مقامرة بوتين الأوكرانية وانعكاسها المدمر على إحدى الشراكات القديمة لبلاده. كان الامتناع الذي أبدته الهند في بادئ الأمر من إدانة روسيا، بسبب حربها على أوكرانيا، موضوعاً لسجالات وانتقادات كثيرة في الغرب. وفي منتصف مارس (آذار) الماضي قامت جين ساكي، وهي كانت تشغل منصب الناطق الرسمي باسم البيت الأبيض، بمناشدة الهند التفكير “في أي جهة تودّ أن تقف حين تتناول كتب التاريخ حوادث هذه الحقبة من الزمن”. كذلك أعرب عدد كبير من القادة والدبلوماسيين الدوليين عن نفاد صبرهم من الهند بسبب تشجيعها الفعلي للسياسة الروسية، وانسحابها من المشهد واتخاذها موقفاً محايداً.
ولكن بعض المحللين، وصناع سياسات سابقين في أوساط استراتيجية بـ نيودلهي، يصرون على أن مثل هذا اللوم ليس عادلاً، ولا يقدّر حق قدره دقة الموقف الذي اتخذته الهند تجاه الحرب. فوفق هؤلاء، ما فعلته الهند ليس سوى موازنة بين قوتين جيوسياسيتين متصارعتين، روسيا والولايات المتحدة. وهما، للمصادفة، شريكان من شركاء الهند الأساسيين. وإذا صح أن الهند اتخذت موقفاً لافتاً بامتناعها من التصويت في الأمم المتحدة على قرارات أساسية تتعلق بالحرب في أوكرانيا (في الجمعية العامة، ومجلس الأمن، ومجلس حقوق الإنسان، والوكالة الدولية للطاقة الذرية)، فهي شدّدت في المقابل لهجتها في المواقف التي أعلنتها تجاه الاجتياح (الروسي لـ أوكرانيا). فدانت قتل المدنيين وانتهاك السيادة الوطنية (الأوكرانية، بطبيعة الحال). ولـ نيودلهي، بحسب أصحاب الرأي المذكور، مخاوفها الخاصة في هذا السياق كونها لا تريد تقويض علاقاتها بموسكو ولا بواشنطن.
وإذا ألقينا نظرة مليّة على الأفعال والمواقف الهندية رأينا واقعاً مختلفاً كلياً. فالهند لا تساند الاجتياح الروسي، ولا توازن بين قوتين أساسيتين في علاقتها بهما. بل هي تنعطف انعطافاً خفياً وجوهرياً معاً في موقفها، وتقوم، على نحو بطيء وحتمي، بفك شراكتها مع روسيا.
وبدأت عملية إعادة النظر الهندية في موقعها السياسي قبل اجتياح أوكرانيا، ولم تفعل الحرب إلا تسريعها. وعلى رغم بقاء روسيا إلى اليوم مصدراً مهماً للمعدات العسكرية والطاقة إلى نيودلهي، إلا أن الأخيرة تتملّص شيئاً فشيئاً من الاعتماد على موسكو. فنزعة العداء لأميركا، وهي راسخة وتقوم مقام مبدأ أساسي في أوساط النخبة الهندية القديمة، آخذة في الأفول، والبلدان يتقاربان أكثر من أي وقت مضى. أما علاقات روسيا بالصين فباتت أقوى من السابق وذلك على قدر يوازي أو يعادل توتر علاقة الهند بالصين. فالاشتباكات الحدودية، عام 2020، بين البلدين المذكورين حملت الحكومة الهندية، والدوائر الاستراتيجية فيها، على اعتبار الصين خطراً وجودياً وداهماً على أمن الهند القومي.
وعلى هذا، فإن حدود الإطار الجيوسياسي المستقبلي واضحة، وتدعو الهند إلى الاقتراب من الغرب والولايات المتحدة وإلى التحوّط من الصين، وتنسحب في السياق نفسه من شراكتها القديمة مع روسيا. وهذا الانفكاك لن يحصل بين ليلة وضحاها، وسيبذل المسؤولون الهنود والروس جهوداً متناغمة لإبقاء العلاقة بين البلدين حية، ربما لسنوات مقبلة. لكن الدواعي الجيوسياسية المتزايدة سوف تعمل، على الدوام، على إبعاد الهند وروسيا الواحدة من الأخرى.
روابط بلا أواصر راسخة
وأدى قرار الهند زيادة مشترياتها من النفط الروسي، منذ بداية اجتياح أوكرانيا، إلى إثارة كثير من المعلقين والمتابعين الغربيين. ففي فبراير (شباط)، عشية بداية الحرب، كانت مشتريات الهند من النفط الروسي ضئيلة. وفي أبريل (نيسان) ارتفعت هذه المشتريات لتبلغ 389 ألف برميل في اليوم. وفي يونيو (حزيران) بلغ متوسط المشتريات المليون برميل. غير أن ارتفاع معدل واردات النفط ظاهرة انتهازية (أي مصلحية بالنسبة للبلد المعني). فروسيا منحت الهند تخفيضات كبيرة في الأسعار، كما فعلت مع زبائن آخرين. وفي مايو (أيار)، مثلاً، مكَّن شراء النفط من روسيا الهند من توفير مبلغ 16 دولاراً في البرميل الواحد، مقارنة بمعدل السعر الوسطي للواردات النفطية في ذلك الشهر. وأسهم النفط الروسي في تخفيف الضغوط الاقتصادية المزمنة في أعقاب جائحة “كوفيد”، وإثر ارتفاع أسعار التجزئة جراء الحرب في أوكرانيا. وأحرجت الانتقادات التي وجّهت إلى الهند المسؤولين، لا سيما أن معظم الدول الأوروبية استمرت في شراء بعض الغاز الروسي على الأقل – وأظهرت تمسّكاً بشرائه وامتنعت من التخلي عن تلك المشتريات.
إلا أن ثمة تحوّلات عميقة في مجالات أخرى. وبحسب “معهد استوكهولم الدولي للأبحاث حول السلام” كانت روسيا مصدر تسلّح الهند الأول في عقد السنوات الأخير. إلا أن نسبة الأسلحة الروسية من الترسانة الهندية تقلّصت، بين 2012 و2021، إلى النصف تقريباً. ومع مرور الأعوام حاولت الهند تنويع مصادر مشترياتها العسكرية، فاتجهت إلى مزوّدَين بديلين هما فرنسا والولايات المتحدة. ومع الاجتياح الروسي لـ أوكرانيا أرجأت الهند خطط شراء مزيد من الأسلحة من موسكو، منها صفقة شراء سلاح الجو 21 طائرة جديدة من طراز “ميغ 29”. وقال مسؤولون هنود، في مسألة التأجيل، إنهم قرروا ذلك دعماً للإنتاج المحلي. ولكن من الواضح أن الهند اتجهت إلى تقليص مشتريات الأسلحة الروسية. وأسهمت طبيعة النزاع الروسي – الأوكراني المتطاولة والمستنزفة في بعث مخاوف نيودلهي من نوعية المنتجات العسكرية الروسية وتردّي فاعليتها. وتتخوف الهند، على نحو خاص، في هذا الإطار من أن يعجز الروس عن تلبية طلباتها بحسب الجدول الزمني المقرر. إذ ينبغي أن تتسلم الهند معدات وقطع غيار جديدة لمعدات تملكها سلفاً، خصوصاً في أحوال الطوارئ.
وتصدر عن الهند، على مستوى السياسة العامة، إشارات مهمة. فبين مواقف المسؤولين في نيودلهي، حين ضمت روسيا القرم عام 2014، وبين مواقفهم من اجتياح أوكرانيا، في وقت سابق من هذا العام دلائل كبيرة على سعي الهند إلى الافتراق عن روسيا. ففي عام 2014 لم تصدر غير إدانة هندية خجولة للهجوم الروسي. والحق إن شيفشانكار مينون، وكان وقتها مستشاراً للأمن القومي، أصر على القول إن “هناك في نهاية المطاف مصالح روسية مشروعة”. ومن اللافت، اليوم، غياب جملة “مصالح روسية مشروعة” عن المواقف الهندية الأحدث والمتعلقة بالنزاع في أوكرانيا. وعلى رغم أن المسؤولين الهنود لم يسموا روسيا بالاسم، أو يدينونها في السياق الأوكراني، اتسمت مواقفهم منذ شهر مارس (آذار) وما بعده ببعد نقدي غير مباشر تجاه الأفعال الروسية. ودعواتهم الدائمة إلى احترام القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة ومبادئ سلامة الأراضي وسيادة الدول، قرينة على أن الهند، في الحقيقة، لا تعتبر الاجتياح الروسي لـ أوكرانيا مشروعاً.
يظهر الضيق الهندي بالقصف الروسي على المدنيين في أوكرانيا جلياً في مواقف المسؤولين الهنود. ففي يونيو أعربت الهند عن “إدانة قاطعة لقتل المدنيين في بوتشا” وأيدت الدعوة “لإجراء تحقيق مستقل”. وإلى هذا، اقترحت نيودلهي أن يفاوض الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مباشرة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي. وقالت إنه “لن يكون طرف منتصر في هذه الحرب، بل إن الجميع خاسرون”. وفي مواقف رسمية أخرى انتقدت الهند روسيا جراء تهديدها الأمن الغذائي والاقتصادي للعالم النامي. وفي أغسطس (آب)، صوتت الهند ضد روسيا للمرة الأولى في سياق المسألة الأوكرانية، وأيدت اقتراح دعوة زيلينسكي إلى مخاطبة مجلس الأمن عبر الفيديو. وفي أحدث المواقف، خلال قمة سبتمبر في سمرقند لـ “منظمة شانغهاي للتعاون”، عبّر رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي بوضوح عن استيائه من روسيا حين قال لـ بوتين إن “الزمن اليوم ليس زمن حروب”. والحق أن نيودلهي لم تتخذ موقفاً رسمياً مباشراً يدين اجتياح أوكرانيا، إلا أن الآراء الصادرة منها تعبّر عن استياء متصاعد من هذا الاجتياح.
ومن ناحية أخرى، وعلى قدر تشدّد رسائلها المعلنة تجاه روسيا، سعت الهند في تقوية علاقاتها بالدول الغربية. فعلى رغم استقبال الهند وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، في أبريل (نيسان) الماضي، ومحادثة مودي بوتين عبر الهاتف في يوليو (تموز)، كانت مبادرات الهند تجاه الغرب السنة الفائتة أكثر تواتراً وأهمية قياساً على الماضي. ومنذ مارس (آذار) استضاف مودي في نيودلهي كلاً من بوريس جونسون، رئيس الوزراء البريطاني آنذاك، وأورسولا فون درلاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، وكيشيدا فوميو، رئيس الوزراء الياباني. وحضر مودي، في شهر يونيو (حزيران)، قمة الدول السبع في ألمانيا إلى جانب قادة الولايات المتحدة والدول الأوروبية، والقمة الرباعية في اليابان في مايو (أيار)، التي تعرف أيضاً بالقمة الرباعية من أجل الأمن والسلام (أي الشراكة الرباعية بين المحيطين الهندي والهادئ التي تضم أستراليا والهند واليابان والولايات المتحدة). ومثل هذه الاجتماعات العالية المستوى مع قادة دول أساسيين تعقد تزامناً مع استعار الحرب في أوكرانيا، وأتاحت فرصة مناقشات مفيدة في موضوعات هامة، في وقت رأت الأمم المتحدة ضرورة عقد مناقشات من هذا النوع. وهذه الدبلوماسية تظهر بوضوح لا لبس فيه أن علاقات الهند بروسيا مجمدة عملياً، فيما روابطها مع الغرب (بما فيه الولايات المتحدة) توثّقت منذ مطلع الحرب في أوكرانيا.
تعاظم التباعد
النازع البطيء والثابت الذي أبعد الهند من روسيا ليس مفاجأة للذين راقبوا عن كثب العلاقة بين هذين البلدين. فعلى رغم التاريخ الطويل من الصداقة والتعاون العميق الذي يعود إلى حقبة الحرب الباردة، لم يعد البلدان حليفين طبيعيين. ولا يحصل التباعد لأن البلدين يريدان ذلك، بل لأن ليس في وسعهما إلا القيام به. لم يبق ثمة أشياء كثيرة تربط البلدين. وحوافز بقاء الهند وثيقة الصلة بروسيا قليلة خارج إرث علاقتهما القديمة القائمة على علاقاتهما الدفاعية (العسكرية) المتبادلة والآخذة بالتقلص. وفي عام 2021 قدرت قيمة المبادلات التجارية بين الهند وروسيا بنحو 13 مليار دولار. أما عدد الهنود الذين يعيشون في روسيا فهو أقل من 30 ألف شخص، وهناك عدد أقل من الهنود الذين يجيدون اللغة الروسية مقارنة بالحقبة التي شهدت ذروة الصداقة الهندية – الروسية في أثناء الحرب الباردة. وفي المقابل بلغ حجم التجارة بين الهند والولايات المتحدة 157 مليار دولار عام 2021، وهناك 4.2 مليون نسمة من أصول هندية يعيشون في الولايات المتحدة الأميركية.
والأمر لا يقتصر على ضآلة الصلات المباشرة بين الهنود والروس، أو على تقلّص العلاقات التجارية بينهما إلى حدود دنيا، إذ يضاف إلى هذا الأمر قلة اهتمام الجيل الهندي الجديد في دوائر رسم الاستراتيجيات بروسيا كدولة. ومجموع الخبراء الهنود بالشأن الروسي يتقلص. وكانت النخبة الهندية القديمة أكثر دعماً لروسيا، بيد أن منطق التقارب من موسكو شهد انحساراً في أوساط القادة الهنود الجدد والمفكرين الشباب – وهذا مسار ابتدأ مع نهاية الحرب الباردة وبات اليوم أكثر تبلوراً ووضوحاً. فروسيا، في نظر دوائر متسعة من الهنود، هي صديق يشهد اعتقاد جدوى صداقته تراجعاً وانحداراً نهائيين. وحين يفكر الهنود بشراكاتهم الاستراتيجية تُذكر روسيا في صيغة الماضي، بينما تُذكر الولايات المتحدة في صيغة المستقبل.
مع مرور الوقت سيستمر اعتماد الهند على روسيا بالتراجع فيما تتجه الدولة الهندية إلى مزوّدي أسلحة وداعمين عسكريين بدلاء، مثل فرنسا وإسرائيل والولايات المتحدة. وعلى رغم أن الأسلحة الأميركية غالباً ما تأتي مشروطة (على عكس الأسلحة الروسية أو حتى الفرنسية) فالأرجح أن يؤدي تنامي الثقة الدبلوماسية بين الهند والولايات المتحدة إلى روابط أمتن، وإلى مزيد من اتفاقيات شراء الأسلحة.
وثمة دائرة مهمة واحدة كانت روسيا فيها حليفاً مفيداً للهند، وهي مجلس الأمن في الأمم المتحدة. فغالباً ما تولّت روسيا مساعدة الهند في معارضة واستبعاد صنوف العقوبات، وغيرها من القرارات. إلا أن محللين كثيرين وصنّاع سياسات سابقين في نيودلهي اليوم يروون أن فرنسا، أو الولايات المتحدة، قد تساعدان الهند على صون مصالحها في مجلس الأمن. وإلى هذا قد يتعاظم القلق الهندي من أن تؤثر الصين، في مجلس الأمن، في تصويت روسيا التي تزداد ضعفاً. فالصين وروسيا اليوم هما أقرب الواحدة من الأخرى منهما في أي وقت سبق. وإنها مسألة وقت فقط قبل أن تؤثر الصين في استقلالية السياسة الروسية الخارجية جراء الحرب المنهكة. وإذا تكررت الاشتباكات بين القوات الهندية والصينية في مناطق الهمالايا الحدودية، مثلاً، قد تضغط الصين على روسيا لتوقف دعمها الدبلوماسي والعسكري للهند وتحجب عنها الذخيرة.
وقد أسهم الاجتياح الروسي لـ أوكرانيا في تسريع تنسيق وتحالف دوليين حاسمين، فاقتربت روسيا من الصين، بينما تتجه الهند نحو الغرب. ولو بذلت موسكو ونيودلهي جهوداً جادة لصون علاقتهما، فثمة عقبات بنيوية، مثل نمو الروابط الصينية – الروسية من جهة، والهندية – الأميركية من جهة أخرى، إلى التناقض بين الطرفين المذكورين، وهذه العقبات تسهم في خلق شرخ بينهما.
لكن يبقى أن موسكو ونيودلهي تملكان رصيد علاقة طويلة يحول دون افتراقهما الفوري في المستقبل القريب. فالهند لن تقدم على الافتراق الحاسم عن روسيا سريعاً. وقد تدوم علاقتهما أو تخبو لبعض الوقت في أسوأ الأحوال، ثم تُستأنف لبعض الوقت حين تُطوى تلك الأحوال. وتجاه هذا الواقع، على المتابعين والمعلقين الغربيين الانتباه إلى حركة الهند المعتدلة واعتبارها أكثر من مجرد مراوغة وتردد. فالهند ربما لم تتجاوز الخط، لكنها تستعد لتخطّيه.
*هابيمون جاكوب أستاذ مشارك للسياسات وقضايا نزع الأسلحة في جامعة جواهر لال نهرو ومؤسس “مجلس الأبحاث الاستراتيجية والدفاعية” الذي يعد واحداً من مراكز الفكر والأبحاث في نيودلهي.
مترجم من “فورين أفيرز”، 22 سبتمبر (أيلول)، 2022
المصدر: اندبندنت عربية