مهما ارتفعت صيحات الناطقين باسم النظام السوري ضد الوعيد التركي بتنفيذ اجتياح برّي لأراضٍ شمالي سورية، غربي الفرات وشرقه، فإنها لن تحجب رأياً جدّياً يقول إن أكثر من يتمنّى حصول الهجوم العسكري المذكور هو النظام السوري نفسه. أما الانطلاق من حقيقة أن عرّابَي النظام، روسيا وإيران، لا يرغبان بتاتاً بحصول العملية، كلّ منهما لأسبابه، للخلوص إلى أن النظام لا يمكنه مخالفتهما في مثل هذا الشأن، وإنْ بشكل مضمر، فإن في ذلك تسطيحا وتعميما للعنوان العريض، ولا يلحظ عناوين فرعية عديدة يمكن لها أن تفرّق أحياناً بين مصالح التابع والمتبوع، نظام الأسد من جهة، وروسيا وإيران من جهة ثانية. ومعلوم أنّ في علاقات التبعية عموماً تتسنّى للتابع الصغير هوامش للمناورة ولابتزاز المتبوع الكبير في تكتيكات وقضايا لا تصل بالطبع إلى مستوى تهديد ثوابت علاقة صاحب السلطة الحقيقية بالوكيل المحلي.
وخلف فرضية أن النظام السوري يرغب ضمنياً برؤية حصول هجوم تركي برّي على مناطق سيطرة المسلحين الأكراد، معطى شديد الصلابة: نظام الأسد عاجز عسكرياً وسياسياً عن السيطرة على المنطقة التي تشكل “دولة الأكراد”. ليس الحديث هنا عما يسمّيه بعض القوميين المتشدّدين، “روج آفا”، بل عن مناطق السيطرة الفعلية لـ”قسد” و”الإدارة الذاتية” حتى على بلدات وقرى ومدن ذات تركيبة سكانية عربية تاريخياً في الرقة ودير الزور وريف حلب والحسكة. خلف ذلك العجز، تجد هشاشة الجيش النظامي في أي معركة لا يحظى فيها بإسناد مباشر من روسيا و/أو إيران و/أو حزب الله و/أو مليشيات الحشد الشعبي العراقي. كذلك فإن الدعم الأميركي الكامل لـ”حليف الأرض” الكردي يضع حداً لا لأحلام النظام السوري فحسب، بل أيضاً لمشاريع أكبر بكثير من أوهام الأسد، من نوع خطط تركيا العسكرية، وطموحات موسكو وطهران بحلول نفوذهما مكان الحضور الأميركي في مناطق سيطرة المسلحين الأكراد. كذلك، يدرك النظام السوري أن تركيا الرسمية مسكونة بهاجس اسمه “الأكراد”، قومياً وأمنياً وسياسياً، وأنّ مشروع رجب طيب أردوغان إنشاء ممر آمن عند حدود بلده الجنوبية مع سورية بعمق 30 كيلومتراً، لن يكون هدفه ضم أراضٍ إضافية إلى الجمهورية التركية، فالأمر لا يتعلق بإقليم إسكندرون جديد، وأنه مثلما حصل في حملات عسكرية سابقة، (نبع السلام ودرع الفرات وغصن الزيتون)، سينتهي الأمر بتسليم إدارة المناطق وأمنها إلى فصائل سورية معارضة تابعة إلى تركيا. يدرك النظام السوري ذلك جيداً، لذلك فهو يأمل من تركيا أن تقوم بالمهمة الصعبة نيابة عنه، أي أن تقضي بهجومها على الإدارة الكردية المستقلة عنه فعلياً في الشمال، والتي تحرمه من ثروات منطقة الجزيرة ومن مياهها وزراعتها ونفطها، ثم أن تسلّمه هو، أي النظام، السيطرة على تلك المناطق، وهو ما باتت تركيا متحمسة له. وهنا تكمن إحدى عقد المفاوضات الجارية بين أنقرة ودمشق: تركيا تأمل أن يقوم النظام السوري بما عليه من “واجبات سيادية” وأن يفرض سيطرته على المنطقة الممتدة من عين العرب (كوباني) حتى المالكية، وتخاطب الروس ومن خلفهم الإيرانيين أن هذا شرطها لكي تعدُل عن تنفيذ هجومها البري التي عادت لتلوّح به بعدما دخل مرحلة السبات منذ أسابيع، منذ ظهر الفيتو الأميركي ــ الروسي حازماً. في المقابل، كل الأطراف المخاطَبة عاجزة عن فتح جبهة مع أميركا في تلك المنطقة.
لا النظام السوري سيتنازل عن عنصريّته حيال الأكراد، ويعطيهم حقوق المواطنة الكاملة ويقاسمهم الثروات ويقرّ حرياتهم الثقافية، ولا تركيا الرسمية الحالية تبدو في وارد إجراء مصالحة تاريخية مع أكرادها قبل أكراد بلدان الجوار، ولا ممثلو القوميين الأكراد في سورية فهموا على ما يبدو أن مصلحتهم تكمن مع السوريين العرب في بلد ديمقراطي. أمام استحالات بهذه الحدّة، يمكن ملء الوقت الضائع بثرثرات بشار الأسد الذي لا يرى إلا “الاحتلال التركي” لسورية، وبتهديدات رجب طيب أردوغان اليومية، وبصلوات صادقة كثيرة بألا تكتمل حفلة المصالحة بين دمشق وأنقرة.
المصدر: العربي الجديد