أكد الكاتب البريطاني دافيد هيرست، ومدير موقع “ميدل إيست آي” عن وجود انقسام داخل المشروع الصهيوني بين التيار الديني المتطرف لإنشاء دولة يهودية والتيار الصهيوني السائد، وأن هذا الشرخ الكبير في الكيان الصهيوني المحتل، الذي تم طمسه مرات عديدة، لم يعد بالإمكان إخفاءه، وقد تفجر بشكل صدامي واضح.
وشدد في مقال بعنوان عندما “يحدث الانشقاق الصهيوني: إسرائيل والتحذير من التاريخ الاستعماري” أنه منذ أن جاء إلى السلطة قبل بضعة أسابيع، ساهم المتطرف إيتمار بن غفير بأفعاله في نزع الشرعية عن إسرائيل، أكثر بكثير مما ساهمت فيه بنشاطاتها حركة المقاطعة العالمية بي دي إس.
ولفت إلى أنه “حتى إن قواعد التأييد اليهودي السابقة بما في ذلك نيويورك، أصدرت بيانات تناشد فيها نتنياهو بتغيير المسار”.
وتطرق الكاتب إلى دروس التاريخ الاستعماري الاستيطاني وبشكل خاص الاحتلال الفرنسي للجزائر لقراءة وضع الاحتلال الصهيوني لفلسطين.
ويشير إلى تحليل نشرته يديعوت أحرنوت، التي يقول إنها صحيفة وسطية لم تزل موالية للسياسة الرسمية الإسرائيلية تجاه الاحتلال، والتي تكتب: “الحقيقة غير المريحة، هي أنه لا يمكن للديمقراطية أن تجتمع مع الاحتلال، لا يمكن للديمقراطية أن توجد في بلد تسمح سياسته الاقتصادية للقوي بالبروز والانطلاق قدما، بينما يتم التخلي عن الضعيف ويرمى في الخلف، ولا يمكن أن توجد الديمقراطية في مكان يفرض فيه على العرب أن يظلوا خارج المشهد”.
وينوه إلى أن علاقة التيار العام للصهيونية بحركة الاستيطان لم تزل أكثر تعقيدا وأكثر تفصيلا من الصورة التي ترسم لها، باعتبارها انقساما بين المركز واليمين المتطرف. ثم حينما يمر الوسط بتغير، فإن ذلك يمثل أكثر من مجرد إشاحة الوجه نحو الجهة الأخرى، أكثر من ذلك بكثير.
يذكر أن وتيرة الاستيطان زادت في ظل حكومات العمال، و”حين يعبر المرء عن رعبه من كون شخص مثل بن غفير أصبح المسؤول عن حكم الضفة الغربية المحتلة، فإن بذلك يتجاهل ما سفك من دماء الفلسطينيين على يد رئيس الوزراء السابق يائير لابيد”.
ويشير إلى أن العام الماضي كان أكثر السنين دموية منذ الانتفاضة الثانية، فقد شهد مقتل 220 شخصا، بما في ذلك 48 طفلا.
نموذج الجزائر ونهاية الاستعمار الفرنسي
يؤكد الكاتب أنه إذا كان هناك نموذج يحاكي هذا الانقسام الذي يشق الصف الصهيوني، فإنه ليس جنوب أفريقيا، وإنما الجزائر والاستعمار الفرنسي.
وكما يلفت فقد مكث المستوطنون الفرنسيون الذين كانوا يعرفون بأصحاب “الأقدام السوداء”، في الجزائر منذ القرن التاسع عشر. وكانت البلاد تعامل كما لو أنها امتداد للأرض الفرنسية بدلا من كونها مستعمرة في أفريقيا، وكانوا يعبرون عن ذلك بمقالتهم المشهورة “الجزائر جزء من فرنسا بقدر ما أن منطقة بروفينس (جنوب فرنسا) جزء منها”.
منذ البداية، كان “المستوطنون” جزءا لا يتجزأ من المشروع الاستعماري الفرنسي. أعلن الحاكم العام للجزائر المارشال توماس روبرت بيغا أمام المجلس الوطني الفرنسي في 1840 قائلا: “حيثما وجد الماء ووجدت الأرض الخصبة في الجزائر، لا بد أن نزرع المستوطنين دون أن نشغل أنفسنا بمن تعود إليه ملكية هذه الأراضي”.
وقد قوبلت أول مطالبات جزائرية بعد الحرب العالمية من أجل مواطنة متساوية بمحاولات للإصلاح، فمنحت باريس المواطنة لما يقرب من ستين ألفا، وفي عام 1947 أوجدت برلمانا يتكون من مجلسين أحدهما لأصحاب الأقدام السوداء والآخر للجزائريين، إلا أن أصوات ذوي الأقدام السوداء كانت باستمرار تعتبر سبع مرات أكبر من أصوات الجزائريين.
ويذكر الكاتب أنه بعد أربع سنين من حرب الاستقلال الجزائرية، التي مازالت فرنسا حتى اليوم تقلل من تعداد ضحاياها، (تقول الجزائر؛ إن ما لا يقل عن مليون ونصف المليون (شهيد) لقوا نحبهم فيهم، بينما تقول فرنسا؛ إن العدد لا يتجاوز 400 ألف من الطرفين)، حظي ذوو الأقدام السوداء بتعاطف ودعم الجيش والمؤسسة الأمنية في فرنسا.
ويشير إلى أن في كتابه “القيادة”، يخص هنري كيسنجر الجنرال شارل ديغول بفصل كامل، يصفه فيه بأنه كان سادس أعظم زعيم يتعامل معه في أثناء مهنته كدبلوماسي، وهو فصل مفيد لمن أراد معرفة كيف كانت تدبر الأمور في تلك الحقبة الزمنية.
ويلفت إلى أن علاقة ديغول بالمستوطنين من خطاب قال لهم فيه؛ “إني أفهمكم” إلى أن أصبح مستهدفا لحملتهم الإرهابية داخل فرنسا نفسها. حينذاك تغير المزاج الشعبي في فرنسا التي انقلبت على مستوطنيها. وكانت نقطة التحول هي جرح طفلة في الرابعة من عمرها في انفجار قنبلة من قبل من المنظمة الخاصة التابعة لغلاة المستوطنين.
ويقول إنه حتى تلك اللحظة، كانت منظمة الجيش السري تحظى بدعم ثمانين نائبا في المجلس الوطني.
انطلقت ردا على حادثة التفجير، مظاهرة ضد منظمة الجيش السري، قمعتها الشرطة فقتلت ثمانية، شارك مئات الآلاف في جنازاتهم، ونجم عن إبرام وقف لإطلاق النار بين فرنسا وجبهة التحرير الوطني الجزائرية تحويل الصراع من قتال بين ثلاثة أطراف إلى قتال بين طرفين، كان الخاسر فيه حتما هو منظمة الجيش السري للمستوطنين الفرنسيين.
ويلفت الكاتب إلى أنه “بالطبع، هناك الكثير من الاختلافات بين ذوي الأقدام السوداء والمستوطنين اليهود، كما أن هناك الكثير من التشابهات. ومن الاختلافات أن الدين لم يؤد دورا مهما في حالة المشروع الفرنسي. كما أن أوروبا لم تشهد مذبحة مثلما حدث مع اليهود، للفرنسيين بما يبرر إقامة هذه المستعمرة في الجزائر.
إلا أن أهم نقطة في مجال المقارنة مازالت قائمة. عندما انقلبت منظمة الجيش السري على أبناء جلدتها، كان ذلك مؤذنا بضياع المشروع بأسره. والنقطة الأخرى بالغة الأهمية بالنسبة للفلسطينيين، هي أنه لا في حالة المقاومة الجزائرية، ولا في حالة المقاومة في جنوب أفريقيا (ضد نظام الفصل العنصري) تم كسب الصراع عسكريا، بل كلاهما كانا مستضعفين وخصمهما أكبر منهما عدة وعتادا، وإنما الذي أكسبهما الصراع في الحالتين، هو البقاء في حالة من الصمود ورفض الاستسلام.
ويلفت إلى أنه “يمكن كسب المعركة خسارة الحرب”. وقد “حصل هذا في الجزائر وحصل في جنوب أفريقيا، ولسوف يحدث في إسرائيل كذلك”.
ويشدد الكاتب أن “لا أحد يقول، ناهيك عن أن أقوله أنا؛ إن إسرائيل على وشك الانهيار كما حدث للحكم الفرنسي في الجزائر، ولكن ما نقوله؛ إن أول صدع كبير في المشروع الصهيوني قد بدأ يظهر”.
بن غفير يساهم بأفعاله في نزع الشرعية عن إسرائيل
ويؤكد الكاتب أنه منذ أن جاء إلى السلطة قبل بضعة أسابيع، ساهم بن غفير بأفعاله في نزع الشرعية عن إسرائيل أكثر بكثير مما ساهمت فيه بنشاطاتها حركة المقاطعة العالمية بي دي إس. حتى إن قواعد التأييد اليهودي السابقة في نيويورك أصدرت بيانات تناشد فيها نتنياهو بتغيير المسار.
ومن هؤلاء إريك غولدستين، رئيس أكبر فيدرالية يهودية في شمال أمريكا، الذي “استجدى بكل احترام” نتنياهو الوفاء بتعهدات سابقة قطعها على نفسه، بأنه سيقطع الطريق على القوانين التي تهدد استقلال النظام القضائي في إسرائيل.
ويلفت الكاتب إلى أنه ليس من المعهود بتاتا تقريبا أن تصدر الفيدراليات اليهودية مثل هذه البيانات العلنية، وذلك لسبب بسيط يتمثل في أن قطاع الخدمة الاجتماعية الإسرائيلي هو أحد أكبر المستفيدين منها.
ويقول إنه “بالطبع، سوف يبذل نتنياهو قصارى جهده للعب الورقة الدولية، فقد فعل ذلك في الأردن، عندما أعلن بما لا معنى له أن الوضع القائم في المسجد الأقصى لن يتغير، مع أن ذلك الوضع تغير فعلا كما تعرف جيدا دائرة الأوقاف، التي تنوب عن الأردن في إدارة الأماكن المقدسة في القدس”.
ويضيف “إلا أن نتنياهو، بوجود بن غفير وسموتريتش، يواجه شكلا مختلفا من شركاء الائتلاف. هؤلاء الذين يمثلون كلاب الحراسة لليمين الديني، ليسوا فقط جزءا من الحاضر الذي يمثله نتنياهو بكل مساعيه للبقاء في السلطة، وإنما يرسمون شكل القيادة الإسرائيلية في المستقبل”.
ويؤكد أنه “ينبغي أن يكون ذلك بمنزلة جرس الإنذار لكل يهودي إسرائيلي لا يحمل جواز سفر أوروبي، ولا يتمنى أن يكون وقودا لحرب شاملة مع 1.6 مليار مسلم حول العالم تبدو الحركة القومية الدينية عازمة على إشعالها”.
ويقول “ينبغي عليهم أن يفكروا بالترتيب لمستقبل يتعاملون فيه مع الفلسطينيين سواسية، لحل النزاع حول الأرض والمواطنة، وليس لخوض صراع حول الدين. والوقت ليس في صالحهم”.
المصدر:“القدس العربي”