وصلني من أخ عزيز البيان الختامي للمؤتمر السوري الذي عقد في واشنطن يومي التاسع والعاشر من الشهر الجاري بحضور مجموعة من السوريين الأمريكيين، وبمشاركة عبر الاثير او بالتعليقات وبالمساهمات الكتابية من مجموعة من المثقفين السوريين المهتمين بمسار الثورة السورية والمتابعين لها، طالبا الراي في هذا البيان الذي تضمن عرضاً موجزاً للمخرجات العملية والسياسية ليومي المؤتمر، ولأسماء معظم المشاركين وكذلك المساهمين عن بعد، ثم للمبادئ العشرة التي شكلت ما دعي ب “الميثاق الوطني السوري”
ولا داعي للبحث في ضرورة اجتماع السوريين والتشاور بشأن بلدهم وثورتهم فهذا بات من الواجبات التي لا بد من السعي اليها، وتذليل العقبات التي تعترضها، خصوصا وقد وصل الوضع في سوريا: الشعب والثورة والمعارضة، الى حال من العطالة لابد من تخطيها.
وإذا كان من تساؤل حول هذا المؤتمر قبل النظر في بنود الميثاق المطروح فهو التساؤل الذي يتصل بقدرة مثل هذا المؤتمر على حمل مسؤولية طرح “ميثاق وطني سوري” تجمع عليه المعارضة السورية بأطيافها ومكوناتها ورؤاها المختلفة، ويكون بمثابة أرضية مشتركة تصلح لعمل مشترك.
بعد هذا التساؤل الذي قد لا نجد جوابا مريحا له، لا في الحضور، ولا في مخرجات المؤتمر، وبالنظر إلى هذا الميثاق كوثيقة مستقلة عن تلك الملاحظة، فإن الطابع العام لها موفق إلا في قضيتين، هما في نظري تمثلان ركنا ركينا في أي تصور لمستقبل سوريا، المستقبل الذي يمكن أن يجتمع السوريون عليه، أن يقوموا ببنائه، وأن يدفعوا الأثمان اللازمة للحفاظ عليه ولتنميته.
** القضية الأولى: ما يخص بالمسألة الدينية.
فقد عولجت هذه القضية على قاعدة دينية لا تتوافق مع طبيعة الدين الإسلامي، وهو دين الأغلبية في سوريا، الأغلبية التي لا يمكن للميثاق المطروح أو لأي قوة تريد أن تصنع في سوريا شيئا إيجابيا أن تتجاوز عليها أو على انتمائها الديني أو على احتياجات هذا الانتماء اجتماعياً.
الميثاق المطروح صيغ من رؤية قاصرة عن فهم هذه المسألة، لأنه عامل علاقة الدين الإسلامي بالمجتمع كما يعامل الغرب علاقة الدين المسيحي بالمجتمع، دون إدراك أنه ليس هناك في الإسلام “كنيسة”، تقوم برعاية أبناء هذا الدين، وتقديم الخدمات والاحتياجات، والوظائف، وتوضح لهم الحدود والمسارات الواجبة التي تحتاجها حياتهم الاجتماعية.
لم ينتبه واضعوا هذا الميثاق إلى حقيقة أن العلاقة بين الاسلام والدولة في جوهرها علاقة “اتصال وانفصال”، أو بتعبير آخر علاقة تميز عن الدولة، فلا هي تخضع لها، ولا هي تنفصل عنها. لذلك لا يمكن لهذا الطرح المعتمد في هذا الميثاق والقائم على الفصل بدعوى الحياد أن يبني حالة صحية داخل المجتمع.
كان يمكن قبول هذا الطرح لو كان المسلمون في سوريا “شيعة”، فالشيعة لهم مؤسساتهم الدينية والاجتماعية والمالية المستقلة عن الدولة، ولهذه المؤسسات سلطتها على أتباعها، وهي في كثير من الأحيان أقوى وأشد من سلطة الدولة ومؤسساتها، لكن هذا لا يتوفر للمسلمين السنة، وهم السواد الأعظم من مسلمي سوريا، ومن المسلمين في العالم كله.
كيف تكون الدولة حيادية تجاه الدين، وللدين صلة مباشرة وقطعية بقواعد الزواج، والأسرة، والإرث، والعبادات، وأزمانها، والأوقاف، والحرام والحلال، والآداب العامة … الخ. وهذه كلها تشكل ركنا أساسيا من حياة المجتمع السوري بكل أطيافه ومكوناته، التزاما بها، أو تأثرا بها.
** القضية الثانية تخص انتماء سوريا، أو هويتها.
الانتماء العربي، وهذا الانتماء له صلة باللغة، والتاريخ، والبنية السكانية، والجغرافيا السياسية، والحقوق الوطنية، والجولان، وفلسطين، والخطر الطائفي والعرقي الفارسي، لا بد أن نضع تعريفا واضحا صريحا لسوريا الوطن الذي نريد.
هذا يتصل اتصالا جوهريا ” بهوية الوطن والمواطن”.
من هو هذا السوري؟
ما هي هويته؟ ……هل اللغة عنصر من عناصر الهوية؟ …….هل التاريخ الذي يبني الذاكرة الجماعية للأمة عنصر من عناصر الهوية؟ ……هل الدين من عناصر الهوية؟
هل سوريا مساحة جغرافية محددة يعيش فيها الناس بحكم التجاور، أم أنها بيئة تفاعل وانتماء وارتباط تحقق لها كل شروط المجتمع الواحد من: لغة وثقافة وتاريخ وقيم ودين وسنن تفاعل، على مدى ممتد من الزمن، وتولد عن ذلك كله ارتباط خاص بين الناس ” السوريين”، وارتباط خاص بالوقائع والأحداث، ارتباط يصنع تاريخ هؤلاء الناس، وعلاقات طبيعية سلسة ومنتجة مع كل من توفرت لديه هذه المقومات من المجتمعات والشعوب المجاورة، وتولد عن ذلك كله إحساس بالانتماء إلى أمة حقيقية قادرة على تجسيد رؤاها في أشكال وصيغ من العمل المشترك تعبر عن هذا الانتماء، وتوفر لمكوناتها فرص التقدم والاستقلال والحماية.
ثم أذا كان المؤتمرون قد تداعوا لعقد اجتماعهم هذا نصرة للثورة السورية وللشعب السوري، وانتماء لهما، وتطلعا لعمل يخرج سوريا من كارثتها الراهنة، التي صنعها أول من صنعها النظام المستبد الطائفي الفاسد والقاتل، ثم وجدت كل الدول الأخرى فرصتها في تخريب سوريا والعمل على تفتيتها.
إذا كان هذا الهدف السامي المؤتمرين، فإن أول سؤال، وأهم سؤال يجب أن يطرح هنا، هو السؤال الذي يخص الثورة السورية، هدف الثورة السورية.
هل قامت الثورة السورية لتغييب دين المجتمع، وتغييب الانتماء القومي لسوريا؟
هل كان المتظاهرون في تظاهراتهم يحتجون على ” السلوك الديني” لنظام بشار الأسد، بالسلب أو الايجاب، زيادة أو نقصان، أم هل كانوا يتظاهرون احتجاجا على الانتماء العربي لسوريا، ويدعون إلى التخفف من هذا الانتماء، وإدارة الظهر له؟
هل قتل من السوريين ما قتل. وشرد ما شرد، ودمر من بلدنا ما دمر لنصل الى مثل هذه الصورة من سوريا المستقبل!
بعد أشهر من بداية الثورة، بدأ التيار السياسي الإسلامي مشواره في خطف الثورة السورية من أهلها، والدفع بالناس لتبني شعاراته مستخدما في ذلك ما أتيح له من مال وسلاح.
الآن، وبمثل هذه الرؤية وهذا التحرك تبرز محاولة منظمة من اتجاه آخر يريد أصحابها ـ بوعي أو بغير وعي ـ أخذ الثورة إلى اتجاه مناقض لذلك الاتجاه، وكلا الاتجاهين لا علاقة لهما بالثورة السورية واستهدافاتها.
في الميثاق المطروح إيجابيات كثيرة لا شك في ذلك، لكن فعالية هذه الإيجابيات سقطت نتيجة هذه المعالجة لأهم قضيتين راسختين في عقل وقلب ووجدان الشعب السوري، كل الشعب السوري، المسلم منه، والمسيحي، وحتى اليهودي إن وجد. وكل المكونات العرقية المؤمنة حقا بوحدة سوريا شعبا وأرضا.
مطلوب مراجعة هذه الموضوعات لأنه بدون ذلك سيبقى هذا التحرك تحرك شريحة “علمانية”، تريد أن تصوغ مستقبل الوطن على هواها، وأقطع بأنها لن تنجح، لأن أدواتها في تلك الصياغة غير ذات صلة مؤثرة بالسوريين أو بالشارع السوري العام. ومطلوب حتى تنجح مثل هذه المراجعة أن يحتضن هذا المؤتمر أو أمثاله كل الاتجاهات السياسية والفكرية والدينية التي يتشكل منها المجتمع السوري، حتى تكون مخرجاته ممثلة بحق للمجتمع السوري أو لمعظم توجهاته.
وتساؤلنا الأخير هو بين الإسلامية المفتعلة، والعلمانية المفتعلة، أما آن لثورة “الحرية والكرامة” السورية أن تنعتق، وتتخلص، وتتحرر، من محاولات الاختطاف، وأن تعود لأهلها وطبيعتها واستهدافاتها الأصيلة؟، لعلها بذلك تنتصر.