حددت دول اجتماع باريس حول الوضع اللبناني عناوين عامة لحل الأزمة، من دون أن تدخل في التفاصيل المرتبطة باستحقاق الرئاسة. اتفقت على مبادئ تشكل خريطة طريق للحل بلا ضغوط مباشرة، وإن كان جرى التلويح بفرض عقوبات، وهي لا تعتبر أن لبنان أولوية مطلقة بين الملفات الإقليمية والدولية كما كانت الأمور تحدث في مراحل الأزمات الكبرى السابقة.
فالتدخل الدولي ليس على موقف واحد من الأزمة الراهنة، إضافة إلى ارتباط الوضع اللبناني بالمنطقة من بوابات عدة، من بينها الأزمة السورية والدور الإيراني المتمثل بـ”حزب الله” في لبنان، وصولاً إلى العراق واليمن، وملف هذا الأخير يفتح على لبنان في ظل سيطرة الحوثيين والدعم الذي تقدمه طهران لهم، وهو ما يجعل السعودية ترفع سقف مواقفها، وليست على استعداد لتقديم المساعدة للبنان ما دام هناك ما تسميه أطرافاً لبنانية تتدخل في الوضع اليمني لتغيير المعادلات القائمة.
الوقائع في لبنان تثبت أن البلد دخل في مرحلة الفوضى ويقترب من الانفجار، إذ لم يعد أي طرف داخلي قادراً على إطلاق مبادرات جامعة، في ظل الانهيار والتفلت الذي بدأ يأخذ أبعاداً خطيرة، وبات الجميع يراهن على مرجعيته الخارجية لإحداث خرق يعدل موازين القوى القائمة والذي لا يمكن أن يحصل عسكرياً. وما لم يحدث خرق على مسار الاستحقاقات والتسوية، فإن البلد سيتجه إلى الارتطام الكبير أو صدمة يمكن أن تكون لها ارتدادات إقليمية. والمؤشر واضح على ما أظهره كلام الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصر الله، الأخير، وتصعيده ضد الخارج وتحديداً ضد الولايات المتحدة، متهماً إياها بدفع البلد إلى الانهيار وتهديده بـ”الحرب والفوضى” في كل المنطقة. هذا يعني أنه من دون تدخل خارجي لا وجود لمقومات تسوية داخلية في ظل الصراع القائم، وهي تحتاج إلى هذه رافعة لم تتوافر شروطها بعد، على الرغم من حراك دول اجتماع باريس مع القوى السياسية والذي كشف عن عمق المأزق وعدم القدرة على إيجاد تقاطعات للتسوية.
لكن التدخل الدولي له شروطه، إذ يبدو أن الأمور مرتبطة أكثر بملفات أبعد، وهو أمر أشار إليه نصر الله برفضه فرض رئيس من الخارج على اللبنانيين عن طريق الضغوط والفوضى، لكنه في الوقت نفسه رسالة للتفاوض على الاستحقاق والتسوية بينه وبين الخارج، بالتوازي مع الوجهة الإيرانية لفتح قنوات تفاوض مع السعودية لاستعادة العلاقات الدبلوماسية وبحث الملف اليمني بحثاً رئيسياً، ما دام لبنان وسوريا بالنسبة لطهران خطاً أحمر لا يمكن التنازل عنه.
كان لافتاً في اجتماع باريس أن الاتفاق بين الدول المشاركة هو على عناوين عامة، فالولايات المتحدة لم تتبن اسم مرشح للرئاسة وكذلك السعودية، فيما فرنسا من خلال حركة اتصالاتها اللبنانية لم تسجل اعتراضاً على أي مرشح، فالمهم بالنسبة إليها إنجاز الاستحقاق الرئاسي والشروع في تشكيل حكومة والبدء بالإصلاحات. القاسم المشترك بين واشنطن والرياض هو الموقف من “حزب الله”، ولذا بدت السعودية أكثر وضوحاً في موقفها برفضها مرشح الممانعة لرئاسة الجمهورية. وهي كذلك على موقفها من الأزمة السورية، وإن كان وزير خارجيتها فيصل بن فرحان، أكد أخيراً أن هناك إجماعاً عربياً ودولياً على عدم ترك الوضع في سوريا على حاله. لكن السعودية لا تبدو متحمسة للانخراط أكثر في الوضع اللبناني، وهو موقف مستمر منذ انتخابات الرئاسة في 2016 التي جاءت بميشال عون المدعوم من “حزب الله” إلى قصر بعبدا. كما لم يعد في لبنان نقطة ارتكاز سعودية، بعد تشتت البيئة السنية وغياب مرجعية قادرة على المواجهة، وذلك على الرغم من التحركات التي يقوم بها السفير السعودي في بيروت وليد البخاري.
انطلاقاً من ذلك، تراهن قوى محور الممانعة بالعلاقة مع إيران على تنازلات تقدمها السعودية في الملف اللبناني، وعدم ممانعتها انتخاب رئيس من محور المقاومة، خصوصاً أن كلاماً نقل عن مسؤولين سعوديين يوحي بربط الملف اللبناني باليمني، إذ كان واضحاً ما نقله رئيس حكومة تصريف الأعمال في لبنان نجيب ميقاتي في وقت سابق عن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، بأن “هناك فريقاً في لبنان يتآمر على المملكة العربية السعودية، ولن نقدّم أي مساعدة للدولة اللبنانية ما دام “حزب الله” يتآمر علينا، ويقدّم مساعدات عسكرية لمن يقاتلنا في اليمن”. وبينما لدى السعودية شروط لعودة العلاقات مع النظام السوري ومن بينها علاقته بإيران، إلا أن الرياض لا تبدو مهتمة بتعزيز وجودها ودورها في لبنان، وليست في وارد تقديم تغطية لمحور الممانعة في ما يتعلق بالتسوية والرئاسة.
صحيح أن السعودية تريد حلاً في اليمن، لكنها ترى أن الحوثيين لم يعودوا بالقوة نفسها التي تأمنت لهم بالدعم الإيراني سابقاً، وهم عاجزون عن السيطرة على اليمن. لذا تبدو المراهنة لدى بعض الممانعين مجرد أوهام، إذ بقدر ما تسعى السعودية إلى حل يمني بقدر ما ترفض تقديم تنازلات سياسية في الملفين اللبناني والسوري، خصوصاً في مسألة التعاطي مع “حزب الله”، وذلك بإصرارها على تطبيق القرارات الدولية المتعلقة بلبنان وحصر السلاح بالمؤسسات الشرعية اللبنانية وضبط الحدود ووقف التهريب.
رهانات قوى الممانعة على تنازلات خارجية تنطلق من تصعيد “حزب الله” وتهديداته، وهي تذكر بموقفه من مفاوضات ترسيم الحدود البحرية، الذي انتظر قبل أن يرفع السقف بالتهديد بقصف كاريش وإطلاقه مسيّرات فوق الحقل النفطي، ثم تراجع ووافق على الاتفاق الذي جرى التوصل إليه بين لبنان وإسرائيل بوساطة أميركية، أي الذهاب إلى التصعيد الإقليمي لجني مكاسب داخلية في التفاوض، وأيضاً لتخفيف الضغوط عليه. لكن موافقته ووصفه الاتفاق بالتاريخي آنذاك لم يمنحه الثمن الذي كان يريده لبنانياً، على المستويين السياسي والاقتصادي، والأهم رهانه على غض النظر الأميركي عن ملفاته وعدم الممانعة في إيصال مرشح محسوب عليه إلى رئاسة الجمهورية وهو سليمان فرنجية. لكن الأمور سارت بعكس ذلك، حتى في الإطار الاقتصادي، فلم يصل الغاز المصري ولا الكهرباء الأردنية عبر سوريا، فيما بقي الفيتو قائماً ضد إيران.
ورغم التصعيد، فإن “حزب الله” غير قادر على تفجير حرب، خصوصاً على الحدود البحرية، إذ إن اتفاق الترسيم وضع ضمانات لا يمكن تجاوزها، أي تصعيد لا يحظى بتغطية داخلية ولا خارجية، إضافة إلى أنه يعلم أن الحرب قد تزيد من الفوضى ولا تؤدي إلى معالجة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية ولا تخفيف الضغط عما يسميه “بيئة المقاومة”، لذا يبدو التصعيد عبارة عن رسائل إلى الخارج لفرض وجهة معينة في الداخل، وللقول لدول اجتماع باريس إن الرئيس والتسوية يمران عبر “حزب الله” وبالتفاوض والاتفاق معه.
لكن ما يجري في لبنان يشير إلى أخطار كبرى على بنيته الداخلية، إذ إن الانهيار فتك بكل القطاعات، ويدفع إلى اصطفافات طائفية ومطالب بالفدرلة والتقسيم. الوضع اللبناني ينزلق أكثر إلى الفوضى ويتمدد نحو انفجارات أهلية لا تترك أي معالم للدولة، وكأن البلد وصل إلى المنعطف الأخير الذي يسبق الارتطام، وهي مرحلة قد تطول في انتظار تبلور وجهة دولية ضاغطة باتت السبيل الوحيد للخروج من المستنقع.
المصدر: النهار العربي