ليس للطبيب أن يرفع الراية البيضاء أبداً، يجب أن يكون لديه ما يفعله تجاه المريض حتى اللحظة الأخيرة. تخطُر في البال هذه القاعدة في الطب، لدى متابعة مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى سورية، غير بيدرسون، في زيارته أخيرا دمشق (17 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري)، إذا كان ما يُلزم الطبيب بهذه القاعدة اعتبارٌ علمي ومهني، فإن ما يفعله بيدرسون من استمراره في إنعاش مسار اللجنة الدستورية المريض، أو قل الميت، مدفوعٌ بالأحرى بمصلحة خادعة للأمم المتحدة، وهي إيهام العالم بأن هناك ما يُفعل أممياً حيال المأساة السورية المزمنة، وربما مدفوعٌ أيضاً بمصلحة شخصية لبيدرسون، لا تتمثل في تحقيق إنجاز دبلوماسي يسجّل باسمه، فهو يدرك قبل غيره أنه لا إنجاز يُرتجى من مسارٍ عليل كهذا، بل تتمثل في الاستمرار باستلام مخصّصات شهرية بعشرات آلاف الدولارات كما يقال. وقد كان الرجل صريحاً في الإحاطة التي قدمها أمام مجلس الأمن في يونيو/ حزيران 2022، حين خاطب المجلس بالقول: “لا تنسوا سورية”، ما يشير إلى إدراكه أن الشأن السوري موضوعٌ على الرفّ أو منسي.
صرح بيدرسون، في زيارته هذه إلى دمشق، وعلى خلفية نسيان سورية، بأن “قرار مجلس الأمن 2254 لم ينجح حتى الآن”. إضافة عبارة “حتى الآن” لا تعدو كونها بعضاً من دبلوماسية التوهيم أو إشاعة أمل بأن القرار المذكور لم يمت، وأن العمل جار لتطبيقه. والواقع أن هذا القرار أصبح نسخة مكرّرة عن قرار مجلس الأمن الشهير رقم 242، مجرّد مخزون لفظي يتكئ عليه العاجزون، فيما يتستّر به القادرون لتمرير كل ما يجعله غير قابل للحياة.
يعطي تصريح بيدرسون مفتاحاً لوضع الأحداث التي شهدها أخيرا شمال غرب سورية ضمن إطار قابل للفهم. المقصود هنا بالأحداث تمدّد “هيئة تحرير الشام” إلى عفرين وتعاون فصائل ما يسمّى “الجيش الوطني” معها ضد فصائل أخرى، ثم انسحاب الهيئة “جزئياً” من عفرين بعد أن كانت تريد الوصول إلى أعزاز. يعطي الانسحاب الذي جاء بضغط تركي مباشر، وبضغط أميركي إعلامي، فكرة عن مهارة الهيئة في “احترام الكبار”، وفي سعيها إلى كسبهم وفق صيغة رابح – رابح، في بيئة سياسية وعسكرية معقّدة، باتت فوضاها مزعجةً لهؤلاء الكبار.
الاتجاه العام الذي ينظم حركة الوضع في شمال غرب سورية هو الخلاص من التشتت الفصائلي، والوصول إلى حالة شبيهة بما هو عليه الوضع في شمال شرق سورية، أي إدارة برأس سوري واحد، يستطيع ضمان الاستقرار. الفصيل الوحيد القادر على تولّي هذه المهمة هو هيئة تحرير الشام، ليس فقط لأنها أظهرت مقدرةً عسكريةً في وجه التشكيلات الأخرى، المعتدل منها والمتطرّف، بل أيضاً لأنها أظهرت قدرةً على ضبط الوضع الداخلي. ومن اللافت أن الإعلام التركي يمتدح الحياة في ظل الجولاني، قياساً على الحياة على الشريط الحدودي، حتى ساد لدى السوريين الذين يعيشون في هذا الشريط الخاضع لفصائل “الجيش الوطني”، اعتقاد ساذج يقول إن تجاوزات هذه الفصائل عملٌ مقصودٌ يهدف إلى إبراز أفضلية إدارة إدلب، قياساً على مناطق النفوذ العسكري الأخرى.
المشهد الفصائلي المحشو بالاقتتال البيني والفساد وكل صنوف التجاوزات التي تُغري بها السلطة البعيدة عن المحاسبة، بات عبئاً على الحاضن التركي. يصعب التخلّص من هذه الحالة عن طريق ابتلاع فصيل منها البقية، أولاً لأن هذا يحتاج دعما تركيا مباشرا لفصيل ضد البقية، الأمر الذي يولد ضغائن يمكن أن تفجّر الجسم الموحد في أي وقت. ثانياً لأنها تجعل التشكيل الجديد في التصوّر السوري العام، في المنطقة وخارجها، تابعاً مباشراً لتركيا. أي أن مثل هذا الخيار يمكن أن ينتج تشكيلا واحدا، لكنه سيكون ضعيف اللحمة الداخلية، وموسوماً بالتبعية السياسية المباشرة لراعيه. على ذلك، يحتاج تجاوز التشتت الفصائلي سيطرةً “سورية” من خارج الفصائل، وهو ما توفّره هيئة تحرير الشام.
في الواقع، تعرض الهيئة ثلاثة جوانب ترشّحها، في عيون الأطراف المتحكّمة بالشأن السوري، لأن تحوز السيطرة الكاملة على مناطق شمال غرب سورية. الأول الاستقلالية، فهي، على خلاف بقية التشكيلات العسكرية في المنطقة، مستقلة عن تركيا التي تضعها على قائمة الإرهاب. هذا بحد ذاته قيمة سياسية يمكن الاستثمار فيها استثماراً مجدياً، حتى من الجانب التركي نفسه، ولا تغيب هذه القيمة عن العين الأميركية. وقد كانت الهيئة على طول الخط تمتلك خطاً سياسياً مستقلاً ومخالفاً في نقاط عديدة للخط التركي، الذي حرصت فصائل “الجيش الوطني” وقيادات الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية على التطابق معه.
الجانب الثاني منبتها الإسلامي الأصولي الذي زوّدها بسند أيديولوجي متين لمواجهة باقي التشكيلات التي تستند جمعيها، بحدود متفاوتة، إلى المرجعية الإسلامية. وقوفها على الأرضية الأيديولوجية نفسها يسمح لها بتذويب التشكيلات عبر استقطاب كوادرها أو عبر تصفية هذه التشكيلات، مستفيدةً من تفوقها العسكري، بغطاء إسلامي يصعب على خصومها التشكيك فيه.
الجانب الثالث البراغماتية والقدرة اللافتة للجولاني في تبدية السياسي على العقيدي. في الحق أن هذه الصفة هي ما تعطي أهمية وقيمة للجانبين الأولين. ربما لو توفّر لدى الأمير السابق لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) أبو بكر البغدادي (قُتل في غارة أميركية في 26 أكتوبر/ تشرين الأول 2019) شيء من براغماتية الجولاني، لما انتهى تنظيمه هذه النهاية المأساوية التي تدفع ثمنها اليوم عائلات كاملة بالآلاف، باتت منبوذة ومعزولة كمرضى الجذام.
الجمع بين القدرة على ضبط التنظيم والاحتفاظ بتفوقه العسكري، وضبط المجتمع المحلي الواقع تحت سيطرته، وبين الاستعداد للتبدل وفق مقتضى الحال السياسي، هو ما يجعل الأطراف الدولية تأخذ الهيئة في الحسبان وتغض النظر عن تقييمها كتنظيم إرهابي… وليس من السهل الجمع بين التماسك التنظيمي والمرونة السياسية، ذلك أن “المبدئية”، أي ضعف المرونة السياسية، هي التي تشدّ الجسد التنظيمي، ولا سيما على مستوى القواعد، وما يمكن أن يحلّ هذه العقدة هو قناعة القواعد التامة بالقيادة، وهو ما استطاع تحقيقَه الجولاني فيما يبدو.
يتقدّم الجولاني في الشمال، فيما تتراجع الأمم المتحدة وتمهد لحلول “عملية”، أبطالها قوى الأمر الواقع التي تتبلور اليوم أكثر في شمال غرب سورية. يذهب “الانتقال السياسي”، ويأتي تقاسم السلطة. التغير الجدّي في المعادلة يحتاج إلى تغيّر جدّي في روسيا.
المصدر: العربي الجديد