ما إن توقفت الحملة الإعلامية الروسية ضد النظام السوري ورموزه، حتى نشر موقع “بلومبرغ” المالي تصريحات “أكثر وضوحاً” لخبراء ومسؤولين سابقين في موسكو عن الواقع السياسي الحالي. الدبلوماسي الروسي السابق والخبير الحالي في شؤون المنطقة في مركز أبحاث روسي (تموله الحكومة) ألكساندر شوميلين صرح للموقع بأن “على الكرملين التخلص من الصداع السوري. ويتركز لُب المشكلة على شخص واحد: (الرئيس السوري بشار) الأسد والمحيطين به”.
سياق هذا الكلام يأتي في ظل الحديث عن معالجة المتاعب الاقتصادية لموسكو بعد انهيار سعر النفط، وفي ظل الآثار المتراكمة للعقوبات الأميركية والأوروبية على موسكو، ومعها الاغلاق الكامل نتيجة انتشار فيروس “كوفيد 19”. في نهاية المطاف، على روسيا التكيف مع هذه الأزمة المالية واجتراح حلول من خارج السياق التقليدي للسياسة الروسية، سيما أن الرئيس فلاديمير بوتين يُعرف بواقعيته وقدرته على المناورة سياسياً للحفاظ على نظامه ومصالحه. بكلام آخر، لم يعد صدر روسيا يتسع لترهات وألاعيب النظام السوري ومحاولاته التوفيق بين الارادتين الروسية والإيرانية في سوريا.
على الأسد تقديم تنازلات إقليمية وداخلية من أجل تيسير عملية السلام. وفي حال رفض الأسد القبول بدستور جديد، “سيكون نظامه في خطر عظيم”، كما جاء في كلام الدبلوماسي الروسي السابق ألكساندر أكسينونوك. أكسينونوك ليس معلقاً من الدرجة الثانية أو صاحب رأي مغاير، فهو إضافة الى منصبه السابق، يشغل منصب نائب رئيس المجلس الروسي للشؤون الدولية.
على الأسد التنازل دستورياً عن بعض سلطاته والاستعداد لانتخابات بعد سنتين قد يخسرها لمصلحة مرشح آخر، في ظل توافر منافسين جديين واشراف دولي. اعتاد الأسد ووالده على غياب المنافسة وحصاد رقم الـ99 في المئة (نسبة غير ممكنة علمياً في أي عملية تصويت)، لكن أي انتخابات مقبلة ستجري بناء لأسس جديدة. وبعد هذه الأزمة الاقتصادية والحرب المدمرة في سوريا وعمليات القتل والتعذيب في السجون، من الصعب تخيل فوزٍ محققٍ للأسد في أول انتخابات بإشراف خارجي. بحد ذاتها، هذه سابقة لعائلة استوطنت قصر المهاجرين بالقوة والوراثة وبجرائم حرب تمتد على مدار خمسين عاماً، ودون أي تفويض شعبي يُذكر سوى بالخوف والدم.
لكن مثل هذا التنازل يرتبط بشكل كبير مع الدورين الروسي والإيراني في سوريا، ومع خيارين لا ثالث لهما. روسيا اليوم باتت عرابة لبعض الجيش السوري وأجهزة الاستخبارات في البلاد، علاوة على امتلاكها شبكة ثقافية-سياسية ليست بالهينة. يُضاف الى ذلك دور اقتصادي روسي بات عصباً أساسياً بالنسبة لسوريا. على سبيل المثال، يعتمد النظام السوري بشكل متزايد على القمح الروسي في ظل تراجع الزراعة واليد العاملة في هذا القطاع، وأيضاً سيطرة “قسد” على مناطق زراعية شاسعة في الشرق السوري، خزان القمح السوري حتى عام 2010. كانت سوريا تُصدر القمح قبل الحرب، وهي اليوم تعتمد على روسيا لتأمين بعض حاجاتها الاساسية.
من الصعب أن تُجدي المحاولات الإيرانية للحفاظ على النفوذ في ظل تصاعد التوتر مع إسرائيل من جهة، والضيق الروسي من جهة ثانية. ذاك أن من شأن التعجيل في اتفاق او تعديل دستوري، أن يضع سوريا على سكة التفلت من النفوذ الإيراني. والأهم أن هذه العملية ستُعيد الأسد الى حجمه. لن يتمكن من اعلان الانتصار، بل سيدفعه من يُؤمن شرايين الحياة لنظامه الى مواضع مُذلة تُحاكي في السياسة ما رأيناه في البروتوكول في قاعدة حميميم في اللاذقية وفي السفارة الروسية بدمشق.
ولا يُتوقع أن يكون هذا الطريق بطيئاً. بيد أن فيروس الكورونا أو “كوفيد 19” لم يخلق مسارات جديدة في السياسة والاقتصاد، بل عجّل في عمليات ومسارات قائمة بالفعل. المنافسة الروسية-الإيرانية في سوريا واقع عمره سنوات، واليوم حان وقت الحسم في اتجاه أو آخر.
المصدر: المدن