حرب الأفيون المعكوسة

عبد الحليم قنديل

   “لن تتكرر حروب الأفيون القديمة” ،  كان ذلك رد مسئول صينى على حملة الاستفزازات الأمريكية ضد بكين لتحميلها أوزار نشر جائحة “كورونا” .

  إشارة المسئول الصينى مفهومة ، وفحواها ظاهر ، وتنطوى على تحذير مباشر من مجرد التفكير فى حرب جديدة ضد الصين ، فلم تعد الصين تلك الفريسة السهلة ، التى كانت عليها قبل نحو قرنين من الزمان ، كانت الامبراطورية الصينية وقتها ، قد آلت إلى ضعف وتخلف عن أدوات الحرب والتنظيم الحديثة ، التى كان الغرب الأوروبى وقتها سيدها ومحتكرها ، واستخدمها فى بسط نفوذه الاستعمارى إلى أقصى الشرق ، وكانت بريطانيا العظمى رأس الحربة الاستعمارية الغربية ، وإن تركت مساحة لأدوار غريمتها فرنسا ، التى احتلت مناطق كثيرة فيما يعرف باسم “الهند الصينية” ، لكن تصفية الحساب التجارى والحربى مع المركز الصينى الامبراطورى المتداعى ، تولتها بريطانيا ، التى استخدمت قناعا اسمه مبدأ حرية التجارة ، وضاقت مواردها عن الدفع بالفضة مقابل شراء الحرير والبورسلين والشاى الصينى ، ولجأت شركتها “الشرقية” فى الهند المحتلة إلى حيلة خبيثة مدمرة ، هى الدفع بالأفيون مقابل البضائع الصينية ، ومدت حقول الأفيون فى “البنجال” الهندية وقتها ، وأغرقت الصينيين بالأفيون ، وإلى حد صار معه عشرات الملايين من الصينيين تحت إدمان الأفيون ، وقفز الرقم فيما بعد إلى ما يزيد على المئة مليون صينى مغيب بمخدر الأفيون ، وكانت سلالة “تشينج” الامبراطورية تحاول وقف الزحف ، وأخذ تدابير بالتحريم لمنع تدمير شعبها بالأفيون ، وكان ذلك سببا مباشرا لتجريد حملات عسكرية ضد الصين ، فيما عرف فى أربعينيات القرن التاسع عشر بحروب الأفيون الأولى والثانية ، التى انتهت إلى تجريد الصين من استقلالها ، وارغامها على التنازل عن موانى الساحل الشرقى تباعا ، بدءا بالتنازل عن “هونج كونج” لبريطانيا العظمى عام 1842 ، وإلى التنازل عن “تايوان” لصالح اليابان عام 1895 ، وفرض امتيازات تجارية ودينية لصالح فرنسا وبلجيكا والسويد والدانمارك ، ثم تقدم الولايات المتحدة الأمريكية والامبراطورية الروسية لأخذ نصيبهما من الكعكة الصينية ، وإلى أن انفجرت ثورة صينية شعبية أطاحت بحكم أسرة “مانشو” آخر سلالات الامبراطورية الصينية عام 1911 .

  ولم يكن العهد الجمهورى الصينى الناشئ مستقرا ، ولا هو بأفضل حال كثيرا من العهد الامبراطورى ، فلم تتوقف المطامع الأجنبية أبدا ، ولم يعش رمز الصين الوطنى “صن يات صن” طويلا ، وآل حزبه القومى “الكومنتانج” من بعده إلى سلفه “شيانج كاى شيك” ، وتعددت دورات الاندماج والانفصال والتحارب بين “الكومنتانج” والحزب الشيوعى ، وصارت الصين نهبا لغزوات العسكرية اليابانية الشرسة ، التى راح ضحيتها عشرات الملايين من الصينيين ، إلى جوار عشرات ملايين الضحايا فى الغزوات الغربية ، وقتل ملايين آخرين فى حروب الكومنتانج والحزب الشيوعى ، وإلى أن كانت نهاية الدراما الدموية فى عام 1949 ، مع زحف ماوتسى تونج وجيش التحرير إلى بكين ، وإعلان جمهورية الصين الشعبية ، فيما هرب شيانج كاى شيك إلى “تايبيه” بجزيرة تايوان ، وأعلن منها قيام الصين الوطنية ، وعلى أمل العودة إلى البر الرئيسى للصين ، وطرد الشيوعيين ، بدعم ومشاركة حربية نشيطة من الولايات المتحدة الأمريكية ، وهو ما لم ينجح أبدا ، فلم تستطع الولايات المتحدة الفوز فى الحرب الكورية أوائل الخمسينيات من القرن العشرين ، وكان الانقسام بين شمال وجنوب فى كوريا ، التى كانت تاريخيا من تراث الحضارة الصينية .

  وبالطبع ، لا يتسع المقام لشروح وتفاصيل المذابح الدموية المرعبة ، ولا لأحاديث المجاعات الصينية ، ولا لتخيل أرقام ضحايا الجوع بعشرات الملايين ، فلم تسلم الصين من نكبات الجوع ، حتى بعد ثورة ماوتسى تونج وحروبه الثقافية ، وسعيه لتحرير الصين من الخرافة والأمية ، ودفع الصين إلى عصر الصناعات الثقيلة ، واقتحام العصر النووى والفضائى ، لكن الصين الشعبية فرضت نفسها كحقيقة كبرى فى العصر الجديد ، وأرغمت واشنطن على الاعتراف بها فى النهاية ، عبر زيارة كيسنجر السرية الشهيرة إلى بكين عام 1971 ، والتسليم بمبدأ “صين واحدة” تمثلها بكين ، ومنحها واحدا من مقاعد “الفيتو” الخمسة فى مجلس الأمن الدولى ، كبديل عن “تايوان” ، التى ظلت أمريكا تستخدمها كمخلب قط ضد الصين ، وبارتكازات عسكرية وبحرية ، وبمناورات فى المنظمات الدولية التابعة للأمم المتحدة ، فقد كانت “تايوان” ـ مثلا ـ عضوا مراقبا فى منظمة الصحة العالمية بين عامى 2009 و 2016 ، وإلى أن طردتها الصين ، فبكين لا تعترف بوجود “تايوان” كدولة مستقلة ، بل تعتبرها جزء من الصين ، يتوجب ضمه بأى طريقة ، ولو كانت بالخطة الصينية المعروفة باسم دولة واحدة ونظامين ، التى استعادت بها “هونج كونج” قبل ثلاثين سنة وتزيد.

  والمعنى ببساطة ، أن حروب الأفيون لم تضع أوزارها بعد ، حتى وإن تنوعت صورها ، مع ميل دولى متزايد إلى التسليم بحقوق الصين ، طوعا أو كرها ، فلم تعد الصين الجديدة هى ذاتها قبل قرنين ، وحين أعلن ماوتسى تونج دولة الصين الشعبية ، قال بوضوح “لقد انتهى قرن الذل الصينى” ، ولم يعش ماو حتى يرى النهوض الأعظم للصين بعد وفاته عام 1976 ، فقد تحولت الصين إلى حقيقة العصر الكبرى اليوم ، وصارت صاحبة أكبر اقتصاد فى العالم بمعايير تقابل القوى الشرائية بالدولار ، وفيما غزاها الآخرون باسم مبدأ حرية التجارة ، فإنها تغزو الدنيا كلها ببضائعها الآن ، وصارت تستحوذ على 35 % من إجمالى التجارة العالمية ، وهو ما دفع أمريكا إلى الانكماش ، والاختباء وراء حواجز الرسوم الجمركية المضاعفة بجنون على البضائع الصينية ، فى محاولة لخفض العجز الأمريكى التجارى المهول ، فيما تواصل الصين قفزاتها الصناعية والتكنولوجية المذهلة ، وتضاعف وسائل الضغط دونما ضجيج ، فهى تملك ثلث ديون أمريكا الخارجية ، وتمد طرق “الحزام ” و” الحرير” ، وزادت تجارتها إلى أوروبا بنسبة 40% فى شهور الكورونا ، عبر طريق القطارات فائقة السرعة الممتدة من شرق الصين إلى أقصى غرب أوروبا ، واستثمرت نجاحها المبكر فى إنهاء وباء كورونا على أراضيها ، ومدت يد المساعدات السخية إلى عشرات الدول حول العالم ، وحتى إلى أمريكا نفسها ، وهو ما وضع صانع قرار واشنطن فى “خانة اليك” ، فقد صارت أمريكا هى مركز الوباء الأعظم ، ووفيات كورونا فيها ، تزيد على ربع إجمالى الضحايا فى العالم كله ، وكان الرئيس الأمريكى ترامب يمنى نفسه بنهاية سريعة للجائحة ، التى تهدد بحرمانه من تجديد رئاسته فى انتخابات نوفمبر 2020 ، وكان يتوقع أن يتوقف عداد القتلى الأمريكيين عند 65 ألفا ، وهو اليوم يرفع رقم المزايدة إلى المائة ألف ، ويحاول مداراة خيبته وخيبة واشنطن الثقيلة ، فبعد أن كان يشيد بالصين فى بداية الجائحة ، تحول إلى اتهام بكين ، والحديث الملتاث عن تصنيع فيروس كورونا فى معمل “ووهان” الصينى ، وعن تقارير مخابراتية وأدلة موهومة ، وهو ما سايره  فيه وزير خارجيته مايك بومبيو المدير السابق للمخابرات المركزية ، إضافة لتقارير هائمة توحى بها مخابرات “العيون الخمس” ، التى تضم أجهزة مخابرات دول المحورالأنجلوساكسونى (الولايات المتحدة ـ بريطانيا ـ كندا ـ استراليا ـ نيوزيلاندا) ،  وكان رد الصين حازما ، إذ وصفت هذه التقارير والتصريحات بالجنون ، فالفيروس طبيعى ، وليس من صنع بشر ، وهو ما يؤيده تماما أنتونى فاوتشى أكبر علماء أمريكا فى الوبائيات ، ومن قبله تقرير مدير مكتب المخابرات الوطنية فى أمريكا ذاتها ، ومن قبلهما علماء أوروبا ومايكل رايان مدير الطوارئ فى “منظمة الصحة العالمية” ، التى يتهمها ترامب بالعمالة للصين ، ويجمد إسهام أمريكا المالى فى موازنتها ، ويمتنع عن المشاركة فى مؤتمر مانحين ، دعت إليه المفوضية الأوروبية ، وجمعت عبره  نحو ثمانية مليارات دولار تعهدات لدعم التوصل إلى وتعميم اللقاحات ، وإلى حد بدت معه واشنطن كأنها “الزوجة المهجورة” ، التى تهذى بكلام غير مفهوم ، ولا تضمر سوى الحقد ضد التفوق الصينى المتصل ، والتهديد العبثى بمحاسبة بكين ، فيما لا تملك أمريكا أن تفعل سوى ما فعلت ، بعقوبات وحروب تجارة لا تفوز فيها ، وبتهديدات صاخبة ، لا تجدى قتيلا مع الصين الجديدة ، فليس بوسع واشنطن ، أن تشن حربا مسلحة ضد الصين النووية المتحالفة عسكريا مع روسيا ، والقائدة اقتصاديا لدول “تجمع شنجهاى” التى تضم نصف سكان العالم ، وليس بوسع واشنطن أن تكبح جماح التوسع الصينى التجارى فى الدنيا كلها ، ولا مقارعة دبلوماسية الصين الناعمة ، التى تلف قبضتها الحديدية فى قفاز من حرير صينى ، نفس الحرير الذى كان عنوانا لحروب الأفيون القديمة ، ومع فارق ملموس جدا ، هو أن “الأفيون” يأكل هذه المرة أدمغة الأمريكيين لا الصينيين ، إنها حرب الأفيون المعكوسة .

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى