تتكرر التهديدات التركية كل يوم بشأن قرب اجتياح عسكري جديد لمناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية شمال سوريا، وذلك منذ بداية الضربات الجوية المستمرة إلى اليوم لمواقع تلك القوات. بتنا نعرف الأسلوب التركي في «تسخين» الجو تمهيداً للعمليات المماثلة، ويقوم على نوع من جس نبض الفاعلين الدوليين في سوريا، روسيا والولايات المتحدة بصورة خاصة، والتصرف وفقاً لردود فعلها. وقد لاقى التسخين الحالي ردود فعل رخوة، بالقياس إلى السوابق، من واشنطن وموسكو معاً، فدعا الناطق باسم وزارة الدفاع الأمريكية تركيا للتراجع عن الاجتياح البري، فيما كان قائد القوات الروسية في سوريا يتباحث مع قيادات «قسد» في الشروط التركية للامتناع عن الاجتياح.
تتحدث تقارير صحافية عن تلك الشروط فتقول إن تركيا طالبت بانسحاب قوات قسد عن الحدود التركية بعمق 30 كلم، بما في ذلك بلدات كوباني ومنبج وتل رفعت، لتحل محلها قوات النظام السوري. هذا يناسب الروس الذين يريدون توسيع سيطرة النظام كلما سنحت الفرصة. وفي حال لم توافق قسد على الشروط التركية، يطالب الروس برأس هيئة تحرير الشام في إدلب مقابل الموافقة على اجتياح تركي للشمال وفقاً لبعض التقارير الصحافية. أما الأمريكيون فلم يكتفوا بالاقتصار على مناشدة الحكومة التركية، بل كذلك سحبوا دبلوماسييهم من مناطق الإدارة الذاتية إلى أربيل، في إشارة يمكن قراءتها تركياً على أنها غض نظر أمام اجتياح بري محتمل.
بقدر ما تزيد هذه المؤشرات من احتمالات وقوع الاجتياح البري، بقدر ما تشير أيضاً إلى احتدام البازار السياسي في الأروقة الخلفية، ليس بشأن الاجتياح بذاته فقط، بل كذلك بشأن السير قدماً نحو التطبيع السياسي بين تركيا ونظام الأسد. أحدث تصريحات بشار الأسد بهذا الخصوص: «نريد أن نرى أفعالاً لا أقوالاً» يشير إلى إنضاج الشروط إلى حد كبير تمهيداً للقاء سياسي مباشر بين الجانبين. في هذا الإطار يمكن قراءة الشرط التركي المتعلق بنشر قوات النظام في مناطق الانسحاب المطلوب من قسد بوصفه عربون «حسن نية» تقدمه تركيا للنظام لترجمة الأقوال إلى أفعال بشأن طي صفحة الماضي وفتح صفحة جديدة في العلاقات على حد تعبير اردوغان في طريق عودته من قطر.
وقد شطح الخيال بأحد الصحافيين الأتراك المخضرمين حد توقع «مصافحة عرضية» بين بشار وأردوغان في الدوحة، على هامش المباراة النهائية في كأس العالم، على غرار المصافحة بين الأخير وحاكم مصر عبد الفتاح السيسي على هامش يوم الافتتاح، بافتراض أن تتم دعوة كل من بشار وأردوغان لحضور المباراة النهائية. هذا السيناريو المتخيل يستند إلى أساس محلي هو أن الصحافي المشار إليه يرى أن الانتخابات البرلمانية والرئاسية ستجرى قبل موعدها المحدد مبدئياً بالثامن عشر من شهر حزيران المقبل، للالتفاف على مادة صريحة في الدستور التركي حددت حق الترشح إلى رئاسة الجمهورية بولايتين فقط، وبما أن أردوغان قد انتخب لولايتين سابقاً فلن يحق له الترشيح لولاية ثالثة. في حين أن صدور قرار من مجلس النواب بإجراء الانتخابات قبل موعدها يتيح لأردوغان الترشح لولاية ثالثة بلا عقبات.
من هذا المنظور يصبح ممكناً قراءة السياسة السورية لتركيا في تغيراتها المبكرة بالقياس إلى الموعد المعلن للانتخابات في حزيران. بمعنى أن استعجال الاجتياح البري أو ما يعادله من تحقيق الشروط التركية بلا اجتياح فعلي، وكذا تسريع مسار التطبيع مع النظام سببهما أن السلطة «تبيّت» لانتخابات مفاجئة قبل موعدها، لقطف ثمار هذه الخطوات في صناديق الاقتراع. أما سبب «التبييت» أي عدم الإعلان منذ الآن عن تقديم موعد الانتخابات فهو بهدف زج المعارضة في معركة انتخابية قبل أن تستكمل استعداداتها فتكون فرص خسارتها أكبر. والحال أن المعارضة الممثلة في «الطاولة السداسية» فعلاً غير مستعدة بعد لانتخابات مفاجئة، فهي ليست على انسجام كاف فيما بين الأحزاب الممثلة فيها، كما أنها تؤجل باستمرار الخوض في موضوع اختيار مرشح توافقي لمنصب الرئاسة. أضف إلى ذلك أن السلطة لم توفر فرصة لتشتيت هذا الائتلاف وزرع بذور الخلاف فيما بين أحزابه، ونجحت غالباً في هذا المسعى.
أحدث حلقات الجدل بما خص الموضوع الإشكالي بشأن حق ترشيح أردوغان لولاية ثالثة من عدمها جاءت على لسان ذئب السياسة التركية دولت بهجلي، زعيم حزب الحركة القومية، فقال الثلاثاء في خطابه الأسبوعي أمام الكتلة البرلمانية للحزب: «ليت الدستور يسمح بثلاث ولايات رئاسية من خمس سنوات لكل منها، لتندفع تركيا قدماً إلى موقع قيادي عالمي» وذلك في معرض تعليقه على مشروع الدستور الذي أطلقته «الطاولة السداسية» وجاء فيه تحديد ولاية واحدة فقط من سبع سنوات لمنصب الرئاسة. فسر هذا الكلام لزعيم الشريك الصغير للسلطة على أنه إقرار بعدم جواز الترشح لولاية ثالثة. مع العلم أن بهجلي كان قد سبق الحزب الحاكم نفسه في الإعلان عن مرشحه للرئاسة في شخص أردوغان. يترتب على جمع هذين الموقفين أن فتح الطريق أمام ترشيح أردوغان غير ممكن، من وجهة نظر بهجلي، إلا بإحدى وسيلتين: إما تعديل الدستور أو إجراء الانتخابات الرئاسية قبل موعدها. وإذ لا يكفي مجموع نواب العدالة والتنمية والحركة القومية لتمرير تعديل دستوري، لا يبقى إلا تقديم موعد الانتخابات.
فإذا صحت التوقعات بشأن تقديم موعد الانتخابات أمكننا قراءة جميع حملات السلطة الهادفة إلى استعادة شعبيتها، بما في ذلك العملية العسكرية في سوريا والاجتياح البري المحتمل أو إلغاؤه بتطبيق الشروط التركية، وكذا تسارع مؤشرات التطبيع مع نظام الأسد. فمن هذه الزاوية ليست هذه الحملات سابقة لأوانها، بل هي تمهيد في الوقت المناسب للطريق إلى الاحتفاظ بالسلطة.
المصدر: القدس العربي