في أحد مستشفيات شمال غربيّ سورية، لا تكلّ الطفلة هناء عن السؤال يومياً عن والديها وشقيقتها الصغرى، من دون أن تعلم أنها الناجية الوحيدة من عائلتها بعد الزلزال المدمر.
وسبّب الزلزال الذي ضرب في السادس من الشهر الحالي سورية، ومركزه تركيا المجاورة، مقتل نحو أربعين ألف شخص في البلدين، مخلفاً عدداً كبيراً من الأطفال الأيتام.
ويقول عبد الله، عمّ الطفلة هناء لوكالة “فرانس برس”: “تسأل يومياً عن والدها ووالدتها. حتى الآن لم نخبرها أنهم توفوا مع شقيقتها، التي قلنا لها إنها مريضة مثلها وتتلقى العلاج في جناح آخر”.
عاش الأطفال في منطقتنا مآس كثيرة بسبب القصف والتهجير من مكان الى آخر.. لم نشعر يوماً أنهم يكبرون بأمان كبقية أطفال العالم”
داخل المستشفى التابع للجمعية الطبية السورية الأميركية في بلدة معرة مصرين في شمال إدلب، تتمدّد هناء على سرير قرب حائط تزيّنه بالونات عيد الحب الملونة. ويبدو على وجنتها اليسرى آثار جرح لم يشف بعد وتورم تحت عينها، بينما يدها موضوعة في الجبس. وقرب كيس المصل، عُلّقت دميتان كبيرتان بينما تنام دمية صغيرة قربها.
وأخرج عمال الإنقاذ هناء (ثماني سنوات) من تحت أنقاض منزل عائلتها بعد 33 ساعة من وقوع الزلزال الذي سبّب انهيار المبنى في بلدة حارم في محافظة إدلب، قرب الحدود مع تركيا. وانتُشِلَت جثث والدتها وشقيقتها الصغرى البالغة أربع سنوات ووالدها المتطوع في منظمة الخوذ البيضاء.
فور سحبها من تحت الركام، نُقلت الطفلة الى المستشفى حيث تتلقى العلاج، محاطة بعمها الذي يحدّثها حيناً ويساعدها على احتساء العصير حيناً آخر. ويبدي الرجل خشيته على هناء من الصدمة في حال معرفتها بفقدان أسرتها.
ويشرح الطبيب المعالج باسل اصطيف لـ”فرانس برس” أنها وصلت إلى المستشفى “في وضع صعب”، وعانت من “جفاف شديد لبقائها تحت الأنقاض من دون طعام أو شراب وفي ظل برد شديد”.
وبعد خضوعها للرعاية اللازمة، باتت حالتها اليوم مستقرة، لكن يدها “في حالة حرجة ومهددة بالبتر” وفق الطبيب الذي يبذل مع الطاقم الطبي جهده للحيلولة دون ذلك.
ومن شأن ذلك في حال حدوثه أن يفاقم معاناة الطفلة الصغيرة.
“صدمة فوق صدمة”
وتقول مسؤولة التواصل والمناصرة في المجلس الدنماركي للاجئين سماح حديد لـ”فرانس برس”: “نعلم من خلال كوارث مماثلة، أنّ الأطفال عرضة لخطر نفسي شديد بسبب حجم الصدمة”.
وتوضح أنّ “من الشائع جداً أن يعاني الأطفال في هذه المرحلة من كوابيس متكررة”، مضيفة أنّ “من المهم الآن أن يبقى هؤلاء الأطفال على تواصل مع أحبائهم وأن يحظوا بالحماية والدعم الذي يحتاجونه”.
وبحسب منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف)، فإن أكثر من سبعة ملايين طفل، 2,5 مليون منهم في سورية قد تأثروا بالزلزال. وبالنظر إلى عدد القتلى الكارثي والمتزايد، أوضحت أنّ “العديد من الأطفال فقدوا أهاليهم في هذه الزلازل المدمّرة”، محذرة من أنّ “الرقم سيكون مرعباً”.
ويرى المتحدث باسم المنظمة جيمس إلدر في تصريحات أدلى بها لـ”فرانس برس” أن الزلزال بمثابة “صدمة فوق صدمة” بالنسبة إلى الأطفال.
ويقول: “لم يعرف أي طفل دون 12 عاماً إلا النزاع والعنف والنزوح” في سورية حيث توشك الحرب على إتمام عامها الثاني عشر، موضحاً أن بعض الأطفال اختبروا تجربة النزوح “لست أو سبع مرات”.
وأتى الزلزال على مناطق عدة في شمال وشمال غربي سورية، مخلفاً دماراً هائلاً، ولا يزال المئات تحت الأنقاض.
في بلدة حارم، حيث دمّر الزلزال 35 مبنى على الأقل وفق مراسل “فرانس برس”، نجا الطفل البالغ ثلاث سنوات بأعجوبة، بعد بقائه لأربعين ساعة تحت أنقاض منزل عائلته التي توفي جميع أفرادها.
ويقول عزّت حميدي (30 عاماً) خال الطفل من مستشفى للأطفال في سرمدا لـ”فرانس برس”: “ابن اختي هو الناجي الوحيد، فقد أمه وأباه وإخوته”.
ويوضح بتأثر كيف عُثِر على زوج شقيقته وهو يحضن الطفل ويحميه بجسده، بينما يمسك بطفليه الآخرين، فيما شقيقته على بعد مترين عنهم.
“مآسٍ كثيرة”
ويتولى حميدي حالياً رعاية الطفل الموضوع في قسم العناية في المستشفى، وهو “مهدد ببتر أطرافه السفلية”. ويقول بحسرة: “سأل لمرة واحدة منذ سحبه من تحت الردم عن والدته”، موضحاً أنه إجمالاً “فاقد للوعي ويئن” باستمرار من الألم.
وبحسب الطبيب المتابع، الدكتور عمر العلي، يعاني الطفل من رضوض متعددة ومن سحق للأطراف السفلية وثقب في الأحشاء. ويشرح أنه قُدِّمَت الإسعافات له “ريثما يجري التنسيق لاحقاً لإرساله من أجل تتمة العمل الجراحي”.
منذ وقوع الزلزال، تصدّرت صور أطفال انتشلوا أحياءً من تحت ركام منازلهم وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، أبرزها الطفلة التي وُلدت يتيمة تحت الأنقاض في بلدة جنديرس الحدودية مع تركيا وعُثِر عليها متصلة بوالدتها عبر حبل السرّة.
وفي مقاطع فيديو، ظهر مسعفون وهم يحملون أطفالاً ويبتهجون بإخراجهم أحياءً بعد ساعات طويلة من وقوع الزلزال.
ويقول عبادة زكرة، مسؤول في منظمة الخوذ البيضاء، الدفاع المدني في مناطق سيطرة الفصائل المعارضة، شارك في عمليات البحث والإنقاذ، لفرانس برس: “أنقذنا العديد من الأطفال على قيد الحياة (..) استخرجنا أحياناً من العائلة ذاتها أطفالاً أحياءً وآخرين ضحايا”.
ويوضح قائلاً: “عاش الأطفال في منطقتنا مآسي كثيرة بسبب القصف والتهجير من مكان إلى آخر. لم نشعر يوماً بأنهم يكبرون بأمان كبقية أطفال العالم”.
وبعد لحظات صعبة ومؤثرة اختبرها عناصر الإنقاذ منذ الأسبوع الماضي، لا يتمنى زكرة إلا أن “يحظى أطفالنا بحياة مغايرة وبنوع من الاستقرار وبالدعم الذي يحصل عليه أي طفل في العالم”.
المصدر: العربي الجديد