في الثلاثين من آب/ أغسطس “اليوم العالمي لضحايا الاختفاء القسري“، تنظمه الأمم المتحدة كل عام للفت الانتباه إلى مصير الأفراد الذين سُجنوا في أماكن وظروف سيئة، ويجهل ذووهم كل شيء عنهم. ولطالما استخدمت عصابات الأسد الاختفاء القسري كسلاح في مواجهة معارضيها منذ استيلائها على السلطة، وكانت الوسيلة والأداة المفضلة لتحطيم إرادة المناهضين لها وترهيب الشعب بأكمله.
وإن كان الاختفاء القسري قد تم حظره عالمياً بموجب “الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري” التي دخلت حيز التنفيذ عام 2010 والتي تعتبر واحدة من أقوى معاهدات حقوق الإنسان التي اعتمدتها الأمم المتحدة، حيث تتولى منظمة العفو الدولية رصد حالات الاختفاء والاختطاف والقيام بحملات ضدها، فضلاً عن الانتهاكات والتجاوزات الجسيمة الأخرى لحقوق الإنسان في سورية. فمنذ بداية الثورة اعتمدت عصابات الأسد على مواجهة المتظاهرين السياسيين بحملات واسعة النطاق من الاعتقال التعسفي واستخدم الإخفاء القسري بشكل منهجي كأحد أبرز أدوات القمع والإرهاب التي تهدف إلى سحق الحراك الشعبي.
حيث شهدت السنوات الأولى من الحراك الجماهيري أعلى نسبة من المختفين قسرياً لأن المظاهرات كانت تجري بكثافة، كما أن المناطق التي أعادت عصابات الأسد السيطرة عليها شهدت مئات حالات الاختفاء القسري. مما يجعل النظام السوري الحالي في ظل سيطرة عصابات الأسد بأنه الأسوأ عالمياً في القرن الواحد والعشرين على صعيد إخفاء مواطنيه قسرياً. ولم يقتصر الاختفاء القسري على عصابات الأسد، فقد عمدت سلطات الأمر الواقع في المناطق الخارجة عن سيطرة هذه العصابات على ممارسة ذات الأسلوب مع معارضيها، حيث بلغ عدد المختفين قسرياً لدى داعش ما لا يقل عن 8648 شخصا بينهم 319 طفلاً و255 سيدة، وكذلك لدى تنظيم النصرة2287 شخصًا بينهم 37 طفلاً و44 سيدة، كما أن قوات قسد مازالت تحتجز ما لا يقل عن 3817 شخصاً بينهم 658 طفلاً و176 سيدة. وقد عد الاختفاء القسري من أبرز القضايا التي تشغل العديد من منظمات المجتمع المدني السورية وروابط المعتقلين وذويهم، إلى جانب العديد من الهيئات الدولية، ورغم كثرة المطالبات والجهود المبذولة للكشف عن مصير المعتقلين والمختفين قسراً، لم يشهد الملف السوري خطوات حقيقية، تسهم بتحقيق العدالة لآلاف ضحايا هذه الجريمة.
فمنذ جنيف 1 في عام 2012، ثم جنيف 2، تم النظر إلى الملف الإنساني على أنه غير قابل للتفاوض، بل هو إجراء ضروري لبناء الثقة، وعلى ضرورة فصل المسار الإنساني عن السياسي، لغاية الإسراع بتنفيذ الملف الإنساني حتى لا يكون موضوعاً للمساومة. حيث أن القرار 2254، لا يعني فقط مسار اللجنة الدستورية، بل يتضمن الافراج عن المغيبين قسرياً كما ورد في الفقرات (12 – 13 – 14)، وبالتالي فإن هذه القضية يجب ألا تتأثر بالعثرات التي تعترض طريق اللجنة الدستورية، وربما تكون الأكثر تأثيراً والأشد حساسيةً على عصابات الأسد، نظراً لما تنطوي عليه من انتهاكات وفظائع، ربما السوريون وحدهم من يدرك فداحتها، أضف الى ذلك أن تلك المسألة سوف تعيد إلى الأذهان الأعداد الهائلة من المفقودين الذين لا يملك الأسد جواباً مقنعاً حولهم. مما يجعل تطبيق هذه الفقرات من الوسائل الهامة لإضعاف هذه العصابات وزعزعة كيانها، حيث سيفتح هذا الملف أبواباً لن تغلق إلا بمحاكمة المسؤولين عن الجرائم التي لحقت بالمعتقلات/ين. لذلك فإن عصابات الأسد وداعميها يسعون للتحكم بهذا الملف وعدم فتحه للحماية من المساءلة عن الانتهاكات الجسيمة التي ارتكبت والجرائم ضد الإنسانية التي اقترفت في أقبية التعذيب.
ومما يلفت الانتباه في تقرير الشبكة السورية لحقوق الإنسان السنوي أن عصابات الأسد ومنذ مطلع عام 2018 قامت بتسجيل جزءً من المختفين قسرياً على أنهم متوفون عبر دوائر السجل المدني، وبلغت حصيلة الحالات الموثقة بحسب التقرير ما لا يقل عن 1072 حالة سجل بأنهم قد ماتوا جميعاً بينهم 9 أطفال وسيدتان منذ مطلع عام 2018 حتى آب/أغسطس 2022، ولم يكشف عن سبب الوفاة، ولم يسلّم جثامين الضحايا لأُسرهم أو إعلامها بمكان دفنهم.
ونظراً لهزالة دور “مؤسسات المعارضة” في إدارة هذا الملف وعدم فعاليتها في استخدام القرارات الدولية بتحقيق إنجازات فيه مما يخفف آلام معظم عائلات الحاضنة الشعبية للثورة، فقد برزت الحاجة إلى آلية إنسانية دولية مستقلة، تُعنى بالكشف عن مصير المختفين قسراً. يأتي ذلك بعد أن أوصت لجنة التحقيق الدولية المستقلة الخاصة بسورية، في 17 من حزيران/يونيو الماضي، الأمم المتحدة بإنشاء آلية ذات ولاية دولية، بشأن تعزيز الجهود الأممية لتوضيح مصير الأشخاص المفقودين والمختفين في سورية. وفي انتظار ذلك يتم العمل حالياً على تأسيس “بنك معلومات”، استناداً إلى معلومات جمعتها المنظمات السورية، والتحقق منها، وتستند هذه المعلومات إلى ما حصلت عليها روابط المعتقلين وذويهم من ناجين وناجيات حول أشخاص رافقوهم خلال فترة احتجازهم، ما يسهم بمساعدة العديد من العائلات بالكشف عن مصير أبنائهم، إضافة إلى مقابلات مع ضباط منشقين، للعمل على تحديد مواقع المقابر الجماعية المحتملة في سورية.
وإن كان المجتمع الدولي يمضي قدماً في معالجة قضية المختفين قسرياً، بخجلٍ وبخطوات بطيئة، حيث انتقل خلالها من التوثيق إلى التحقيق، ومن التحقيق إلى المساءلة، عبر تحريك دعاوى شخصية ضدّ رموز عصابات الأسد في عدد من محاكم أوروبا، إلا أننا ما زلنا بعيدين عن الإدارة الحقيقية لهذا الملف والارتقاء إلى الشعور بالمسؤولية عما تعانيه عائلات الأشخاص المختفين، لعدم معرفة إن كان معتقليهم ما يزالون على قيد الحياة. بتحويل هذا الملف إلى أداة لتقويض أركان عصابات الأسد، بدلاً من جعله مهمة وظيفية تقتصر على تزيين جدران المكاتب بصور لبعض المختفين قسرياً، أو إثارة هذه القضية في المؤتمرات الصحفية، إذ يجب علينا جعلها حقيقة شرط أولي لأي تحرك جدي لحل القضية السورية وللدخول في نقاش مع أي جهة للبحث عن حل سياسي، يعبر عن مصداقية هذه الجهات الدولية والإقليمية في إيجاد حل يمهد لمحاسبة جميع من أجرم بحق أبناء الوطن.
المصدر: اشراق