في الوقت الذي تتواصل فيه حركة دبلوماسية عربية نشطة باتجاه دمشق، أطلقت المتحدثة باسم الحكومة البريطانية تغريدة قالت فيها إن عائدات النظام السوري من الكبتاغون بلغت 57 مليار دولار، وهو ما يعادل ثلاثة أضعاف ما تنتجه مجموع الكارتيلات المكسيكية للاتجار بالمخدرات!
يبدو الرقم المذكور مهولاً بالمقاييس السورية على الأقل، إذا قارناه، على سبيل المثال بالناتج المحلي الإجمالي في سوريا للعام 2020 الذي بلغ أكثر من 11 ملياراً بقليل، أي أقل من خُمس الرقم الذي أشارت إليه المتحدثة البريطانية. في حين بلغت ميزانية حكومة الأسد للعام 2023 ما يعادل 5,3 مليار دولار أمريكي. قد يمكن التشكيك في رقم الكبتاغون أعلاه واعتباره نوعاً من المبالغة، لكنه يصبح قابلاً للتصديق إذا كان يتعلق بمجمل عائدات النظام من هذه المادة المخدرة على مدى السنوات السابقة، لا كمعدل سنوي كما فسره البعض.
على أي حال ارتفعت وتيرة الشكاوى من هذه التجارة في الأردن ودول الخليج وعلى مستوى العالم، بل إن الولايات المتحدة أصدرت قانوناً خاصاً بشأنه، نتجت عنه إلى الآن عقوبات اقتصادية على عدد من مسؤولي النظام وشخصيات لبنانية محسوبة على حزب الله، وقد تلي ذلك إجراءات أخرى في الفترة القادمة. الخلاصة أن موضوع اتجار النظام بالكبتاغون قد قفز إلى الواجهة في الأخبار المتعلقة بالنظام السوري، بعدما كانت تحتلها عناوين أخرى كالحرب الداخلية والانهيار الاقتصادي والالتحاق الذيلي بروسيا وإيران والسلاح الكيميائي، وفي فترات أقدم دعم الإرهاب. وذلك بصورة متزامنة مع محاولات دول عربية فتح قنوات مع النظام وصولاً إلى تطبيع العلاقات معه بدرجات متفاوتة بين دولة وأخرى. ويدور الحديث الآن عن إعادته إلى جامعة الدول العربية واحتمال دعوته إلى حضور القمة العربية في 19 أيار القادم. فهل هناك علاقة بين الكبتاغون والتطبيع؟
إذا عدنا إلى عدد من المحطات في علاقات النظام مع الدول الأخرى يمكننا تلمس أنها قامت على مبدأ الابتزاز. المثال الأقرب تاريخياً والأبرز هو صفقة السلاح الكيميائي. فبعدما ضرب منطقة الغوطة بغاز الخردل، في شهر آب 2013، بحصيلة مروعة من الضحايا، نحو 1500 قتيل وعدد كبير من الإصابات، أبرمت إدارة أوباما صفقة يتخلى النظام بموجبها عن مخزونه من السلاح الكيميائي مقابل تراجع واشنطن عن معاقبته كما سبق وتوعدت. أي عملياً مقابل استمراره في قمع الثورة الشعبية بجميع الأسلحة التقليدية التي بحوزته، بما في ذلك البراميل المتفجرة وأسلحة أخرى محرمة دولياً كالقنابل العنقودية وغيرها. وكانت النتيجة أن النظام استمر بعد ذلك في استخدام غاز السارين والكلور في عدد من الضربات لمناطق تسيطر عليها المعارضة في ذلك الحين، أبرزها هجوم نفذه طيران النظام على بلدة خان شيخون في نيسان 2017 أدى إلى مقتل مئة مدني بينهم أطفال. وتعرض النظام لعقاب محدود على تلك الجريمة من قبل إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب.
بالهجمات الكيميائية العديدة التي نفذها النظام بعد العام 2013، ثبت للعالم أنه لم يلتزم بتسليم كل مخزونه من هذا السلاح المحرم دولياً، لكن شيئاً لم يترتب على هذا الإخلال، وبمرور السنوات وتوالي هجماته بالسلاح الكيميائي تم عملياً «تطبيع» امتلاكه واستخدامه!
استغربنا جميعاً أن الهجوم على الغوطة الشرقية قد تم أثناء وجود لجنة من المراقبين الدوليين في دمشق في إطار مهمة السلام الأممية المعروفة بخطة كوفي أنان، وكأن النظام يجازف برأسه. لكن ما تلا ذلك من تهديد أمريكي ثم صفقة تسليم المخزون الكيميائي أكد أن للموضوع وجهاً آخر هو الابتزاز، ابتزاز المجتمع الدولي بهذا السلاح بهدف الحصول على إجازة ضمنية لاستخدام كافة أنواع السلاح الأخرى في قمع الثورة، وهو ما كان.
ومثل ذلك في عهد حافظ الأسد الذي استثمر في الإرهاب لابتزاز مماثل يتعلق بسكوت المجتمع الدولي عن استمرار احتلاله لبنان وتحكمه في التفاعلات السياسية فيه. فأثناء الحرب الأهلية في لبنان وما تلاها من حروب لاحقة نشطت ميليشيات مرتبطة بأجهزة مخابراته في اختطاف دبلوماسيين وصحافيين أوروبيين، فكانت وفود غربية تأتي إلى دمشق للتفاوض مع الأسد على إطلاق سراحهم. وفي مطلع الألفية الجديدة، بعدما انتقل الحكم من حافظ إلى نجله بشار الأسد، واحتلت القوات الأمريكية العراق في العام 2003، عاد النظام إلى لعب ورقة الإرهاب عن طريق الجهاديين من سوريا ودول عربية أخرى، لترسلهم إلى العراق حيث انضموا إلى حركة أبي مصعب الزرقاوي التي قامت بإنهاك القوات الأمريكية. كذلك قامت وفود من الكونغرس الأمريكي بزيارات إلى دمشق، العام الماضي، في محاولة لتأمين إطلاق سراح صحافيين أمريكيين معتقلين في أقبية المخابرات السورية.
وفي الصراع مع إسرائيل، طوال العقود الماضية، كان «الرد في الزمان والمكان المناسبين» الذي طالما توعد به النظام كلما تعرض لهجوم إسرائيلي في عمق الأراضي السورية، يأتي من خلال عمليات تقوم بها مجموعات مسلحة فلسطينية أو لبنانية. وكان الطرفان الإسرائيلي والأسدي يفهمان بعضهما بعضاً وبينهما نوع من التوافق الضمني على هذا الشكل من «قواعد الاشتباك».
تأتي اليوم «حرب الكبتاغون» في الإطار نفسه من سياسة الابتزاز، إلى جانب العوائد المالية المهولة التي يحققها النظام وميليشياته وهو بأمس الحاجة إليها لتأمين استمراره في الحكم. الفائدة الإضافية من هذا الابتزاز هي أن تتخلى الدول المستهدفة بحرب الكبتاغون عن مطالبها السابقة المتعلقة بشرط ابتعاده عن إيران مقابل التطبيع معه، لتنحصر مطالبها في وقف تدفق هذه المادة المخدرة.
يبدو، إلى الآن، أن هذا الابتزاز يعطي النتائج المطلوبة.
المصدر: القدس العربي