لايشبه تاريخ البلاد العربية التاريخ الأوربي , فلم تشهد أوربة منذ سقوط الامبراطورية الرومانية منتصف القرن الخامس الميلادي تقريبا مدنا ذات أهمية حتى عصر النهضة حين نشأت المدن التجارية في ايطاليا بفضل التجارة مثل جنوة والبندقية وفلورنسة وميلان وبيزا وذلك في القرن الرابع عشر والخامس عشر وبين القرن الخامس الميلادي والقرن الرابع عشر أي خلال حوالي ثمانية قرون وهي مااصطلح على تسميته بالعصر الوسيط ( القرون الوسطى ) عاشت المجتمعات الأوربية ضمن بنى اجتماعية – اقتصادية شبه ريفية فهناك النبلاء أصحاب الأرض الذين يعيشون في القصور وفي مقابلهم جمهور واسع من الفلاحين الأقنان , وضمن قلاع النبلاء كنت تجد بعض الحرف اليدوية الضرورية للزراعة ومتطلبات الحياة الأساسية كالفخار والأقمشة ومايلزم الخيول وأدوات القتال الخ ..لكن ذلك كله كما تبادل السلع كان يتم ضمن سوق ضيق أما المحاصيل الزراعية فهي التي كانت تشكل مصدر الثروة الرئيسي للنبلاء ببيعها للأسواق القريبة .
بالتالي فالبنية الاجتماعية الأوربية خلال مايقرب من ثمانمئة عام كانت تمتاز بالبساطة في التكوين فهي بنية شبه ريفية في الغالب , وتلك الخلفية الاجتماعية لعبت دورا هاما في اعادة تشكل العقل الأوربي اعتبارا من عصر النهضة .
في المقابل لدينا في المشرق العربي خصوصا عدد كبير من المدن العريقة استمرت معظمها دون انقطاع فيما عدا قليل من الاستثناءات كما حل بمدينة الرقة التي تحولت إلى أنقاض واختفت تماما بعد الغزو المغولي حوالي العام 1260 م وكانت مدينة كبيرة عامرة , ويذكر ابو الفداء في كتابه تقويم البلدان أنه زار الرقة حوالي العام 1321 م أي بعد حوالي 60 عاما من اجتياح المغول لها فوجدها خرابا حيث يقول : ” الرقة في زماننا مدينة خراب ليس فيها أنيس ” , وكذلك مدينة نصيبين وكانت مركزا علميا وثقافيا هاما أيام الأمويين والعباسيين غير أنها اختفت تقريبا بعد ذلك , ولم يعد للكوفة ذلك الحضور في التاريخ . غير أن سلسلة من المدن استمرت في الحياة لمئات السنين قبل الاسلام وبعده مثل دمشق وحمص وحماة وحلب وفي العراق استمرت بغداد التي أنشأها الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور عام 145 للهجرة وبلغت ذروة التوسع والغنى والثقافة وربما كانت أكبر وأهم مدينة في العصور الوسطى لاينافسها في ذلك سوى قرطبة في الأندلس .
كما ظهرت القاهرة منذ العصر الفاطمي وتوسعت واستمرت مركزا هاما كعاصمة للدولة ومركز ثقافي – ديني ثم كواحدة من أهم مدن المشرق وكذلك القيروان في تونس وسلاسل أخرى من المدن المتوسطة والصغيرة الهامة التي عاشت وازدهرت لمئات السنين .
وفي تلك المدن وخصوصا دمشق وبغداد والقاهرة ومدن بلاد الشام العريقة تطورت عبر العصور بنى اجتماعية مدنية راسخة ارتبطت بأنماط اقتصادية كالتجارة والحرف اليدوية , أما الحياة الثقافية والروحية فقد تماهت مع الاسلام إلى حد كبير .
في المدينة العربية تشكلت العقلية العربية والتقاليد وكذلك الأطر الاجتماعية , فمقابل القبيلة هناك العائلة والحارة , ومقابل شيخ القبيلة أصبح لدينا شيوخ الاسلام من جهة وقبضايات الحارات من جهة أخرى .
أغلقت المدن الأبواب على نفسها في مواجهة مخاطر غزوات البدو , ومخاطر قطاع الطرق , وأحيانا مخاطر الغزاة الأجانب , وأغلقت الحارات الأبواب على نفسها داخل المدن , فالحارات أصبحت كالقبائل معرضة لاعتداء بعضها على بعض , ونشأ أحيانا بين بعض الحارات قيم ثأر أو قيم صداقة وتحالف .
يمكن أن يلمس المرء في فترات زمنية طويلة ومتعددة استمرار انغلاق المدن العربية , ورسوخ انقسامها الداخلي إلى حارات وعائلات , وضعف العلاقة بين تلك المدن خاصة حين يضطرب حبل الأمن في البلاد ويصبح السفر مغامرة خطرة .
هذه التشكيلة الاجتماعية المميزة للمدن العربية انبثقت مع نهاية الدولة العباسية واستمرت حوالي 700 عام عبر الممالك الأيوبية والعهد المملوكي ثم العثماني وكانت الوعاء والتربة التي انتجت العقلية العربية السائدة اليوم
وبالطبع لايمكن أن ننسى الاختراقات الطائفية لتلك التشكيلة الاجتماعية والتي تفاعلت معها بطريقة أو أخرى , فضمن انقسام المدينة إلى حارات كانت هناك حارات مستقلة للمسيحيين واليهود , كما انعزلت بعض الطوائف الاسلامية في كيانات اجتماعية مغلقة انقسمت في داخلها وفق خطوط قبلية – عائلية .
مايهم من تلك المقدمة أن طابع العزلة والانقسام كان السائد في المدينة العربية بصورة عامة كبنية داخلية , فالفرد يعيش معظم حياته داخل حارته , وربما لايعلم الا القليل عن الحارات الأخرى والأقل من ذلك عن المدن القريبة من مدينته .
وتكرار الأفكار الاجتماعية والدينية عبر مئات السنين أدى إلى رسوخها على نحو مبالغ فيه , فأصبح هناك مايشبه ” الكود ” أو اللائحة الداخلية المسبقة لحياة المرء منذ ولادته وحتى وفاته , تتضمن جميع تفاصيل حياته وما يجب فعله وما يحرم عليه بأدق المعايير .
وكناتج منطقي عن تلك البنية الاجتماعية فقد أصبح رفض التغيير والأفكار الجديدة تيارا قويا وعميقا وراسخا في المجتمع .
واذا انتقلنا لعصرنا الحالي عصر العولمة فإن أهم مايميزه هو اعادة تصدير الأفكار والسلوك الاجتماعي بعد الثورة في وسائل التواصل التي دمرت حواجز المسافات والحواجز الأخرى واخترقت المجتمع من أصغر خلية فيه وحتى أبعد قرية معزولة .
هكذا أصبحت البنية الاجتماعية التقليدية تصارع تيارا جارفا لم يسبق أن واجهته من قبل .
والتحدي الكبير الذي نعيشه اليوم يتمثل في قدرة العقل العربي على الخروج من انعزاله وتحجره التاريخي دون أن تفقد الشخصية العربية هويتها وتذوب على نحو لارجعة فيه .
ومثل ذلك التحدي يحتاج إلى استبدال نزعة العزلة والتمسك الصلب الحجري بكل الموروث بانفتاح وفهم حقيقي للماضي والحاضر وللآخر أيضا . والبحث عن الموائمة بين أفضل ما في التراث وما يمكن أن يؤخذ منه في شروط العولمة التي أصبحت حقيقة لايمكن إنكارها .