لم تأتِ التحرّكات العربية أخيرا بشأن سورية من فراغ، بل كانت نتيجة منطقيّة لسياق الأحداث الدولية والإقليمية والداخلية السورية. ومهما ظنّ السوريون أو أهل دول الجوار أنّ هذه الأزمة باتت على الرفّ أو في أدراج الانتظار، يذكّرهم الواقع، بشكل مستمر، بخلاف ذلك. لقد ثبت أنّ موقع سورية الجيوسياسي من جهة، وتشابك الملفات الإقليمية والدولية من جهة ثانية، وارتباطات النظام السوري والخدمات التي برع في تقديمها على مدار عقود سابقة طويلة من جهة ثالثة، تجعل من الصعب تجاهل سورية وتركها في مستنقعها الراهن من دون التدخل فيه باتجاه إيجاد حلّ ما للصراع فيها وعليها.
شهد العقدُ الأخير تحوّلاتٍ جذرية على صعيد توازنات القوى الدولية، فالصعود الصيني المتسارع اقتصاديًا جرّ، بطبيعة الحال، تصاعدًا في أدوارها السياسية، وربّما لاحقًا الأمنية والعسكرية. كذلك كان لاستقرار حكم الأوليغارشية الروسية التي ورثت الدولة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي دورٌ واضح في إعادة التطلّع نحو المحيط البعيد الخارج تقليديًا عن حسابات الأمن القومي الروسي المباشر، فكان التدخل في سورية، بعد احتلال القرم، جزءًا من رؤية واسعة ترى فيها القيادة الروسية نفسها في مواجهةٍ مفتوحةٍ مع القوى الغربية في أكثر من قارّة، ولهذا رأينا تحرّكاتها في أميركا الجنوبية وأفريقيا. ولا تغيب عن المشهد بكل تأكيدٍ تلك الأحلافُ الاقتصادية الصاعدة، التي تشي بأنّ عصر القطب الواحد بدأ نهايتَه التي تتوافق مع طبيعة التاريخ البشري.
انعكست هذه التطوّرات الدولية على رؤية دول المنطقة بشكل مباشر، فلم يعد بالإمكان تجاهل آثار هبّة الشعوب، أو على الأقلّ فئاتٍ منها، في مواجهة نمطٍ ساد بتواتر مختلف، حسب كل دولة على حدة وظروفها الخاصة، منذ استقلالها عن الاستعمار، ولا القفز عن خلخلة البنى الاجتماعية فيها جرّاء هذا النمط السياسي المدعوم عسكريًا وأمنيًا، والذي بات له طابع اقتصادي يتميّز باستئثار فئات قليلة بالثروات، بينما تعاني باقي فئات مجتمعات هذه الدول باستمرار. ورغم التفاوت في حالات الاحتجاج الشعبي وأسبابها، بدا واضحًا أنّ زلزالها أصاب بقوّة شديدة دولًا كانت أنظمة الحكم فيها جمهورية، جاءت قياداتها من خلفيات عسكرية، بينما كان تأثيرها طفيفًا نوعًا ما على الدول التي كانت أنظمة الحكم فيها ملكيّة وراثية. هذا مؤشّرٌ واضحٌ على إدراك الشعوب تعارض فكرة الاستيلاء على الحكم بالانقلابات من جهة، وفكرة توريثها من جهة ثانية، مع أساسيات الشرعية التي بدأت تعرفها مع تطوّر الفكر السياسي والممارسة الديمقراطية الليبرالية في العالم.
قدحت هذه التغيرات كلها زناد التفكير بالمستقبل عند الفئات الحاكمة في المنطقة، فلم يعد من المنطقي ربط مصالح هذه الدول بمصالح الدول العظمى التي كانت في مرحلة سابقة الضامن الأكبر لاستقرارها واستمرارها في الحكم. لقد استقرّت أغلب أنظمة الحكم العائلية في المََلكيات العربية، وبات من الصعب الانتقال فيها إلى نمط جمهوري، وقد ساعدت الوفرة الاقتصادية عند أغلبها على تعزيز شرعية خاصّة نابعة من تقديم الدولة الخدمات مجانًا للمواطنين، فكانت الدول ذات الاقتصاد الريعي تُنفق على مواطنيها، وهذا بدأ يتغيّر بطبيعة الحال في بعضها، بعد أن استقرّت جزئيًا، وبعد أن شارفت على استكمال بناها المؤسّسية.
بعد حرب طويلة بين محاور مختلفة في المنطقة، يمكن القول إنّ العودة إلى سياسة تصفير المشكلات البينيّة، أو على الأقلّ إخماد الحرائق المشتعلة، أصبحت أكثر قبولًا ونفعًا. لقد أدرك زعماء الدول المحوريّة في المنطقة أنّ صراعهم لن يسفر عن غالبٍ أو مغلوب، لكنّه سيُبقي دولهم في أتون صراعٍ مستعرٍ لا يفيد بشيء، يل يعزز الخراب بدل التنمية والازدهار. وتكاد أعمار دول المنطقة الكبرى تتقارب، فتركيا والسعودية ومصر وإيران أصبحت على مشارف إتمام قرنٍ من عمرها أو اقتربت منه، وهذه الفترة كفيلةٌ بتراكم بيروقراطيّة مؤسسيّة معينة، بغضّ النظر عن طبيعة أنظمة الحكم فيها. يعني هذا من حيث الخلاصة نشوء فئاتٍ تفكّر بمنطق الدول الحديثة، أي الدول ذات السيادة، وهذا سيفرز، بشكل أو بآخر، أدوات جديدة للتعامل مع الواقع. ومن هنا، كانت القفزة باتجاه المصالحات السائدة الآن بين هذه المحاور نتيجة طبيعية، وليست أمرًا خارج السياق.
ماذا يعني هذا بالنسبة للسوريين، وأين يمكن أن يصل بهم الحال مع هذا الحراك العربي تجاه سورية، وهل سيكون في قدرة المحاور الإقليمية أن تصنع التغيير رغم تضارب المصالح بين الأقطاب الدولية؟ وهل سيكون الموقف الأميركي والأوروبي المواجه للصين وروسيا معطّلًا لهذا الحراك أم حياديًا؟ وهل سيأتي الحراكُ أُكُله مع القفز على ما دفع السوريون ثمنَه باهظًا من دماء وأموال وتغيير ديمغرافي وخراب مجتمعي؟ وهل تسمح بنية النظام السوري ذاتها لهذا الحراك بأن يثمر؟ وهل من السهل توقّع سلوك المحورين الإيراني والإسرائيلي؟ وما أدرانا أنّ هذا التوجّه استراتيجي عند جميع المحاور، وليس مؤقتًا يتعلّق بحسابات الانتخابات في تركيا أو تأجيل الانفجار السياسي في إسرائيل أو الوضع الداخلي في إيران؟ كلّ هذه الأسئلة بحاجة لأجوبة لا يقدّمها إلا الزمن. لكن ماذا على السوريين أن يفعلوا؟ وهل يكفي أن يراقبوا المشهد من بعيد، أم يمكنهم القيام بشيء ما؟
على مستوى القوى التي انحازت لمبدأ التغيير والانتقال السياسي في سورية، وعلى اختلاف مرجعياتها وأهدافها، يمكن القول إنّ الساحة شبه فارغة، ولأنّ السياسة لا تقبل الفراغ، لا بدّ من مقاربات جديدة في طرائق التفكير وآليات العمل. ولكن من أين يبدأ السوريون، هل من تشكيل بدائل للواجهة السياسية التي تصدّرت المشهد، وهذا بالمناسبة حراكٌ جارٍ منذ فترة يتمثّل بالدعوة إلى الحوار واللقاء التي بدأتها قوى سياسية مختلفة ومراكز بحثية وأفرادٌ مهتمون بالشأن العام، ويمكن تسميته بصحوة الضمير السوري التي لم تكتمل مظاهره بعد. أم يبدأون بإعلان ثورة جديدة على هذه الواجهة السياسية التي أثخنت في حلمهم كما أثخن النظام في جسدهم؟ وهل هناك قدرة على الثورة أيضًا بعد أن طحنت الحرب عظام السوريين جميعًا بمعارضيهم ومواليهم؟ ألم يفقد السوريون، من جميع الأطراف، حماستهم التي كانت واضحة بداية الثورة عام 2011؟ ألم يأت الزلزال الطبيعي على ما تبقّى من حلمهم هذا؟
ليس من مهمّة الكُتّاب تقديم إجابات عن الأسئلة السياسية، وتُقبل منهم عادة إثارة النقاشات التي من شأنها تقديم التصوّرات عما يمكن أن يحدُث. لكنّ الأسئلة لا تروي الظمأ، وهي قطبٌ يحتاج ضدّه، والإجاباتُ كما النصوصُ عزيزة، ونحن في زمنِ الحيرة والذهول، لا نجد أمامنا في تسارع الأحداث إلا أن نقرن العمل بالتفكير، فهل ننتقل إلى هذه الساحة قريبًا ما دمنا أمام استحقاقات هائلة، أم نبقى في حيّز الأحلام والأمنيات؟
المصدر: العربي الجديد