في زمن أفول الإمبراطوريات حاولت الولايات المتحدة مراراً أن تكون إمبراطورية وفشلت فشلاً ذريعاً. ثمة أسباب عديدة لذلك! أولها أنها بعد الحرب العالمية الثانية، وفي سياق مكافحة الشيوعية، أجبرت غصباً حلفاءها الأعزاء والضعاف، على تفكيك إمبراطورياتهم من دون أن تحاول تعويض سوى اتفاقات برايتون وودز. فكانت السويس وانسحاب بريطانيا من شرقها إلى الجزائر الخ…
ثانياً: مع تراجع حصة المواد الأولية والبضائع المادية من القطن إلى المطاط والطاقة، من مستورداتها، تحول اهتمامها ليس للتصدير، بل لتوسيع الأسواق.
ثالثاً: أدى انخفاض حصة البضائع المادية، من الاقتصاد الكوني، إلى أن تزيد حصة العمل الفكري والإبداعي في القيمة المضافة عن 69%. ونشهد اليوم، بأم أعيننا، الفصول الأخيرة لهيمنة اقتصادات الطاقة الأحفورية. فقيمة البضاعة مهما كبرت لم تعد تقاس بما تحويه من كتلة مادية، بل ما تحويه من تقنية إبداعية.
بهذا المعنى ليست الولايات المتحدة معنية في أن تكون إمبراطورية، تهيمن على الأرض وتدير مستعمرات. لكنها إمبراطورية مستعدة لخوض صراعات بلا رحمة، لضمان موقعها المهيمن على التقنيات العليا والعلوم الأساسية. ثم بربك ماذا ستنتفع “غوغل” أو إيلون ماسك، أو “مايكروسوفت” من احتلال أرض خربة في روسيا أو الصين؟
لذلك نجد الولايات المتحدة ضجرة، تخسر خسارة مخزية كل حروبها الصغيرة. من كوريا إلى فيتنام إلى العراق وأفغانستان، تبهدلت أميركا في حروب لم تكن إلا انحرافات لغطرسة فرط القوة. لكنها سرعان ما كانت تتجاوزها، قبل أن تخسر نفسها!
أما في الحروب الكبيرة، فهي كالجوكر، تدخل متأخرة لحظة الحصاد. ذلك أن جغرافيتها تجعلها بمأمن مريح. وما لم تقرر موسكو وبكين خيار شمشوم، فليس ثمة خطر ماحق.
في إحدى الجلسات مع المفكر الاستراتيجي الأميركي البولوني الأصل بريجنسكي، أدهشني قوله لي “إن الأوروبيين لم يتغيروا، وسرعان ما سيعودون إلى الحرب في ما بينهم”. في حينه امتعضت من هذا “الصلف الأميركي” تجاه أعرق الشعوب الأوروبية. لكن سرعان ما فقأ فلاديمير بوتين عيني، وأثبت صحة كلام المعلم الكبير. ذلك أن أعظم ما في قوة أميركا وحدتها. وبعد حرب ضد أكبر الإمبراطوريات، وحرب أهلية أهلكت 1.2 مليون شخص، توحّدت أميركا، ومرت بأقسى الهزات، تعلم الأميركان تدريجياً فن الوحدة والتحالف والصفقات والعيش المشترك.
لا تعيش أميركا على إدارة الانسجام، بل تعيش على إدارة التناقضات بأشرس أشكالها.
نموذج الدولة فيها يقوم على الحرية وأقل دور للدولة، تحقيقاً لذلك التزاوج العميق بين الأكاديميا المتقدمة، والبزنس في خدمة رأس المال وإطلاق التنافس التقني بأشرس أشكاله. لتتحول الدولة أداة لخدمة وإدارة التحولات من الاقتصاد إلى التشريع. ومع كل قفزة في علاقات العمل تغص أميركا بمولود جديد يكاد يمزقها. كان هذا حالها بعد 1929، ثم بعد في السبعينات من القرن الماضي: الهبيز وفيتنام وكينيدي ولوثر كينغ. وهذا حالها الآن! لتصبح الديموقراطية أداة لخدمة الحرية، وليست هدفاً بحد ذاتها. فهل تنجح الآن؟
بغرور كبير يعتدّ الأميركيون بنموذجهم. لا لأنه الأكثر أخلاقية ولا لأنه الأعدل، بل لأنه الأقدر على تسريع المنافسة والتقدم. وبالقدر ذاته من الغرور، يراهنون على فشل رأسمالية الدولة الاحتكارية الفاسدة في الدول الشمولية.
وبحسب الخبراء الأميركان، ثمة عنصر جوهري آخر في شعورهم بالقوة. إذ لا تزال أميركا متخلفة عشرين سنة عن مستوى تمدن الأوروبيين (وليس التحضر). وهذا خير!
ففيما يعيش المهاجرون الفقراء في الشقق الصغيرة للضواحي الأوروبية، التي لا تتسع للعائلات الكبيرة، تصبح هذه الأحياء عبئاً على النمو الحضاري. ويرى الخبراء أن استمرار الطبقة الأميركية المتوسطة والعليا، في العيش غالباً في بيوت الضواحي، أتاح ذلك التكاثر والإنجاب.
سمح تخلف الديموغرافيا لأميركا أن تبقى شابة، مقارنة بأوروبا وروسيا واليابان والصين الخ… ومع تنامي حجم المتقاعدين فيها، تنكمش السوق ويزداد الاعتماد على التصدير. فحين تكون في العشرين قلّما تصرف من دخلك على حليب الأطفال، بل تصرفه لشراء المنزل أو السيارة. وكلما كبرت زاد ميلك للادخار وتقليص الإنفاق.
مأزق الدول المتقدمة الأخرى، أن شبابها يضمحلون وسوقها ينكمش، لتصبح الدول محكومة بالتصدير. ورغم تقلص فارق التمدن في أميركا عن أوروبا، تعوض الولايات المتحدة بقدرتها على استيعاب المهاجرين والماهرين.
وتعتمد الولايات المتحدة بمقدار 12% فقط من دخلها القومي على التبادل مع الخارج، حيث يشكل التصدير لدول النافتا، كندا والمكسيك، نصف هذا التبادل (6%)، وفي المقابل يعتمد نموذج الاقتصاد الصيني بـ43% وألمانيا 49% على التبادل مع الخارج. ويأتي كوفيد ليعزز الأزمة.
والآن يرمي هذا “الشعبوي المكبوت” جو بايدن، بالعقيدة الاقتصادية للريغانية بلا رحمة لرماد التاريخ. ولم يعد بايدن ذاك العجوز المحبب في أروقة المؤسسة، بل يتحدث عن “الصفقة الجديدة” وإحياء الطبقة المتوسطة المحاصرة، ليقدم مزيجاً من برامج التعليم والرعاية الصحية والضرائب. وكأنه كان ينتظر لحظته التاريخية لإعادة توجيه الاقتصاد الأميركي بالكامل، مستفيداً مما أتاحته أزمة كوفيد واستجابة دونالد ترامب القاصرة، من فرصة لإعادة اختراع الحكومة بأكملها، لأنها “كشفت مدى حاجتنا الماسة للاستثمار في أساس هذا البلد”.
يقترح بايدن حوالي 7.5 تريليونات دولار من الإنفاق الجديد، أي ضعف ما أنفقته الولايات المتحدة للفوز بالحرب العالمية الثانية، “لتبدأ من هنا القيادة الإمبريالية الأميركية للعالم”. فقد تدهورت الطبقة المتوسطة بسياسات خفض العجز والشلل الحكومي، وها هو يحقن تريليونات لدعم الاستثمارات في مجالات “لن يحلها القطاع الخاص بمفرده، لأنه فضل نقل الصناعة إلى حيث العمالة الرخيصة في الخارج”. هذا فيما انخفض البحث والتطوير وانخفضت ضرائب الشركات الكبرى انخفاضاً مزرياً. بل يقترح بايدن فرض ضريبة عالمية ثورية جديدة على الشركات العابرة للحدود. ورغم ما قد يشكله ذلك من مخاطر على توجهات بايدن في العولمة، فهو يؤكد أن الدعم الحكومي لخدمة مبدئه “اصنعه في أميركا”.
ثمة أخطار كبيرة تحيق بهذا النموذج الأميركي. هناك الخطر على وحدتها في ظل ركام من التناقضات وحراك مجتمعي هائل. وثمة خطر على ديموقراطيتها وخطر من التورط في عزلة عن حلفائها عبر المحيطَين.
عندها قد يطيش عقلها الجمعي من غرور القوة. بل سيكون مقتلها إن ركبتها أوهام الإمبراطوريات العقائدية على النمط الروسي أو العثماني… الخ.
يفجر هذا الانعطاف تناقضات هائلة. فهل يتمكن المجتمع الأميركي من أن يولّد ما يكفي من التوافق بين مكوّناته وبين الجمهوريين والديموقراطيين لضمان الوحدة عبر الصراع؟ سنرى!
المصدر: النهار العربي