جاء إعلان الولايات المتحدة المفاجئ عن قرارها الانسحاب بعد ستة أشهر من اتفاقية “السماوات المفتوحة”، ليضيف بندا جديدا إلى بنود الخلافات الطويلة بين الولايات المتحدة وروسيا؛ فالاتفاقية التي عقدت عام 1992، وقضت بالسماح بالاستطلاع فوق أراضي الدول الموقعة عليها، للتأكد من التزامها باتفاقيات الحد من التسلح النووي، هي الثانية التي تنسحب منها الإدارة الأميركية الحالية؛ حيث سبق وانسحبت من معاهدة الحد من الأسلحة النووية المتوسطة المدى الموقعة عام 1987، ما أثار حفيظة الصين ودول الاتحاد الأوروبي التي لا يمتلك معظمها إمكانية الوصول إلى الأقمار الصناعية، كما هو حال الولايات المتحدة، لجمع بياناتٍ استخبارية عن روسيا، وحلف شمال الأطلسي (الناتو) الذي قرّر عقد اجتماع عاجل لبحث القرار الأميركي، لما للانسحاب من انعكاس سلبي على البيئة الأمنية والاستقرار الاستراتيجي.
تذرّعت الإدارة الأميركية بما قالت “إنه خرق روسي متكرّر لبنودها”، وتحدّثت عن استعدادها “للتفاوض مع روسيا والصين بشأن إطار جديد للحد من التسلح”، وفق مستشار الأمن القومي الأميركي، روبرت أوبراين، في إشارةٍ واضحةٍ إلى سعيها إلى إدخال الصين في الاتفاقيات، وتغيير طبيعتها الثنائية، أميركية روسية، التي سمحت للصين بتعزيز قدراتها العسكرية وزعزعة التوازن الاستراتيجي، من دون وجود إطار قانوني لمساءلتها. قال زميل اتحاد العلماء الأميركيين وأحد كبار محرري موقع ذي دبلومات الإلكتروني، أنكيت باندا: “إنه على الرغم من أن مائة في المائة من الانتهاكات التي وقعت بحق الاتفاقية جاءت من الجانب الروسي، أعتقد أن ثمانين في المائة من الأسباب التي دفعت الجانب الأميركي إلى الانسحاب منها مرتبطة بالصين”. ما رتب معادلة دقيقة وخطيرة بين الدول الثلاث الأقوى في العالم.
أدركت الولايات المتحدة حجم التحدّي الروسي والصيني، فتبنت لمواجهته ما سمّاه الزميل البارز في مركز العمل الوقائي في مجلس العلاقات الخارجية الأميركي، ميكا زينكو، “سياسة القوى العظمى” و”المنافسة الجيوسياسية”، مذكّرا بما ورد في “وثيقة الاستراتيجية الأميركية” أن “المنافسة الاستراتيجية بين الدول، وليس الإرهاب، هي الآن الشاغل الرئيسي للأمن القومي في الولايات المتحدة”. و”هذا يعني أن الصين وروسيا، اللتين اعتبرتهما الوثيقة عدوتي الولايات المتحدة، أصبحتا على رأس أولويات مخططي الدفاع، وليس تنظيمي داعش أو القاعدة أو الإرهابيين الموجّهين ذاتياً، والذين يقيمون في الولايات المتحدة أو خارجها”.
أدى التدافع الكبير بين الدول الثلاث إلى تحوّل في الاستراتيجية الأميركية، حيث برزت مهام أساسية وذات أولوية: احتواء كل من روسيا والصين، حيث استدعت المهمة الأولى لاحتواء روسيا، التركيز على سهل شمال أوروبا والبحريْن الأسود والبلطيق، مع دورٍ رئيسٍ لبولندا في الشمال ورومانيا في الجنوب. واستدعت الثانية، احتواء الصين، تشكيل تحالف يمتد من اليابان إلى إندونيسيا وسنغافورة، مرورا بكوريا الجنوبية والفيليبين وفيتنام وكمبوديا. هذا كله مع إطلاق موجة جديدة من سباق تسلح مكثف معهما؛ بهدف تعزيز قوة الردع، واستنزاف قدرات الخصوم، بالإضافة إلى الاهتمام بالقوى الوسطى الرئيسية في غرب المحيط الهادئ والحدود الأوراسية، والعمل على إقناع كوريا الجنوبية واليابان والفيليبين وفيتنام باستضافة صواريخها الأرضية متوسطة المدى.
أعطت الولايات المتحدة مواجهة التحدّي الصيني أولوية قصوى، لاعتبارين رئيسين: أول باعتبارها تهديدا داهما وخطيرا، وثانٍ لأهمية الشرق الأقصى الاستراتيجية والاقتصادية. وقد زاد في أهمية المنطقة، وخطورتها كذلك، تحرّك الصين عسكريا للعب دور سياسي يتناسب مع حجمها الاقتصادي (الاقتصاد الثاني عالميا بناتج قومي يقدر بنحو 14 تريليون دولار)، فوضعت “إعادة التوازن في آسيا والهادئ” على رأس سلّم أولوياتها لوقف تمدّد الصين واحتوائه، قبل أن يكسر التوازن القائم في الإقليم عبر فرض تصوراته وخياراته على دول الجوار (اليابان، كوريا الجنوبية، الفيليبين، إندونيسيا، أستراليا) التي ترتبط بعلاقات تحالفٍ معها، حيث بدأت الصين ببسط سيطرتها على جزرٍ في بحر الصين الجنوبي متنازع عليها مع دولٍ في الإقليم (الفيليبين وفيتنام وماليزيا وبروناي وتايوان)، وبناء جزر صناعية فوق صخور وجزر مرجانية وشعاب غارقة، يتسع حجم بعضها لمطارات ومنشآت عسكرية، نشرت على إحداها مدفعية ثقيلة ومنظومات صواريخ مضادّة للطائرات، فضلا عن مدّها حدود مياهها الإقليمية ومجالها الجوي وتعزيز قدراتها البحرية ونشر صواريخها متوسطة المدى في عمق أراضيها، ما جعلها بعيدة عن الصواريخ الأميركية البحرية والجوية من طراز كروز المجنّحة، في إطار استراتيجية منع وصول. هذا بالإضافة إلى احتكاكها مع اليابان بشأن جزر متنازع عليها في بحر الصين الشرقي، ودعم كوريا الشمالية في مواجهة كوريا الجنوبية لمنع انهيارها وابتلاعها من الأخيرة، فتصبح القوات الأميركية على ضفة نهر يالو، ورفع موازنتها العسكرية إلى 141 مليار دولار، وبدئها تطوير ترسانتها العسكرية، حيث برز “ثالوث استراتيجي” جديد من الأسلحة: الطائرات المتسللة من دون طيار، وصواريخ كروز التي تفوق سرعتها سرعة الصوت، وقوات خاصة تستخدم الطائرات العمودية المتطوّرة والقوارب الصغيرة فائقة السرعة. ما استدعى ردّا أميركيا بإعادة تأهيل القواعد العسكرية في الفيليبين واليابان وهاواي، وإرسال تعزيزاتٍ بحريةٍ وجويةٍ إلى قواتها في الإقليم، والمباشرة بدورياتٍ بحريةٍ وجويةٍ خاصة في محيط الجزر الصناعية، وتعزيز القدرات العسكرية لحلفائها فيه، من أجل طمأنتهم والمحافظة على المصالح الأميركية هناك.
وقد أثار قلق القادة الصينيين إسهاب وسائل الإعلام الغربية بالحديث عن خطّةٍ مدروسة وضعتها الإدارة الأميركية للتفريق بين بكين وموسكو في مقابل التقارب بين الأميركيين والروس، ما دفع وزارة الدفاع الصينية إلى تسريب صور ملتقطة لعمليات نقل صواريخ بالستية صينية نووية من طراز “دونغ فينغ ــ 41” إلى مقاطعة هيلونغيانغ في أقصى الشمال الشرقي من الصين، قرب الحدود الروسية، وهي نقطة استراتيجية، يضمن من خلالها الجيش الصيني في حال حصول أي حرب، أن يتمكّن بصواريخه العابرة للقارات (يصل مداها إلى 15 ألف كيلومتر)، من ضرب واشنطن وموسكو على السواء. كما انتشرت صور ملتقطة عبر الستلايت للمقرّات العسكرية التي بنتها على الجزر الصناعية في بحر الصين الجنوبي. وفيها تبدو بوضوح منظومات صواريخ دفاعية مضادّة للطائرات، كما تجنبت الوصول إلى المياه المفتوحة بالمرور عبر الأراضي الروسية، في ضوء نظرتها إلى روسيا منافسا، وخصما محتملا، واختارت الوصول عبر إيران باعتبارها الطريق الأكثر أهمية للوصول إلى أسواق أوروبا والخليج، وركيزة جيواستراتيجية للوصول البرّي إلى الغرب الذي تعدّه الصين ضروريا لمواجهة استدارة واشنطن نحو الشرق، والتفوق البحري للولايات المتحدة.
ردّت روسيا على التحرّك الأميركي ضدها بالتملص من اتفاقياتٍ سابقة، كانت قد وقعتها مع الولايات المتحدة في مجال الحد من الترسانة العسكرية النووية، حيث علّقت العمل بثلاث اتفاقيات: الأولى خاصة بوقف استخدام البلوتونيوم في برامج عسكرية نووية، والثانية تتعلق بتحديد معدلات ونسب تحويل اليورانيوم وتخصيبه للحد من تطوير الترسانة النووية العسكرية، كان الطرفان الروسي والأميركي قد وقعاها عام 2010 وتنص على تحويل إنتاج ستة من المفاعلات الروسية من اليورانيوم العالي التخصيب إلى نوع منخفض التخصيب. الثالثة تتمحور حول التعاون في مجال الأبحاث النووية وتجهيز المختبرات الخاصة بها، وهي اتفاقية حديثة العهد نسبيا وقعت في 2013، وردّت عام 2016 على دعوة أطلسية إلى تبنّي خيار تنفيذ ضربة نووية استباقية، وذلك في نطاق صراع أوسع على الصعيد الدولي، هدفه غربيا منع العودة إلى حالة توازن دولي، كالتي كانت سائدة قبل انهيار الاتحاد السوفييتي، بإجراء تدريباتٍ على إخلاء أربعين مليون مدني في حال وقوع حرب نووية، ولمّحت إلى إعادة النظر في فرضية عدم حصول حرب نووية بسبب توازن الرعب، وفق تصريح وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، يوم 10 أكتوبر/ تشرين الأول 2018.
وقد زادت اللحظة السياسية الراهنة دقةً وخطورةً نية كل من الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية فتح ساحة إضافية للتنافس والصراع، شرق آسيا، حيث ستنطلق كل منهما، في ضوء انسحابهما من معاهدة الحدّ من الأسلحة النووية متوسطة المدى، لنشر صواريخها النووية المتوسطة ضد بعضهما، وضد الصين من ناحية الولايات المتحدة، وضد اليابان، حليفة الأخيرة التي ما زالت تمنحها قواعد عسكرية على أراضيها، من ناحية روسيا الاتحادية.
المصدر: العربي الجديد