تسعى تركيّا عبر قنواتها الديبلوماسية ووسائل إعلامها للإيحاء، وربما للتأكيد، بأنّها قد حسمت أمرها باتجاه بناء علاقة طبيعيّة مع سلطة الأمر الواقع في دمشق، ولعلّ لقاء وزيري الدفاع مؤخراً يشي بأنّ الحكومة التركية جادّة في مقاربتها النكوصيّة الجديدة للملفّ السوريّ، وفي عزمها على إعادة المهجّرين السوريين لديها إلى ذات المدن والمناطق التي اقتلعوا منها، كي يستعيدوا أمنهم وحياتهم الطبيعية في بلادهم المدمّرة، بضمانات سيتمّ انتزاعها من ذات النظام الذي دمّرها.
غير أنّ التصريحات المتواترة وبخاصة تلك الواردة على لسان وزيري الخارجية والدفاع التركيين تختلف في جوهرها عما يمكن فهمه من السياق السابق، حيث تؤكد على أن القرار 2254 هو الإطار والمحدّد الوحيد للحراك السياسي والديبلوماسي التركيّ الذي تقوم به باتجاه معالجة المسألة السورية، وأنّ تركيا لا يمكن أن تتخلّى عن دورها الإيجابيّ، وعن التزامها الأخلاقيّ والإنسانيّ في سبيل إنهاء معاناة السوريين وإيجاد حلّ عادل لقضيّتهم.
بكلّ الأحوال فإننا لا نعتقد أنّ ما يحصل من لقاءات وتصريحات يمكن تفسيره على أنه رغبة تركية في إجراء مصالحة مع نظام الإجرام الكبتاغوني الأسديّ، وفي إعادة تعويمه أو تطعيم شجرته الشيطانيّة كي تنبت وتثمر مزيداً من الشرّ والموت. بلّ إن القراءة الواقعيّة للوقائع والمستجدّات تشير إلى أنّ جذور نبتة الشؤم هذه قد تعفنت، وأوان السقوط والحساب بات قريباً، وأنّ الوقت يضيق؛ فحبال العدالة أطبقت على عنق نظام الإجرام الكبتاغوني؛ ولا بأس من صفقة معه يقدّم فيها، بصفته التمثيلية الممنوحة له من المجتمع الدولي، بعضاً من التنازلات يمكن الاستفادة منها والبناء عليها مستقبلاً بما يضمن المصالح الاستراتيجية والأمن القومي للدولة التركية.
ربما تشبه هذه الصفقة تلك التي يعقدها المدّعي العام القضائي مع المجرم كي يقرّ ويعترف بالمزيد مما لم يتمكن من الحصول عليه بوسائل مختلفة مقابل استبدال العقوبة بأخرى، كأن يستبدل الإعدام بالموت شنقاً بالإعدام جلوساً…، وإلاّ عن أيّة مصالحة وأيّة ضمانات يمكن الحديث في الحالة السورية؟
هل سيكون الضامن لعودة طوعيّة وحياة آمنة للنازحين والمهجرين هو نظام الإجرام ذاته الذي اعتقل وقتل واغتصب أبناءهم ونساءهم وشيوخهم، وعطّر جثامين أطفالهم بغاز الكلور والسارين؟
أم إنّ الضامن هو”الروسيّ” دبّ السلام الأحمر وصاحب اليد الشوهاء في إغراق سوريّا بالدّم؛ وإمطار سمائها بالفوسفور والعنقوديّ والكيماويّ؛ ومئاتٍ من أسلحة التدمير الشامل التي جرّبها في اللحم السوريّ الحيّ؟
وبعدُ فالمصالحة مع من؛ وبين من ومن؟ هل تكون بين الضحيّة والمجرم وهل ينبغي للقتيل أن يعتذر ويطلب السماح من القاتل؟ وأن يرجوه العفو والأمن والحياة الكريمة والسلام؟
ثمّ إلى أين يعود النازح والمهجر وفي أيّ الأمكنة سيحظى بالأمن والسلام؟
هل تراه يتمدّد بين ركام البيوت المختلطة بعظام الأبناء وجماجمهم المثقوبة برصاص البنادق وشظايا القذائف والبراميل المتفجرة، أو لعلّه يجد السكينة بين ما تبقى من جدرانها المزركشة بالدمّ وبقايا الأحشاء الملتصقة على إسمنتها البارد؟
هل يتنسم عبق الياسمين في المقابر الجماعية التي تنتشر في شوارع مدينته وتملأ أطلال حدائقها المندثرة، أم تراه يستريح تحت ظلال زيزفون القبور المنبوشة بمخالب جنود الأسد؛ وشبيحته الأليفين المسالمين؟
إنّ إعادة النازحين والمهجرين إلى مملكة نظام الكبتاغون الإجراميّ تعني المقامرة بأرواحهم المعذّبة أصلاً، فمن سينجو من الاغتيال أو الاختطاف والاعتقال سينضمّ إلى قائمة من بقي من المساكين رهينةً في مسالخ الأسد ينتظرالموت جوعاً وبرداً وذلاً وقهراً.
إنّ سوء معاملة الضحيّة وإهمالها وممارسة التمييز بحقها، أو التقصير في حمايتها ودعمها لاستعادة حقوقها يمثّل ازدراء للعدالة وتقويضاً للمبادئ والقيم الإنسانية، ثمّ إنّ إكراه الضحايا على تقديم التنازلات يعدّ تفريطاً بالحقوق ويعرّضها لمأساة أخرى أشدّ وطأة وإيلاماً وقسوة.
المصالحة إنما تكون بين أبناء البلد المتضررين من الطغيان، إذ هم في الحقيقة ضحايا من جميع الأطراف المكونة للشعب، والمصالحة ليست إسقاطا للحقوق كما أنّها ليست تنازلا من قبل الضحايا عن حقهم في العدالة وفي مساءلة المجرمين. وبالرغم من الكلف الباهظة ومن تداخل القانونيّ بالسياسيّ فإنّ المصالحة الوطنيّة لا يمكن لها أن تتمّ دون كشف الحقيقة والحساب، فلا بدّ من مساءلة مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية ومحاسبتهم أيّاً كان موقعهم أو انتماؤهم.
المصدر: إشراق