في خطابه عن حالة الأمة، لم يتحدث بوتين عن انتصاراته على الأرض، ولا عن تحذير الغرب له قبل غزوه أوكرانيا بشهور، بل آثر رسم لوحة فنتازية لعالمه العجائبي.
في تبرير متأخر للحرب، وبعد خسارة 200 ألف من شباب روسيا، لبس بوتين عباءة الضحية. وقدم قائمة طويلة بمظالمه ضد الغرب، بل اتهم الغرب ببدء الحرب! لكن، ورغم ذلك لم يفت بوتين تأكيد استمراره فيها. وبذلك يتجاهل تماماً حقيقة أن الحرب كانت خياراً لروسيا-بوتين، بينما كانت حتمية وجودية للأوكرانيين، الذين تبلورت هويتهم منذ المجاعة العقابية التي فرضها ستالين.
ثم، وكما فعل هتلر في أوروبا، وصدّام في الكويت والأسد في لبنان، سعى الى تكريس حق مزعوم بسيادة روسيا على امتداد محيطها، من أوكرانيا الى كازاخستان، زاعماً أن كل ناطق بلغته مغرم بأن ينصاع لحكمه. إنها الوصفة السوفياتية نفسها لقلب المفاهيم، بالتناقض مع أبسط أحكام القانون الدولي.
عكست وصفة بوتين حنينه الى يالطا جديدة للسيطرة على أكثر من ضعف سكان روسيا، ولإعادة تقسيم العالم لحسابه. فكذلك فعلت اتفاقات يالطا 1945 المشؤومة، التي سمحت بأربعة عقود من الإمبريالية السوفياتية، وبسحق شعوب شرق أوروبا بالدبابات. تلك هي الفانتازيا التي يحلم بوتين بها. وإذ يربط بوتين حدود غزوه بمدى الأسلحة الغربية، يقصد أن يقول إن حربه بلا حدود.
لكن كثيراً من الاستراتيجيين الغربيين يعتقدون أنه لم يتبقَّ لدى بوتين الكثير من الخيارات. وكما أشرنا سابقاً، لو استبعدنا احتمال الحماقة النووية التي لن تقدم لجيش بوتين أي ميزة استراتيجية على الأرض (لكنها تبقى بالطبع محتملة جداً)، ولو أخذنا في الاعتبار أنه لم يتبقَّ الكثير مما يمكن تدميره من منشآت استراتيجية مدنية مجدية، فكيف سيمضي بوتين في حربه؟
الخيار الوحيد المتبقي هو حرب استنزاف طويلة في قلب أوروبا. وكما فعلت روسيا في كل الحروب، سيستمر بالدفع بأرتال متتالية لشباب أقل تدريباً وكفاءة، إلى مذبحة الحرب.
كل ذلك انتظاراً ليتحقق واحد من هذه السيناريوات: أولها استنفاد طاقات أوكرانيا وانكسار التضامن الغربي، أو أنه يراهن على تبلور رؤيته الاستراتيجية لانقسام العالم، لعله يفرز موازين قوى بديلة لعلها تضم روسيا الى الصين ودول العالم الثالث. إنه يطمح لأن ينجح في ما لم يتمكن منه الاتحاد السوفياتي عبر منظمة الكوميكون البديلة للنظام المالي الغربي. ويتساءل الخبراء: هل هذا ممكن؟
لكن المغزى الأهم للخطاب، كان في الجزء الثاني، ليشغل 105 دقائق من أصل 150 دقيقة. ركز بوتين أولاً على السياسة الاجتماعية ودعم الفئات المحرومة والمنح المالية، وإعادة هيكلة الاقتصاد، والتركيز على الطلب المحلي والعمل مع دول أخرى لبناء أنظمة السداد المالية البديلة وزيادة الطلب المحلي، واستبدال إنتاج بديل بالتكنولوجيا الغربية والإنتاج الغربي.
ومرة أخرى يعد بوتين بما لم يتمكن السوفيات منه، وما كرره إبان الطفرة النفطية منذ 23 عاماً، فكيف ذلك؟ بخاصة أن بوتين يرفع شعار “كل شيء من أجل النصر”.
إذاً، لو سار كل شيء على ما يرام فيخلق عالم بوتين البديل، يمكن أن تنفتح الآفاق في نهاية الثلاثينات. فهل يخطط بوتين لذلك؟ يقال في علم الاستراتيجيا “لو انتظر نوح الطوفان حتى يبني سفينته، لغرق هو وقومه”.
ثم كانت الفنتازيا العجائبية في قمتها، في محاولته إيقاظ العصبية القومية الروسية عبر الشعور بالحصار والخطر، ونقل المعركة العقائدية نحو الجنس.
لقد اتهم الغرب بالسعي الى تدمير قيم الكنيسة وإشاعة المثلية في المجتمعات الشابة. وبحسب كلمته كانت تلك الحجة العقائدية الأساسية لحربه!
في حينه، وبهدف صد ذلك الغرب “العدواني المنحط”، أنتجت الشيوعية، زمن الحرب الباردة، ترسانة سياسية وعقائدية وأخلاقية وإعلامية هائلة لكسر النموذج الثقافي والفكري الغربي. فهل نجحت؟ وهل حقاً سيبني بوتين فانتازيا حربه ومشروعه البديل على “النضال ضد المثلية”.
يكفي، كي نعرف الجواب، أن نراقب ثقافة جيل شباب موسكو وسانت بطرسوبرغ، بل وفي دول المهجر الروسي الواسع، كي ندرك مقدار غرق هذا الجيل في الفانتازيا الغربية، وفي غربته المفرطة عن القيم المحافظة.
ثم، أنهى بوتين خطابه بما أراده أن يكون موقفاً قوياً ضد الولايات المتحدة بإعلانه تعليق العمل بمعاهدة “ستارت”. فلطالما أحب بوتين لعبة الروليت الروسية، وفي المقابل طالما أحب الأميركيون لعبة “الدجاج Chiken” على حافة الهاوية. فيا له من عالم خطير عابث.
فعلى وقع أصوات الإنذار ضد الغارات، وعلى بعد بضع مئات من الكيلومترات، ألقى بايدن من كييف خطاباً، يذكر بخطاب كينيدي 1963 من فوق جدار برلين حيث قال: “أنا برليني”. ثم ألقى بايدن خطابه من القلعة الملكية البولندية، للتعبير بأوضح ما يمكن عن استدامة الموقف الأميركي في قلب أوروبا، وموجهاً كلامه الى الشعب الروسي بأن “لا أحد يريد أن يحتل بلادكم وكل ما هنالك أن جيرانكم يريدون أن يعيشوا بسلام”.
وفي ميونيخ تحدثت كامالا هاريس بحزم عن “الجرائم ضد الإنسانية” التي ارتكبها الروس، مؤكدة أن المسؤولين “سيحاسبون”. أهمية هذا الكلام ليست في نبرته، بل في تعبير “الجرائم ضد الإنسانية” بدلاً من “الإبادة العرقية – Genocide” وهو تعبير استهلك وفقد معناه القانوني. تعبير “الجرائم ضد الإنسانية” تعبير قانوني دولي محدد ملزم، لم تستخدمه الولايات المتحدة بخفة قط. وبذلك تقطع هاريس الطريق على أي حاكم أميركي مقبل لإعادة تأهيل بوتين. وبدوره صرح السيناتور الجمهوري ماك كونيل، ليزيد على بايدن، بالمطالبة بتدريب فوري للطيارين الأوكرانيين على طائرات “F-16”.
ثم، ولعله الأهم، جاء تصريح الوزير بلينكن المذخر بعينات من أجهزة تجسس بالمنطاد، بعد لقائه نظيره الصيني. فلقد هدد بعقوبات شديدة على الصين في حال انخراطها مباشرة في الدعم العسكري لروسيا. يشير هذا الخطاب الى مستوى تدهور العلاقات بين البلدين حتى نقطة تقربنا من انقسام العالم. عندئذ تخطط الولايات المتحدة وأوروبا لعقوبات على القطاع المالي والنقدي والتجاري الصيني، لندخل مرحلة انشطار بلا رجعة.
نعم، يدخل العالم لحظة حرجة للغاية، تكمن حلقتها الرئيسية في بكين. فبعدما اختار بوتين الحرب على النظام العالمي الذي أسسه الغرب وليس المنافسة، يأتي دور الصين لتجيب عن سؤال الحرب أو المنافسة؟ وفي أي جانب من متراس بوتين ستقرر الوقوف؟ ليس الخيار هنا خيار مصالح اقتصادية، بل خيار الجيوستراتيجيا التي تعود لتصبح أس دوران العالم!
لا يتمتع التاريخ بميزة الحكمة، بل الحكمة ميزة للبشر، وأنا ما زلت أراهن على حكمة الصين، لكن يمكن لجنون الايديولوجيا والعظمة أن يفعل أكثر بكثير مما يمكن لإبليس.
المصدر: النهار العربي