً يستطيع توصيل رؤاه وأفكاره، وجيل أساتذة الجامعات ممن كانوا يعملون في سوريا ثم غادروها بعد الثورة، وهؤلاء ينقسمون إلى شريحتين: شريحة تعيش على أمجاد الماضي أو تنتظر سقوط النظام في سوريا لتعود إلى جامعاتها حيث شعرت بالضياع والتشتت، وشريحة تصنع قدرها البحثي بنفسها حيث لا يوجد لديها فرصة للعمل في الجامعات الأوروبية نتيجة تقدمهم بالعمر أو عدم مواكبة التطورات البحثية أو ضعف لغتهم الإنكليزية.
محاور المؤتمر تكشف أن القضايا التي تشغل الباحثين السوريين كثيرة، أهمها:
الكشف عن الجوانب المظلمة للنظام السوري وما فعله في المجتمع السوري والدولة السورية ومحاولة تحليلها.
تحولات المجتمع السوري عبر مرحلة الثورة ومستجداته ومآلاته، وتصورات عن مستقبل الدولة السورية.
العسكر والعسكرة والعنف في سوريا وجوانبهما المظلمة.
مرحلة ما بعد الصراع والعدالة الانتقالية ومواقف القانون الدولي
تحولات دور المرأة السورية والنسوية
الهوية السورية وتغير العوامل المؤثرة فيها وأثر العوامل الخارجية في الملف السوري عامة
أمام الباحثين السوريين اليوم فرصة لم تتح في تاريخ سوريا من قبل، وهي حرية تناول الموضوعات، وتوفر المراجع عبر منصات الإنترنت، ورسوخ التقاليد الأكاديمية في الجامعات الغربية التي تعلم فيها الباحثون الشباب، والجو العالمي العام المشجع لتناول القضايا السورية، التي تعدُّ مادة بحثية طازجة تستهوي مراكز البحث التي تريد التعرف إلى ديناميات المجتمع والشخصية والدولة السورية.
لا أحد يعلم ما هي الخطة المستقبلية للباحثين في ظل كون مدة عودة السوريين إلى سوريا بأجل مفتوح، وكذلك الأمر ينطبق على المراكز التي تحتضنهم، وما دروهم هم؟ وما خططهم البديلة إن أوقف الممول التمويل؟
هذا يقودنا للتساؤل عن الجهود التي قام بها السوريون من رجال أعمال وباحثين، وهل أسَّسوا منصات بحثية خاصة بهم؟ أو في طريقهم لتحقيق ذلك؟ أذكر أنني عايشتُ من خلال أصدقاء شيئاً من تفاصيل مراكز بحثية حاول تأسيسها كل من أورينت وتيار الغد، لكن كلا المشروعين توقفا؛ بعد أن وجد الممولان أن فرصة نجاح الثورة السورية قد خبا بريقها، وبالتالي لن تكون تلك المراكز أذرعاً لهما، فأعرضا عن الفكرة.
ومما يثير الأسئلة كذلك حين النظر في برنامج المؤتمر: لماذا لم يشارك باحثون من المركزين السوريين البحثيين المعروفين وهما مركز جسور ومركز عمران، وكذلك مرصد الشبكات السياسية والاقتصادية (الذي يشارك عدد من أعضائه)، ألا يوجد إمكانية للبحث عن المشتركات أو نوع من أنواع التعاون البحثي تحت إطار الجمعية السورية للعلوم الاجتماعية مثلاً، التي أعلنت أن باب المشاركة مفتوح لجميع المهتمين، هل من باحثين يمثلون مناطق سورية أخرى؟ وما مدى حضور الصوت الآخر المختلف بحثياً؟
أما السؤال عن لماذا لا يكون لهذه المراكز حضور لافت على الأرض السورية في القسم الذي يدار من جهات تقف ضد النظام السياسي القمعي؛ فيعود في جزء منه إلى افتقاد الأمان وجو الحرية في تلك المناطق، لكن الأمر يحتاج إلى إعادة نظر من المراكز، ومن الضروري أن تنجز دراسات على الأرض هناك عبر المعايشة واللقاء مع العينات بشكل مباشر.
لقاء السوريين الشخصي، بعيداً عن وحشة حياة العمل عن بعد و”الأونلاين”، مع بعضهم بعضاً اليوم، بعد سنوات على التشتت واللجوء والبعد وضمن ظرف سياسي لئيم على السوريين، فيه جوانب إيجابية كثيرة، فما بالك إنْ كان من سيلتقون هم من الباحثين الذين يُفْتَرَض أن يكون شاغلهم الرئيس المعرفة والرؤى الفكرية ورصد الظواهر وتحليلها ومعاينتها وقراءتها، بعيداً عن التجاذبات السياسية والأرض الرملية والإيديولوجيات المسبقة التي يمشي على هديها معظم السياسيين السوريين، بخاصة أن الدور المأمول من الباحثين اليوم، أو مستقبلاً سيكون كبيراً جداً، إذ ستحين لحظة تاريخية – وفقاً للمقايسة – يُطْلَبُ من الباحثين أن يقدموا أوراقهم ورؤاهم لتكون أحد مصادر اتخاذ القرار في سوريا المستقبل!
ينتظر الباحثون السوريون الكثير من مركز حرمون والجمعية السورية للعلوم الاجتماعية ويرغبون في تفعيل برامج الشراكات مع المراكز البحثية العالمية، وطرح مشاريع بحثية تتضمن مؤتمرات وسمينارات وورشات عمل وأوراقاً بحثية وإعداد أطروحات دكتوراه وماجستير ضمن المشروع البحثي، بخاصة في ضوء حاجة الجامعات الأجنبية ومراكز الأبحاث إلى مادة بحثية وعينات يمكن أن يقوم بها ويديرها على الأرض الباحثون السوريون الشباب الذين يستطيعون التواصل مع العينات البحثية.
يعوِّل المتابعون للشأن السوري على الفريق البحثي الذي يعمل في مركز حرمون والذاكرة السورية والجمعية السورية للعلوم الاجتماعية أو يتعاون معها ليشكل استراتيجية سورية بحثية متكاملة، ضمن رؤية واضحة، خاصة أنه قد اجتمعت في تلك الفرق: المعرفة الشابة الأكاديمية، والدوافع البحثية، والمتابعة العالمية، والتنوع، إضافة إلى خبرة الأساتذة.
قد يقول قائل: إنَّ كل جهة من تلك الجهات لها طريقة عملها أو أهدافها الخاصة أو مشروعها البحثي والفكري والمعرفي، حتى لو أقررنا بذلك، فلا مانع من تكاملها ومحاولة إنضاج رؤية متكاملة عبر اجتماعات عمل متتالية، بعيداً عن الموسمية، يتمّ نشرها وإعلانها للجمهور والبحث عن باحثين متعاونين لإنجازها، أو تكون جزءاً من حالة بحثية ديمقراطية، يمكن أن يتم عرضها لاحقاً على الباحثين المختصين لتطويرها.
أهمية المؤتمرات عامة ليست في أوراقها البحثية؛ فحسب، بل تكمن أهميتها الرئيسية كذلك في النقاشات والحوارات وتبادل المعرفة وما يمكن أن ينتج عنها إنسانياً وبحثياً وتحفيزياً. وهذا المؤتمر الذي سيعقد مطلع الأسبوع المقبل فرصة لبلورة مقترحات بحثية ومشاريع معرفية، كي لا تتكرر الجهود وتتداخل وتضيع، أو لا يكون لها بوصلة رئيسية عامة، لذلك لا بد من الإسراع بإنضاج استراتيجية بحثية سورية؛ ما دام التمويل متوفراً وما دام الباحثون مستعدين من جيل الشباب ومن جيل الأساتذة، والرؤية والعينات ومادة البحث موجودة كذلك. يبقى لدينا تعزيز إرادة العمل المشترك، ورصد تحولات المشهد السوري، وتجاوز العوامل الإدارية والبيرقراطية، وتعزيز الممكنات والنوافذ، وأن نؤمن بأهمية كل منا، وقدرتنا على الفعل، فالشعب الذي أنجز تلك الثورة المعَلِّمة سيكون لديه القدرة على إنجاز استراتيجية بحثية، يمكن تقسيم العمل عليها عبر مشاريع بحثية من خلال مُدد زمنية ملائمة.
هل سيفوّت الباحثون السوريون فرصة اجتماعهم عبر هذا المؤتمر المهم، ويتمّ تأجيل اقتراح استراتيجية سورية بحثية إلى مؤتمر بحثي مقبل أم ستشكل لجنة متابعة وتوصيات تعمل على تحقيق تلك الرؤية لتبقى بحالة انعقاد نشطة وتقدم مخرجاتها ضمن فترة زمنية محددة؟ وبعد ذلك يمكن البحث عن تمويل إضافي وآليات تنفيذية لتلك الاستراتيجية البحثية المأمولة.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا